حضارتا بابل القديمة والجديدة

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تعد الحضارة البابلية أكثر الحضارات صيتا في بلاد ما يبن النهرين والتي لها أهمية ملحوظة خاصة بالنسبة للديانة اليهودية فورد ذكر شعوبها وحكامها كثيرا في العهد القديم، كما أنها تعد امتدادا هاما للحضارة السومرية التي تناولناها في الأسبوع الماضي، وعلى الرغم من وجود اختلافات جوهرية وعرقية كبيرة وفترة زمنية طويلة تفصل بين الدولة البابلية القديمة والجديدة، والتي تخللها الحكم الأشوري وغيره من الحكومات والأسر المتعاقبة، فإنه يمكن ربط الدولتين لكونهما تمثلان حكما لشعوب توطنت في نفس المنطقة في بلاد الرافدين.

يربط بعض المؤرخين أصول الدولة البابلية بالقبائل «الأمورية» Amorites والتي يشتبه أنها أتت لبلاد ما بين النهرين بعد هجرتها من شبه الجزيرة العربية على الأرجح، وهي قبائل سامية العرق سادت منطقة وسط العراق بحلول القرن العشرين قبل الميلاد، وقد استوطنت هذه القبائل هذه المناطق واتخذت من مدينة بابل عاصمة لها، ولهذا تنسب حضارتهم للبابلية، وقد استمرت هذه الدولة حتى قرابة منتصف القرن الثامن عشر قبل الميلاد، بعدما تم احتلالها من قبل «الكاسيين» Kassites والذين لم تكن لدولتهم أي مساهمة في التطور الفكري أو الحضاري أو السياسي في بلاد ما بين النهرين، ولكنهم سرعان ما فقدوا استقلالهم بعدما وقعت بلادهم فريسة للحكم الآشوري والذي لم يدم طويلا فسقط في القرن السابع قبل الميلاد لصالح قبائل سامية أخرى تدعى «القالدية» Chaldeans والتي استولت على منطقة ما بين النهرين لينشئوا ما هو معروف بالدولة البابلية الجديدة Neo - Babylonia والتي استمرت حتى عام 539 قبل الميلاد.

وحقيقة الأمر أنه لا علاقة على الإطلاق بين الدولة البابلية القديمة والحديثة إلا من خلال نقطتين فاصلتين، الأولى هي انتماؤهما لأصول سامية، والثانية هي أن الدولة الحديثة سعت لربط نفسها ثقافيا بالدولة البابلية القديمة خاصة ما يتعلق منها بالعبادات والرؤى العامة للحياة، وباستثناء هاتين النقطتين، فإن الثابت تاريخيا هو أنه لم يكن لهما أي علاقات أو أواصر تربط بينهما ولا حتى لغويا.

ويكاد يكون من المحسوم أن التأثير الثقافي والفكري والاجتماعي للدولة البابلية القديمة كان محدودا مقارنة بالحضارة السومرية لأسباب ترجع لكونهم ورثة هذه الثقافة ولم يكن لهم إسهاماتهم القوية في هذا المجال، والثابت أيضا هو أنهم لعبوا دورا كبيرا في تثبيت هذه الثقافة وتدوينها، ويُجمع كثير من المؤرخين على أن من أقوى ملوك الدولة البابلية الأولي الملك «حامورابي» وإليه يرجع الفضل في تدوين القوانين العرفية في البلاد والتي وضعها السومريون، وكما ذكرنا في مقال الأسبوع الماضي فإن تدوين القانون كان عملا هاما سمح بانتشاره بكل قوة، فهذا القانون أضاف للأعراف السومرية أمورا جديدة مرتبطة بطبيعة الحكم البابلي والذي كان قاسيا وغير مبالٍ بالظروف الاجتماعية والسياسية للقبائل التي كان يحكمها، فكان أشبه بنظام حكم شمولي أو سلطوي مما عرفته البشرية في القرن العشرين، فقد كبل الشعب بالضرائب الباهظة وغلظ العقوبات حتى إن عقوبة الإعدام انتشرت بشكل كبير فأصبحت عقوبة للزنى والتهرب الضريبي وعدم زراعة الأرض أو شق القنوات الخ..، كما نظم هذا القانون أمورا كثيرة خاصة مسألة إيجار الأراضي الزراعية حيث أصبح يحق للمستأجر أن يحصل على ثلث العائد من المحصول الزراعي مقابل ثلثين للمالك.

