محمد البرادعي سعد زغلول ثورة يناير

حصان الرهان للتحول الديمقراطي الحقيقي في مصر

TT

في منتصف فبراير (شباط) الماضي، وفوق خشبة مسرح في برلين، طبع الدكتور محمد البرادعي المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، قبلة على وجنة النجمة الأميركية أنجلينا جولي، وقد غدت هذه القبلة الخاطفة مسألة سياسية في مصر.

قوى الإسلام السياسي المطمئنة داخل خطابها المحافظ اعتبرتها دليلا آخر على فساد الأفكار الليبرالية التي يروج لها البرادعي، أما الخصوم السياسيون للرجل السبعيني فقد رأوا فيها سوء تقدير وخطأ جديدا في سجله الحافل بالهنات، والبعيد عن هموم وواقع بلاده، فيما كان شباب الثورة الأكثر راديكالية يموجون غضبا، فالدبلوماسي المتأنق كان لتوه قد أعلن تراجعه عن خوض الانتخابات الرئاسية وقد تركهم في قبضة الإحباط، للمشاركة في مهرجان «السينما من أجل السلام».

لكن بالنسبة لقطاع عريض من الشباب حديث العهد بالسياسة والمخلص لفكرة الحرية، كانت قبلة أنجلينا جولي تعادل إحراز المنتخب المصري لكرة القدم هدفا في مرمى البرازيل، وبعد أن كانوا قاب قوسين أو أدنى من فقدان روح السخرية التي ميزت ثورتهم.. ها هو «البوب» كما يحلو لهم أن يلقبوه، يغدق عليهم من جديد كراماته فيستعيدون بقوة روح الفكاهة. وكعادته يمسح صاحب نوبل للسلام (البرادعي) آثار غبار المعارك الهامشية عن عدسات نظارته دائرية الإطار، والتي تضفي عليه سمت غاندي دون تكلف الزهاد. فـ«القديس» كما يلقبه أنصاره أحيانا، لا يعبأ كثيرا بالهجمات الشرسة التي اعتاد عليها منذ أن قرر العودة للبلاد مطلع عام 2010، ليقود جيلا جديدا سيقدر له النجاح بعد عام واحد فقط، في إسقاط واحد من أكثر النظم استقرارا في الشرق الأوسط. وفيما يشبه الأحجية نسج «البوب» كاريزما خاصة بلا سبب واضح، فلا هو يملك تاريخا نضاليا كغيره من رموز المعارضة في البلاد، ولا سلطة روحية يوظفها في ميدان السياسة، ولا يملك سحر الخطابة الذي يلهب حماس الثوار.

لكنه وفي لحظة الجد حين تبدأ معركة الثوار مع النظام منذ الرئيس السابق حسني مبارك وحتى الرئيس الحالي محمد مرسي.. في لحظة الدم، يتصدر البرادعي المشهد.. يقول البوب: «إنها ليلة الجمعة في ميدان التحرير، ولا تزال رائحة الغاز المسيل للدموع عالقة في الجو، بعد أن أكملنا ثلاث مظاهرات كبرى في أسبوع (الأسبوع الماضي)، والعديد منا يتحضرون لقضاء الليل بالميدان. وجدت نفسي حينها أتساءل هل هذا هو أفضل ما يمكننا فعله بعد 23 شهرا من النضال لأجل الديمقراطية في مصر؟». في هذا الأسبوع بالذات كان البوب قد قرر البقاء في الميدان خشية هجوم شركاء الثورة السابقين جماعة الإخوان المسلمين، وبات ليلته في خيمة الاعتصام. كان الرئيس مرسي قد أصدر الشهر الماضي إعلانا دستوريا وصفه البرادعي بـ«الديكتاتوري»، وقفز الرئيس الإسلامي إلى الاستفتاء على دستور مطعون في الجمعية التأسيسية التي كتبته ولا يحظى بالتوافق، ومنذ هذا التاريخ باتت البلاد على شفا حرب أهلية، عقب اشتباكات بين أنصار مرسي ومعارضيه سقط خلالها 5 قتلى.

