كركوك.. نقطة تماس العراق

البيشمركة قاتلت من أجلها.. وصدام حاول تعريبها.. والماكي وبارزاني أشعلا فتيلها من جديد

TT

«المناطق المتنازع عليها»، «المناطق المختلطة»، «المناطق المستقطعة»، عناوين مختلفة لمعنى واحد، وتسميات تقود إلى مشكلة واحدة.. قديمة متجددة ومتداخلة.. تشبه تلك اللعبة التي تقول: «الصندوق يحتاج مفتاح، والمفتاح عند الحداد، والحداد يريد فلوس، والفلوس عند العروس». والمشكلة تتحمل أن نبدأها من الصندوق الأول، أو من آخرها، من العروس، ففي كلتا الحالتين سنكتشف أن الصندوق أو العروس تعني كركوك.

هذا يعني أننا نستطيع أن نعتبر كركوك صندوق مشكلات الأكراد مع الحكومات العراقية، بما فيها الحكومة الحالية، ومن يفتح هذا الصندوق ويحل ألغازه وطلاسمه سيفوز بالعروس والتي هي، أيضا، تعني كركوك، ولكن من هو الحداد الذي معه المفتاح؟ القيادة الكردية تصر على أن مفتاح الحل يكمن في المادة 140 من الدستور العراقي، وحسب رئيس إقليم كردستان وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني لـ«الشرق الأوسط» فإن «كركوك كانت السبب في كل مشكلات الأكراد مع الحكومات العراقية، والآن نحن نريد حل المشكلة ولا نريد تأزيمها. هذه المشكلة ممكن حلها وفق المادة الدستورية 140، هذا أفضل حل لقضية كركوك، لنتخلص من هذه المشكلة إلى الأبد، دون حل مشكلة كركوك لا يمكن أن يستقر الوضع في العراق».

لكن رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي يؤكد أن «هوية كركوك عراقية، وتمثل عراقا مصغرا ومثالا للتآخي والتعايش السلمي بين جميع العراقيين»، ويقول إن «حل مشكلة كركوك لا يتحقق بالقوة والإملاءات وإنما بإرادة أهلها وجماهيرها»، من غير الإشارة إلى المادة 140 التي اتفق عليها الجميع، وهو ما اعتبرته قيادة إقليم كردستان تنصلا من قبل الحكومة الاتحادية لتنفيذ هذه المادة.

وتمتد تاريخ قضية كركوك إلى بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة، إلى الحد الذي اعتبر فيه الزعيم الكردي ملا مصطفى بارزاني، قائد الثورة الكردية ومؤسس الحزب الديمقراطي الكردستاني، كركوك بأنها «قدس كردستان»، بينما اعتبرها الزعيم الكردي جلال طالباني، مؤسس الاتحاد الوطني الكردستاني، وأمينه العام «قلب كردستان».. ويعتبرها العراقيون عروس العراق. وكانت هذه المشكلة جزءا مهما من القضية الكردية التي قاتل من أجلها البيشمركة لعقود طويلة، إلى جانب مطالبتهم بالطبع بحقوقهم القومية والثقافية والسياسية. وكلما تقادم الزمن على مشكلة كركوك، ازدادت تعقيدا وتداخلا وتعددت خيوطها حتى تشابكت لتتحول إلى شبكة يصعب تتبع رأس الخيط فيها.