نظرا للضعف الثقافي للدولة البابلية، فقد اقتبسوا بالكامل فكرة الآلهة من الحضارة السومرية، ولكنهم أدخلوا عليها بعض التعديلات المحدودة في مقاماتهم، فأصبح «ماردوك» كبيرا للآلهة، بينما احتلت الإلهة «إشتر» نفس المرتبة، وارتبط اسمها بالإله «تموز» والذي كان عشيقها وأخاها في نفس الوقت، وفي هذا العهد انتشر السحر بقوة وتأثرت به الأسر، ويمكن إرجاع هذا الأمر إلى اشتداد المصاعب في ظل الحكم العنيف والقبضة الحديدية لملوك الدولة البابلية، ويلاحظ خلال هذه الفترة تزايد الأثر الميتافيزيقي للدين حيث أصبح أكثر روحية مع مرور الوقت، وبدأ يبتعد تدريجيا عن الأشكال المادية وبدأت تدخل في البلاد فكرة التسيير الإلهي ومعها بدأت تدخل تدريجيا ولكن بدرجات أقل فكرة الثواب في الحياة الآخرة وذلك على عكس الديانة السومرية، وقد أدى هذا بطبيعة الحال لاهتمام بالغ بعلم الفلك في محاولة لفهم الآلهة وسلوكها وأيضا بعلم التنجيم وما نتج عنه من اهتمام بحركة النجوم والكواكب، بل إنه بدأ ربط الآلهة بالكواكب الأخرى بعيدا عن شكلها البشري، ولعل أهم اختراع تدين به البشرية للحضارة البابلية كان التقسيم الزمني وعلى رأسه اختراع فكرة الأسبوع واليوم المقسوم إلى اثنين كل قسمة تمثل اثنتي عشرة ساعة.

ومع زوال الدولة البابلية القديمة فإن حضارة ما بين النهرين لم تقدم جديدا يذكر للحضارة البشرية، فالدولة البابلية الجديدة كان ذكرها مرتبطا بشكل كبير للغاية بالتأثير على تاريخ المنطقة ككل، فلقد شهد هذا القرن التوسع البابلي على حساب دول كثيرة، بل إن ملوكها استطاعوا أن يتوسعوا على حساب من حولهم بشكل كبير حتى وصلت فتوحاتهم إلى مصر، وفي عهدهم سقطت مملكة Judea اليهودية، وبدأ من خلالها ما هو معروف بـ«الأسر البابلي» Babylonian Captivity عندما أسر ملكها اليهود ودمر هيكلهم وفق ما هو وارد في كتب العهد القديم وأعمى ملكهم، وقد استمر هذا الأسر لمدة سبعة وأربعين عاما عاش خلالها اليهود أسرى في العراق، ومن الثابت تاريخيا أن هذه الفترة أثرت بشكل كبير على التفكير اليهودي، خاصة بعد أن تعرضوا لتيارات الفكر والحضارة القوية التي ورثها البابليون الجدد عن كل الدول والأسر المتعاقبة.

لقد كانت نهاية حكم الدولة البابلية الجديدة على أيدي القوى الفارسية الصاعدة في المنطقة والتي كانت تهدف لضم منطقة ما بين النهرين لدولتها لأسباب اقتصادية وسياسية واضحة، وقد دانت البلاد لحكم «سيروس» ملك فارس بعد معركة «أوبس» الطاحنة، وقد دخل سيروس بابل بلا أي مقاومة حيث يقال إن المدينة تم تسليمها له بالاتفاق ومع كبار الكهنة، خاصة بعدما لوحظ وجود تيار قوي من المؤيدين للحكم الفارسي لتخليصهم من القبضة الحديدية الشمولية للحكم البابلي، ولكن الحكم الفارسي لم يغير الأمور كثيرا.

وبنهاية الحكم البابلي الجديد ينتهي الدور السياسي المستقل لدول وحضارات ما بين النهرين، ولكن ثقافاتهم لا يزال لها وجودها، خاصة ما يتعلق منها بالبعد القانوني ممثلا في «قانون حامورابي» والكثير من المساهمات في تطوير العلوم والرياضيات وبالأخص علم الفلك.

* كاتب مصري