لكن البوب حاز فضيلة الشبه بغاندي، وبدأ موجة من الاحتجاجات السلمية، واستعان بالتاريخ المصري الحديث، فدشن حملة جمع توقيعات على بيان حمل سبعة مطالب، فبدا وكأن طيف سعد زغلول زعيم الوفد المصري المطالب بالاستقلال عن الإنجليز بدايات القرن الماضي ومفجر ثورة 1919، يعود إلى القاهرة، لكن من دون أن يملك البوب سحر الخطيب المفوه سعد زغلول وهو أكثر ما ميز أهم زعيم ليبرالي عرفته البلاد. يقول زياد العليمي القيادي في ائتلاف شباب الثورة المحرك الحقيقي لمظاهرات 25 يناير 2011، إن «ما يميز البوب هو صدقه في الدفاع عن مبادئه»، ويتابع العليمي المقرب من البرادعي «أثبت البرادعي دائما أنه يملك رؤية ثاقبة بالدفاع عن مواقفه المبدئية». يضيف الناشط السياسي محمد الزيات عضو حزب الدستور: «كلما اتخذ البرادعي قرارا طوال السنتين الماضيتين بدا لنا خاطئا، لكن الوقت كان كفيلا بأن يكشف عن سوء تقديرنا وصواب تقديره». الانتقادات الواسعة التي لاحقت البرادعي بشأن غيابه عن المشهد السياسي، واكتفائه بالنضال الإلكتروني عبر تغريداته على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، من فيلته الفاخرة على أطراف محافظة الجيزة المتاخمة للعاصمة، هذه الانتقادات ربما تتجاهل حقيقة أن البوب كان عند مفاصل اللحظات الحرجة كان يتصدر المشهد بامتياز.

في مساء الخميس 27 يناير (كانون الثاني) 2011 كان قيادات شباب الثورة يتبادلون عبر رسائل تليفونية مشفرة المكان الذي سينطلق منه البوب ليقود مظاهرات جمعة الغضب، بعد أن عاد لتوه من رحلة خارجية ليتصدر المشهد السياسي في البلاد، لكن السر الذي حاولوا الحفاظ عليه بات معروفا، البرادعي يصلي في مسجد الاستقامة بميدان الجيزة. كانت الهمهمات قد سرت قبيل خطبة الجمعة في مسجد الاستقامة «هو البرادعي جه (جاء)؟»، وكان معظم من صلى داخل المسجد لم يعرف أن البوب في الخارج بالفعل. وقبل أن يتمكن آخر مصل من الخروج من صحن المسجد كانت قوات الشرطة قد فتحت خراطيم المياه على البرادعي، فبدا كشيخ عاجز مذهول لكنه يملك إرادة الأباطرة، وفي هذه الليلة كانت الثورة المصرية قد نجحت ولم يبق إلا رتوش المشهد الأخير.

ظل اسم محمد البرادعي مجهولا في مصر على نطاق واسع حتى عام 1997، فالدبلوماسي الذي التحق بوزارة الخارجية في ستينات القرن الماضي بعد أن نال ليسانس الحقوق في جامعة القاهرة، وترقى حتى أصبح مساعدا لوزير الخارجية إسماعيل فهمي، لم يكن له أثر يذكر في المجال العام، وباستثناء استقالته من وزارة الخارجية اعتراضا على بعض بنود اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، ولم يسمع المصريون به إلا حين تبوأ المنصب الأرفع في الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

يقول أحد أنصار البرادعي في ميدان التحرير: «كنا في ذلك الوقت نظنه عالم فيزياء نابها كغيره من العلماء المصريين في الخارج مثل أحمد زويل.. هذا الالتباس جاء من كونه مديرا لوكالة الطاقة الذرية». سيعود اسم البرادعي من جديد على استحياء في 2004 لكن هذه المرة من خلال تخليد اسم والده «مصطفى البرادعي»، بإصدار طابع بريدي تكريما لدوره كنقيب للمحامين سنوات الستينات. كان مصطفى محاميا جسورا دافع عن حرية الرأي والتعددية الحزبية في زمن القبضة الحديدية للرئيس الراحل جمال عبد الناصر. يقول محمد البرادعي عن والده: «كانت الناس تخاف أن تسند لوالدي القضايا لكن أحدا لم يستطع اعتقاله أو حبسه لأنه كان رجلا نظيفا وكان سعيدا وهو يدفع الثمن مقابل مبادئه».