ومشكلة كركوك التي اشعلها المالكي بتشكيل قيادة عمليات دجلة وصب عليها الزيت برزاني بزيارته لقوات البيشمركة المرابطة عند حدود المدينة،كانت قد دخلت في نفق حقيقي وتشابكت وتعقدت أكثر في عهد نظام صدام حسين عندما عمل على التغيير الديموغرافي (السكاني) لمحافظة كركوك وبقية المناطق الكردية والتركمانية وذلك عندما قام في السبعينات من القرن الماضي بأكبر عملية تعريب للمحافظة التي غير اسمها التاريخي من كركوك إلى (التأميم) تيمنا بقرار تأميم النفط، إذ منح امتيازات مادية مغرية لأي عائلة عربية تنتقل إلى كركوك والمناطق الكردية والتركمانية على أن ينقلوا سجلات نفوسهم الرسمية إلى هذه المناطق، بينما كان، تاريخيا، أبناء العشائر العربية يتركزون خارج المدينة وخاصة في بلدة (الحويجة)، وثمة عوائل عربية قليلة تقيم في مركز المدينة أبرزها عائلة (حديد) التي يتحدر منها السياسي الوطني محمد حديد والد المعمارية الشهيرة زها حديد، وسرعان ما انتشرت خطة التعريب إلى خارج المدينة فشملت بلدات كردية مثل خانقين ونفط خانة وجلولاء ومندلي في الوسط. وكانت هذه الإجراءات تقوم إلى جانب استقطاع أراض وبلدات كبيرة من المحافظات الكردية وضمها إلى المحافظات العربية مثل نينوى (الموصل) وصلاح الدين (تكريت) وديالي، وتدمير الآلاف من القرى الكردية والتركمانية وإزالتها تماما من الخرائط الرسمية وزراعتها بالألغام لضمان عدم عودة أصحابها لها فيما بعد وذلك ضمن خطة سميت الشريط الآمن.

على أن عملية التعريب وتغيير خارطة الجغرافيا السكانية للمدن الكردية لم تتم على حساب الأراضي والعقارات والمزارع التي كانت ملكا للأكراد والتركمان وتمت مصادرتها، بل تجاوزتها، وهذا هو أخطر ما فيها، إلى تهجير مئات الآلاف من الأكراد من مدنهم وتوزيعهم على مدن جنوب ووسط وغرب العراق، وفي وقت لاحق وخلال عمليات الأنفال سيئة الصيت تم اعتقال ودفن الآلاف من العوائل الكردية أحياء أو موتى، وهذا ما ادخل المشكلة في نفق معتم وهيأ لصعوبة حلها مستقبلا.

وما يضفي أهمية لمحافظة كركوك التي تبعد مسافة 240 كيلومترا شمال العاصمة بغداد، أنها غنية بالنفط، بل هي أول مدينة تم اكتشاف النفط فيها، ويعد حقل «بابا كركر» من أكبر وأقدم حقول النفط في تاريخ العراق، واعتقدت الحكومات العراقية المتتالية أن اهتمام الأكراد بضم كركوك إلى كردستان سببه النفط ليكونوا مستقلين ماليا ومن ثم يعلنون انفصالهم، بينما يؤكد نجيرفان بارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان قائلا لـ«الشرق الأوسط» أن «النفط ليس سببا في أننا نؤكد الهوية الكردستانية لكركوك بدليل أن مناطق الإقليم اليوم غنية بالنفط والغاز الطبيعي وبأنواع أخرى من المعادن، نحن لا نقول إن كركوك كردية، بل كردستانية وستبقى مدينة عراقية، وهذه هي الحقيقة».

أهالي كركوك عندما يتحدثون عن أصل مدينتهم فإنهم يشيرون إلى قلعتها التاريخية التي يعود تاريخها إلى خمسة آلاف عام، وكان غالبية سكانها، حسب التسلسل الأكراد والتركمان، والعرب، والمسيحيين، وسكان كركوك الأصليين المتحدرين من القلعة يجيدون التحدث بثلاث لغات، كردية وتركمانية وعربية، كما أنهم كانوا يتصاهرون من دون الالتفات للانتماءات القومية. لكن عمليات التعريب والإقصاء هي التي فجرت المشكلات داخل كركوك لتحول فيما بعد إلى المشكلة الرئيسية بين الأكراد والتركمان من جهة وقسم كبير من عرب المحافظة والحكومة من جهة ثانية، ولتقود إلى ما اصطلح عليه دستوريا وبعد 2003 بـ«المناطق المتنازع عليها».

ويوضح الدكتور محمد إحسان، وهو المختص بقضية المناطق المتنازع عليها منذ 2003 وحتى اليوم، قائلا لـ«الشرق الأوسط» عبر الهاتف من أربيل إن «كركوك هي جزء بسيط من المناطق المتنازع عليها، هناك مناطق أخرى تدخل ضمن هذا المفهوم، وتبدأ من سنجار وزمار وشيخان وكركوك كمحافظة كاملة وليس مركزها فحسب، وخانقين كاملة، أما مندلي وبدرة وجصان فقد مورست فيها سياسات تعريب كاملة، بعد أن أخليت تماما من سكانها الأصليين».

