التاريخ وصناعة الرومانسية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تظل المدخلات الإنسانية جزءا لا يتجزأ من حركة التاريخ، فهي تتأثر به وتؤثر عليه، فالعلاقة تكون تبادلية في كثير من الأحيان، وهو ما حدث في أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، فلقد شهدت هذه الفترة بداية ظهور تيار قوي يمكن اعتباره امتدادا لفكر عصر النهضة ومعطياته والذي تحدثنا عنه في المقال السابق، فهو التيار الذي نشأ كرد فعل طبيعي لفكر التنوير ومعطياته والذي تسيد أوروبا في مرحلة ما بعد النهضة، فسعت الحركة الرومانسية للخروج من التلجيم الفكري والسور الحديدي لعلم المنطق الذي فرضه الكلاسيكيون الجدد الذين قدسوا العقل ورفعوه متجاهلين العاطفة والذين يقول فيهم الشاعر البريطاني العظيم كيتس إنهم «تزوجوا قوانين إلزامية مبطنة بقواعد ضيقة»، بينما انتقد آخر أرباب فكر التنوير بقوله «بلا حب أو كراهية أو فرحة أو خوف.. فلقد عاشوا حياة ما كان يجب لها أن تكون، فهم لم يتمنوا، ولم يهتموا، ولم يضحكوا ولم يبكوا، هكذا عاشوا وهكذا ماتوا..».

كرد فعل طبيعي لمثل هذا انطلقت الحركة الرومانسية في كل أعماق أوروبا تغزوها بروح مختلفة مبنية على المطالبة بعودة البشرية إلى إنسانيتها، فالإنسان ليس مجرد كائن مفكر ولكنه كائن يشعر ويتخيل ويتأمل، فهذه العناصر هي أساس هام لا يمكن إغفاله في التركيبة الإنسانية، فمباهج الحياة المبنية على الحواس كانت مسخَّرة لخدمة العقل ومشتقاته، فقال «غوته» أحد أعظم الكتاب الألمان «إن المشاعر هي كل شيء» بينما أكد الشاعر نوفاليس «إن القلب هو مفتاح العالم»، وبهذا الفكر انطلقت في كل أركان أوروبا حركة جديدة سيطرت على الشعر والفكر والفن والموسيقى وكل نواحي الحياة، فكرة هدفها الإنسان من خلال مشاعره وليس فقط عقله، هدفها إبهاج وإسعاد الإنسان بدلا من الضغط عليه بالفكر والمنطق كما كان في عصر التنوير، أو بالتخويف كما كان في العصور المظلمة وبدرجة أقل في العصور الوسطى؛ ومن خلال هذا التيار بدأ المفكرون يرون أن الحواس يمكن أيضا أن تؤدي بالإنسان إلى الحقيقة المطلقة تماما مثلما اعتمد أهل عصر التنوير على العقل كأداة للوصول إلى الحقيقة، لذلك كان من الطبيعي أن تركز هذه الحركة على الإنسان والفردية تماما مثل حركة النهضة في إيطاليا في القرنين الخامس والسادس عشر.

لقد حاول كثير من المؤرخين تبرير هذا التطور فأرجعوا ظهور هذا التيار لعدد من العوامل الأساسية التي يمكن ربطها بالتطورات التاريخية وذلك على النحو التالي:

أولا: يرجح الكثير بداية ظهور هذه الحركة إلى انتشار الحركات البروتستانتية في أوروبا وتثبيت فكرها مقابل الكنيسة الكاثوليكية وجبروتها، فكانت النتيجة الحتمية لهذا الصدام القوي هي تحريك المشاعر نحو الإنسانية المكبوتة على مر العصور، فحركة الثورة على الكنيسة فتحت المجال أمام التركيز على الإنسان، وقد جاء مع هذه الحركة الدينية بعد روحي اهتم بالروح بدلا من التركيز على الجسد الخارجي، وهو ما يقرب بشكل أو بآخر من الفكر الصوفي في الإسلام والذي دفع الناس للتقرب للخالق من خلال المشاعر والحب إلى جانب الطاعة والالتزام، فالتبادلية بين الفكر والحب مثلت بالنسبة للكثير أسمى أنواع الإيمان، وقد ساهم هذا التوجه في نشر فكرة العاطفة والإنسانية والتركيز عليها.