وبعد سنة واحدة فقط ستصدر الهيئة العامة للبريد طابعا تذكاريا آخر لتخليد ذكرى «البوب» نفسه، الذي أصبح رابع مصري يحصل على جائزة نوبل عام 2005، قبل أن يقلده الرئيس السابق حسني مبارك «قلادة النيل» أعلى وسام في البلاد، في لحظة فارقة في تاريخ البلاد التي كانت المعارضة فيها تستعد للحصول على أعلى نسبة تمثيل في تاريخها داخل البرلمان. وعلى وقع تنامي حركات المعارضة في الشارع المصري حينذاك، وأبرزها الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية)، وبالإضافة إلى تعديل الدستور بما يسمح بانتخاب رئيس الجمهورية عبر الاقتراع السري المباشر، بدأ جيل من الشباب في البحث عن وجه يصلح لخوض الانتخابات الرئاسية، متحديا نغمة اعتمدها حزب الرئيس السابق حسني مبارك، وتلخصت في جملة موسيقية واحدة: «لا بديل للرجل (مبارك)»، على خلفية إيقاع منتظم لرجل الأعمال القوى في الحزب الوطني، عازف الدرامز السابق أحمد عز، والتي ضبط بها صعود نجم جمال نجل مبارك.

كان البرادعي ينافس اسمين آخرين هما عالم الفيزياء زويل وعمرو موسى الذي كان يشغل حينها منصب الأمين العام للجامعة العربية، كبديل لمبارك الذي وهنت قبضته وترك بحسب مقربين من دوائر قصر العروبة أمر إدارة البلاد لنجله جمال. ومع إجراء مبارك تعديلا جديدا على المادة 76 بدستور 1971، والخاصة بشروط الترشح للرئاسة، قصد به تمهيد الطريق لخلافة نجله جمال، ووضع شروطا شبه مستحيلة للترشح، احتدم الجدل بشأن نوايا النظام في توريث الحكم في البلاد، وبدا أن البرادعي أقرب الأسماء التي يمكن الدفع بها لمنافسة الوريث. أفاق نظام مبارك المتخم بالثقة وبرجال أعمال نافذين على تصريحات البرادعي في مقابلة تلفزيونية أجراها مع شبكة «سي إن إن» الإخبارية الأميركية عام 2009 قال فيها: «سأدرس إمكانية الترشح لخوض الانتخابات الرئاسية قي مصر إذا وجدت ضمانات مكتوبة بأن العملية الانتخابية ستكون حرة ونزيهة».

كانت هذه هي المرة الأولى التي يبدي فيها البوب نواياه بشأن المستقبل الذي كان يقرع أبواب مصر بقوة، وبضربة واحدة تحولت أوهام رواد مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت والتي بدأت تحتل مكانة بارزة إلى جانب المدونات منذ الدعوة لعصيان مدني في 6 أبريل (نيسان) 2008، إلى ممكن. وفيما يشبه النبوءة عاد البرادعي إلى القاهرة في يوم الجمعة 19 فبراير 2010 (شباط)، قبل نحو عام من جمعة الغضب التي أسقطت مبارك في 11 فبراير 2011. عاد «البوب» بينما كان قيادات الشباب الذين سيقودون مسيرات 25 يناير يحشدون لاستقبال شعبي حافل للرجل الذي بدا حتى ذلك الوقت المنافس الأكثر بروزا للرئيس مبارك في انتخابات كان مقررا لها نهاية 2011. استقبل أكثر من ألفي مصري البرادعي في مطار القاهرة، وبمقاييس ذلك الوقت كان هذا حشدا قد لا يقلق نظاما راسخا في الحكم، لكنه أكبر مما كان متوقعا بما يثير علامات استفهام، ستتحول لموجة من هجوم قاس.

وعقب حوارات تلفزيونية بدا فيها البرادعي مفتقرا لمقومات الزعامة السياسية، اجتمعت القوى السياسية لتعلن تأسيس الجبهة الوطنية من أجل التغيير بزعامة البرادعي، وبمشاركة جماعة الإخوان المسلمين، وفي صورة تذكارية عقب الإعلان عن تدشين الجبهة، جلس البوب محاطا برموز القوى السياسية ومن بينهم حمدين صباحي الذي حل ثالثا في الانتخابات الرئاسية وينتزع بكاريزميته وحدها لقب الحصان الأسود على ساحة العمل الوطني، والقيادي الإخواني الدكتور سعد الكتاتني الذي أصبح لاحقا أول رئيس للبرلمان بعد ثورة 25 يناير. لن يدوم التحالف بين جماعة الإخوان المسلمين والبرادعي، وفي نهاية عام الثورة الأول، وبينما يسيل الدم من جديد في شوارع القاهرة فيما سمي إعلاميا بموقعة «مجلس الوزراء»، كشف البرادعي الأسبوع الماضي عن حديث سري دار بينه وبين المشير حسين طنطاوي الذي كان حينها رئيسا للمجلس العسكري الحاكم آنذاك، قال له فيه: «جماعة الإخوان وضعت فيتو على اسمك.. لا يمكننا تكليفك بتشكيل وزارة ائتلاف وطني».