الحكومة الاتحادية غيرت في بياناتها الرسمية مؤخرا مصطلح «المناطق المتنازع عليها» إلى «المناطق المختلطة» وهذا ما عده الأكراد تنصلا عن المادة الدستورية. لكن عزة الشابندر، النائب عن ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي، أوضح لـ«الشرق الأوسط» عبر الهاتف من بغداد، أن «مصطلح المناطق المتنازع عليها هو دستوري لكن القيادة الكردية في مرحلة ما سمتها المناطق المستقطعة ونحن اخترنا تعبير المناطق المختلطة كونه ينطوي على فهم إيجابي ويعزز الوحدة الوطنية». وأضاف أن «المادة 140 من الدستور العراقي تكفلت بحل مشكلة كركوك على ثلاث مراحل، التطبيع والإحصاء السكاني والاستفتاء، والعقدة تكمن في التطبيع في أول الخطوات، إذ لم تتمكن حكومات إياد علاوي وإبراهيم الجعفري والمالكي من إنجاز هذه الخطوة بسبب عمليات التعريب لكركوك التي قام بها صدام حسين وقابلتها بعد 2003 عمليات التكريد التي قامت بها قيادة إقليم كردستان».

ويشير الشابندر المقرب من المالكي إلى أنه في «كركوك إضافة للأكراد تركمان وعرب وكل فريق يسوق أدلة واقعية لصالحه وضد الآخر». ويتفق الشابندر ضمنا مع ما يذهب إليه القادة الأكراد من أن «مشكلة كركوك يجب أن تحل ولنصل إلى اتفاق آخر غير المادة 140 التي انتهت مدتها دستوريا ونخضع المشكلة لحل وإشراف دولي أو إقليمي».

وبخصوص المناطق الأخرى المتنازع عليها بين أربيل وبغداد، يقول القيادي في ائتلاف المالكي: «هذا يعني تحقيق خارطة كردستان الكبرى في العراق، من زاخو حتى محافظة واسط، هذه الخارطة التي نراها معلقة في جميع مكاتب المسؤولين الأكراد، فكلما تأخر حل مشكلة كركوك تمدد الأكراد في مطالبهم». ويرد محمد إحسان وزير المناطق المتنازع عليها في حكومة إقليم كردستان قائلا: «هذه المطالب موجودة منذ عقود، وقبل 2003، بل منذ أن تشكل الحزب الديمقراطي الكردستاني والكرد يطالبون بحقوقهم في هذه المناطق، وإذا رجعنا إلى تاريخ ووثائق المفاوضات بين الأكراد والحكومة المركزية فإن هذه المواضيع هي التي كانت تحتل الصدارة، حتى في عهد صدام حسين كان هناك شبه اتفاق أو على مقربة من الاتفاق عليها، وكان موضوعا الإحصاء والاستفتاء مطروحين، ولكن غرور السلطة في تلك الفترة أجل حل المشكلة وخاصة مشكلة كركوك»، مقترحا أن «نبعد ملف النفط عن هذا الموضوع حتى لا يقال إن الأكراد يريدون استرداد هذه المناطق بسبب النفط، فهناك من يقول إن الأكراد يريدون المناطق الغنية بالنفط حتى يستقلوا كدولة كردية، وهذا غير صحيح لأن القيادة الكردية اختارت وبمحض إرادتها أن تكون جزءا من عراق ديمقراطي اتحادي يحترم الدستور».

ويشير الشابندر إلى أن تعبير «المناطق المتنازع عليها يحيل السامع إلى أن هناك نزاعا بين دولتين على أراض معينة وليس داخل دولة واحدة، وعلى العموم فإن التسمية تعكس ثقافة الأكراد في الانفصال عن العراق».

ويرى الدكتور برهم صالح، نائب الأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني، إن «شعب كردستان له الحق في تقرير المصير أسوة بشعوب العالم، بما في ذلك حق تشكيل دولته المستقلة. حق تقرير المصير جزء من برنامج الاتحاد الوطني الكردستاني منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي».

