الحضارة السومرية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

من أكثر الحضارات القديمة التي أثرت في المنابع الأساسية لنهر الحضارة الإنسانية إلي جانب الحضارة المصرية كانت حضارات ما بين النهرين، والتي كانت مركزها المنطقة ما بين نهري دجلة والفرات، وهو أمر منطقي من نظرة علم الجغرافيا السياسية لأن هذه المنطقة كانت من أخصب المناطق الزراعية في العالم مشفوعة بنظام طبيعي للري مبني على كم هائل من المياه المتدفقة، وهو ما فتح المجال أمام حضارة متوطنة Sedentary مبنية على الزراعة، ومن ثم فإن مثل هذه المجتمعات يسهل فيها بناء الحضارة والفكر والنظم السياسية والاجتماعية أكثر من غيرها.

ويلاحظ من الوهلة الأولى أن حضارات ما بين النهرين لم تكن مستمرة على نحو الحضارة الفرعونية على سبيل المثال، بل إنها ارتبطت بالتنظيمات السياسية المرتبطة بتوازن القوى بين القبائل، فتارة نجد هناك دولة مزدهرة تضم عددا من الأقاليم مثل الدولة السومرية، وتارة أخرى نجد هناك حالة من الفرقة والاستقلالية بين الأطراف والقبائل المختلفة، ففكرة الاستمرارية السياسية كانت مرهونة بقوة الدولة التي كانت تستطيع أن تفرض السيطرة على المنطقة، وفي كل الأحوال، وباستثناء الدولة الآشورية، فإن أغلب الدول المتعاقبة لم تستطع أن تفرض هيمنة كاملة على هذه المنقطة، وهو ما يمكن أن يكون سببا مباشرا في التناثر الديموغرافي لهذه المنطقة والاختلافات الإثنية والعرقية التي ورثتها هذه المرحلة حتى يومنا هذا، وهو ما أدى لنوع من التففت السياسي والحضاري على حد سواء، حتى وإن كانت كل دولة أو قبيلة تقتبس من التي سبقتها قواعد أساسية استندت إليها في تنظيم شؤونها.

لقد كانت الحضارة السومرية هي أحد أهم ما أنتجته هذه المنطقة الخصبة فكريا وسياسيا، فتشير مصادر تاريخية كثيرة إلى أن الأصول السومرية ترجع إلى قبائل هاجرت من وسط آسيا في الألفية الرابعة واستوطنت في هذه المنطقة، واستمر وجودهم لفترات زمنية طويلة ممتدة ولكنهم خضعوا في منتصف الألفية الثالثة إلى حكم ملك معروف باسم «سارجون الأول» الملك الأكادي، ولكن بموته استوعبت الحضارة السومرية مرة أخرى خصوصيتها شأنها شأن الحضارات القوية المتأصلة، وقد بدأت مرة أخرى الحضارة تزدهر بحلول القرون الثالث والعشرين قبل الميلاد في هذه الدولة.

لقد كانت المساهمة السومرية هامة للغاية في المنظومة الحضارية، فلقد أدخلت هذه الدولة نظام الكتابة وطورت المنظومة الدينية على أسس روايات وقصص، كما أن نظامها السياسي كان مبنيا على أساس أشبه ما يكون للكونفيدرالية التي ترتبط بالعاصمة «أوور» خاصة عند التعرض لعدوان خارجي، ويذكر التاريخ للملك «دونجي» أكثر ملوك هذه الدولة تأثيرا أنه أول من وحدهم في دولة متكاملة الأطراف تحت حكم وحدوي برئاسته، وهي الفترة التي تميزت فيها هذه الدولة وكان لها أكبر الأثر في تطوير إرثها الثقافي والفكري، وقد جمع هذا الملك شأنه شأن من سبقه عددا من السلطات في يده على رأسها كونه كبير الكهنة، والقائد العسكري إضافة لوظيفة أخرى هامة وهي مشرف الري نظرا لأهمية الأنهار في الزراعة.