لكن قبل عام واحد فقط من هذه الواقعة كان الجميع بمن فيهم جماعة الإخوان يعيدون إلى الأذهان ما حدث في 1919 حيث جمع المصريون توكيلات لسعد باشا زغلول لمنحه شرعية تمثيل بلاده في مفاوضات الاستقلال. وهكذا دشنت الجمعية الوطنية للتغيير حملة توقيعات على بيان يحمل مطالب محددة من بينها تيسير شروط الترشح لرئاسة الجمهورية، إلغاء العمل بحالة الطوارئ التي ظلت سارية طوال العقود الثلاثة التي حكم خلالها مبارك، بالإضافة لمنح المصريين في الخارج حق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية.

يقول حسن نافعة الذي كان حينها منسقا عاما للجمعية الوطنية للتغيير: «بدأ البرادعي سلسلة من الجولات أيام الجمع في مساجد القاهرة والمحافظات، بما مثل تهديدا حقيقيا لنظام كان يستعد لتوريث الحكم. لكن سرعان ما دبت الخلافات بين رموز وقيادات الجمعية والبرادعي الذي فضل أن يظل بعيدا عن حواراتهم ويحتفظ لنفسه بمسافة كافية عن فعالياتهم، بالإضافة لسفره المتكرر الذي اعترض عليه نافعة بشدة. بوادر الشقاق بين رموز الجمعية والبرادعي الذي أعلن أنه ليس رئيسا لها، وأنه سيواصل العمل إلى جانب الشباب بعيدا عن صخب النخبة السياسية وضجيجها، كانت بابا واسعا لتمهيد قصف منظم في وسائل الإعلام المملوكة للدولة على شخص البرادعي طال ابنته.

ففي سبتمبر (أيلول) 2010 نشرت عدد من الصحف المصرية، صورا عائلية خاصة لأسرة البرادعي، بعدما بثتها «صديقة مجهولة» لابنته ليلى عبر صفحتها على موقع «فيس بوك»، وادعى الإعلام الرسمي حينها أن ليلى البرادعي متزوجة من شخص بريطاني مسيحي، وهو يخالف الشريعة الإسلامية، وهو الأمر الذي ثبت خطؤه فيما بعد. كما قدم الإعلام الرسمي الذي تغنى بـ«البوب» بعد حصوله على جائزة نوبل، صورة مختلفة للرجل، فحملوه مسؤولية الحرب على العراق باعتباره من تولى الإشراف على الملف النووي العراقي، وخاض شباب الثورة غمار معركة إعلامية كبرى لتفنيد ما وصفوه بـ«أكاذيب إعلام النظام».

لكن أحدا لم يدرك أن بائع الخضر (بوعزيزي) في مكان قصي من العالم العربي سيحمل الربيع إلى بلدان قاست شتاء الجمود الذي بدا أبديا، حتى أولئك الذين دعوا بالفعل قبل سقوط نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي لمظاهرات يوم عيد الشرطة للمطالبة بإصلاحات ديمقراطية وإقالة وزير الداخلية حبيب العادلي. ما كان أحد يدرك أن الحريق على الأبواب.. وأن الربيع ينتظر.

قال البرادعي في مقال له قبل أيام نشرته صحيفة «الفايننشيال تايمز»: «شهدت مصر منذ عامين صحوة مذهلة، ولكن وبشكل مدهش يعتقد الرئيس مرسي الآن هو وجماعته أنهم ببضع جرات قلم يمكنهم أن يرجعونا إلى حالة الغيبوبة مرة أخرى. هذا لن يحدث وإذا استمروا في المحاولة فإنهم يغامرون بإطلاق موجة عنف وفوضي سوف تدمر نسيج المجتمع المصري».