ويقول الشابندر، إن «ممارسة أكراد العراق حق تقرير مصيرهم مشروع جدا وأعتقد أن كل السياسيين العراقيين أو غالبيتهم يؤمنون بذلك بمن فيهم رئيس الوزراء، وأن من حقهم المشروع إعلان دولتهم الكردية، لكن الظروف أو الشروط الوطنية والإقليمية والدولية غير مناسبة لذلك حاليا»، مشيرا إلى أن «قيادة إقليم كردستان تفكر بحق تقرير المصير كثقافة، لكنها في الواقع تتحدث ضد الانفصال عن العراق، أي أنهم يخططون للانفصال من جهة ويعيشون واقع الفيدرالية مع المركز من جهة ثانية».

ويشدد نجيرفان بارزاني على انتماء الأكراد للعراق، يقول: «بالنسبة للرئيس بارزاني ولنا فنحن لا ننظر للعراق كدولتين وإنما دولة واحدة، والجميع يشارك بهذه الدولة، ونحن شركاء في هذا العراق ولسنا خارجه»، مضيفا: «من يتحدث عن الأكراد باعتبارهم انفصاليين فإنهم يستخدمون ذلك كورقة ضغط لأغراض سياسية، نحن قررنا البقاء ضمن العراق بشكل علني والانفصال ليس بموضوع يمكننا أن نخفيه، هناك دستور قررنا الالتزام به والعمل بموجبه، ولو التزم العراق بهذا الدستور فسوف يبقى الأكراد مع العراق، وهذا الدستور هو الفيصل بيننا، وكشعب فإننا من حقنا أن نتمتع بحق تقرير المصير، نحن لسنا عربا أو فرسا أو أتراكا، نحن أكراد عراقيون وقررنا اختياريا أن نعيش ضمن هذا الوطن وفقا للدستور.. نحن عراقيون، وهذا بلدنا وهذه أرضنا التي وجدنا عليها قبل آلاف السنين».

لكن الشرارة التي فجرت المشكلة القائمة راهنا بين بغداد وأربيل هي تشكيل قيادة عمليات دجلة من قبل المالكي باعتباره القائد العام للقوات المسلحة، وإخضاع كركوك لهذه القوات، ففي حين تعتبر أربيل أن تشكيل هذه القوات غير دستوري، تؤكد بغداد أن موضوع الدفاع والأمن هو من اختصاص القائد العام للقوات المسلحة حسب الصلاحيات الدستورية الممنوحة له.

ويعتبر الأكراد من إحدى أكبر القوميات التي لا تملك دولة مستقلة أو كيانا سياسيا موحدا معترفا به عالميا. وهناك الكثير من الجدل حول الشعب الكردي ابتداء من منشأهم، وامتدادا إلى تاريخهم، وحتى مستقبلهم السياسي. وقد ازداد هذا الجدل التاريخي حدة في السنوات الأخيرة وخاصة بعد التغيرات التي طرأت على واقع الأكراد في العراق بعد تغيير نظام صدام حسين عام 2003 التي أدت إلى نشأة إقليم كردستان شبه المستقل في شمال العراق.

وينتشر الأكراد، وهم من العرق الآري، في شمال الشرق الأوسط بمحاذاة جبال زاكروس وجبال طوروس. ويطلق الأكراد تسمية كردستان الكبرى على هذه المنطقة التي هي عبارة عن أجزاء من شمال شرقي العراق وشمال غربي إيران وشمال شرقي سوريا وجنوب شرقي تركيا، ويوجد الأكراد بالإضافة إلى هذه المناطق بأعداد قليلة في جنوب غربي أرمينيا وبعض مناطق أذربيجان ولبنان.

واللغة الكردية من اللغات الغنية باللهجات المختلفة، وهي تنتمي إلى فرع اللغات الهندو أوروبية ومعظم الأكراد يستطيعون التكلم بلغات الأقوام المجاورة لهم مثل العربية والتركية والفارسية كلغة ثانية، وتنقسم اللغة الكردية إلى عدة لهجات: السورانية والبهدنانية والهورمانية، وهي التي يتحدث بها أكراد العراق، واللهجة الكرمانجية التي يتحدث بها أكراد تركيا، واللهجة اللورية التي يتحدث بها أكراد إيران. ويؤمن غالبية الأكراد بالدين الإسلامي الحنيف، ولهم ثقافتهم وموسيقاهم وعاداتهم وتقاليدهم الخاصة بهم، وان كانت عاداتهم وتقاليدهم تشترك أو تتأثر بعادات وتقاليد الشعوب التي تعيش معها.