لقد بنيت هذه الدولة على أسس النظم السائدة عند الفراعنة، فيمكن تقسيم الدولة على أساس نبلاء من مالكي الأراضي وطبقة عموم الشعب وطبقة العبيد أو السخرة وهم الطبقات الدنيا في المجتمعات، وإلى جانب الزراعة مثلت التجارة أحد أهم مصادر الدخل في هذه الدولة، وقد طورت هذه الدولة وسائل تجارية كثيرة لضمان رواج التجارة بين الأقاليم المختلفة فاخترعت أول نظام بدائي «لخطابات الضمان» المستخدمة اليوم و«الفواتير» إضافة إلى عملة مبنية على نسبة محددة من الفضة لتسهيل عمليات التبادل التجاري بلا عوائق.

لقد كانت المنظومة القانونية والتي طبقتها بقوة أهم ما ميز هذه الدولة، وعلى عكس ما هو شائع، فإن «قانون حامورابي» لم يكن أول وثيقة قانونية شاملة تنظم المجتمعات في هذه المنطقة، فالثابت تاريخيا أن «حامورابي البابلي» اقتبس أغلبية هذا القانون من القانون الذي تم تجميعه ووضعه على أيدي رجال بلاط الملك «دونجي»، فالفضل يرجع له في جمع العادات التي كانت تربط المجتمع السومري ووضعها في قالب القانون الموحد، وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن هذه القواعد القانونية كانت مصدرا هاما اقتبس منه العرب والقبائل الأخرى ومنها اليهود قواعدهم القانوني، وقد اقتبس قانون «حامورابي» من الحضارة السومرية فيما بعد عددا من القواعد القانونية على رأسها قانون الثأر Lex Talionis أو ما هو معروف بالعين بالعين والسن وبالسن، فهذا كان عرفهم وتم تقنينه، فضلا عن قانون للتقاضي بين الناس بحيث يأخذ الشاكي المشتكي في حقه إلى القضاء، كما تضمن قانونهم أيضا مبدأ الطبقية في القانون، والغريب في هذا الشأن هو أن القانون أقر اختلاف العقوبة على نفس الجريمة وفقا للسلم الاجتماعي، فكلما علت الدرجة الاجتماعية زاد مستوى العقوبة على نفس الجريمة وذلك اعتقادا من القانون بأن الطبقة الارستقراطية التي تقود البلاد يجب أن تلتزم بالقانون أكثر من غيرها، كما أقر القانون مبدأ الدية للقتل الخطأ والإعدام للقتل العمدي.

لقد مثل الدين في الحضارة السومرية جزءا لا بأس به من اهتمام الشعوب، ولكنه لم يكن الفيصل أو المهيمن كما كان بالنسبة للحضارة الفرعونية على سبيل المثال، والسبب في ذلك قد يرجع إلى أن الديانة الفرعونية ربطت بين دنيا الإنسان وآخرته، ففي الديانة المصرية فإن أعمال الإنسان في الدنيا تمنح له الخلود في الآخرة، بينما في المجتمعات السومرية فإن الدين كان مقصورا على الدنيا فقط، فمنظومة الآلهة تستطيع أن تجعل حياة الفرد سلسة وغنية أو تستطيع أن تعاقبه في دنياه، ولكن فكرة البعث لم يكن لها وجود، فالحياة تنتهي بالممات، وهو ما جعل للمنظومة الدينية أهمية غير مركزية مثلما كانت في الحضارة الفرعونية على سبيل المثال. وعلى الرغم من عظمة هذه الحضارة فإن الدولة السومرية لم تستثن من ناموس الحياة السياسية فانطبق عليها قانون ابن خلدون، فكما حيت هذه الدولة فإنها ماتت أيضا، فلقد دانت الدولة السومرية لقبائل يُتوقع أنها جاءت من شبه الجزيرة العربية والتي كونت بعد ذلك ما هو معروف بـ«الحضارة البابلية القديمة Old Babylonian»، ومع ذلك فإنه لا مجال للخلاف على أن هذه الحضارة كانت مصدرا هاما لقواعد كثيرة ولأسس عظيمة بنيت عليها الحضارة الإنسانية، وباقي الدول أو الحضارات التي قامت في نفس المنطقة والتي سنتابعها على مدار الأسابيع المقبلة.

* كاتب مصري