ثانيا: كان للتطورات التاريخية التي سبقت الحركة الرومانسية في أوروبا أسبابها في ظهور هذا التيار، فلقد انكسر في أوروبا «العهد المطلق» Absolutism، والذي منح الملوك الحقوق المطلقة بلا رقيب، وهو ما كرس من فكر الفردية، فلقد أصبح الفرد محل اهتمام السياسة والدين والمجتمع على حد سواء، الفرد على اعتباره الركن الأساسي في معادلة الحكم، وبالتالي بدأ الاهتمام بإنسانيته كخطوة تالية للاهتمام بعقله وقدراته الفكرية، فأصبح الفرد هو الهدف.

ثالثا: لقد كانت الثورة الفرنسية عاملا محوريا في ظهور الحركة الرومانسية في أوروبا، فلقد أدت هذه الثورة إلى الخروج عن التقاليد المعروفة لفكرة الحكم ومشتقاته، فقد أدخلت هذه الثورة أبعادا إنسانية قوية في المعادلة السياسية ممثلة في حقوق الإنسان، كما أن فكرة الدستور والذي يمثل العقد السياسي بين الرعية والحكام أصبحت تتجه نحو الاهتمام بالفرد، وكل هذا انعكس بشكل مباشر على رفع قيمة الفردية، بالتالي كان رد الفعل المتوقع هو أن يتجه الفكر والفن نحو الإنسان.

ولقد تمثلت الحركة الرومانسية في أوروبا في عددٍ من المحاور الفكرية والفنية والأدبية، فكان أول ملاذها الطبيعة والعودة إلى الطبيعة باعتبارها أساس الإنسان، وهو ما استلزم في مناسبات كثيرة البعد عن الحضارة وما تمثله من عبء فكري وموروث ثقافي ثقيل، فكان النظر إلى الطبيعة على أنها البساطة والتبسيط في الفكر والمشاعر، وهو ما دفع إدوارت فيتزجيرالد لأن يقول مقولته الشهيرة «لقد رأيت الطبيعة بكل أشكالها.. وكلما كانت متوحشة كلما كانت ذات فضيلة»، وهذا التوجه لا يختلف كثيرا عن نفس التوجه الذي ظهر في عصور النهضة، وقد تمثلت هذه الرومانسية في مظاهر اجتماعية وسياسية مختلفة منها التوجه نحو الطبقات الدنيا والعمالة البسيطة ومحاولة الرفع من شأنها فضلا عن السكان الأصليين في مستعمرات الدول الأوروبية من أمثال الهنود الحمر والعبيد الخ..

يضاف إلى كل هذه الأبعاد لجوء عدد من أرباب الفكر الرومانسي إلى العصور الوسطي في أوروبا كمصدر للإلهام، وعلى الرغم مما كانت تمثله هذه العصور من ظلام سياسي فإنها كانت منبعا هاما للغاية للاستلهام العاطفي والرومانسية، خاصة ما يتعلق منها بفكرة الفروسية والنبل والأخلاق الرفيعة، فمفهوم الفروسية وما مثله من قيم إنسانية وعاطفية طغت على مشاعر كثير من المفكرين والفنانين في ذلك الوقت بشكل كبير، وهو ما شابه بشكل ملحوظ ما حدث في هوليوود خلال فترة الخمسينات والستينات باللجوء إلى الشخصيات التاريخية ومفهوم الفروسية لمحاولة تثبيت أوجه رومانسية وفكرية محددة.

ولكن الحركة الرومانسية بكل ما مثلته كانت لها مظاهر وآثار عظيمة على مدار سبعة أو ثمانية عقود شكلت خلالها جزءا هاما من وجدان الإنسانية بموسيقييها ومفكريها وكتابها كما سنرى في الأسبوع المقبل.

* كاتب مصري