هيلاري كلينتون.. الصعود والهبوط

مرض وزيرة الخارجية زاد الغموض حول مستقبلها السياسي

TT

حققت هيلاري كلينتون إنجازات لم تحققها سياسية أميركية. فعندما كان زوجها بيل كلينتون حاكما لولاية أركنسا، كانت «سكرتيرته، ومستشارته، وزوجته»، حسبما كتبت في كتاب مذكراتها «أعيش التاريخ»، وكان هذا حدثا نادرا في تلك الولاية الجنوبية المحافظة.

وعندما دخل زوجها البيت الأبيض صارت ولأول مرة أيضا مستشارة رسمية له، بتقلدها لوظيفة جديدة وضعها البيت الأبيض، حيث تخصصت في وضع برنامج للرعاية الصحية (فشلت، وفشل البرنامج، ولم تعد إليه الحياة إلا بعد عشر سنوات، عندما قدمه الرئيس أوباما من جديد).

ولأول مرة أيضا، بعد أن تركت وزوجها البيت الأبيض ترشحت وفازت بعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك. ولم تفعل سيدة أولى ذلك قبلها. ولأول مرة أيضا، في سنة 2008، كادت تفوز بترشيح الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية. وكسبت ولايات كثيرة في الانتخابات التمهيدية. غير أن أوباما انتصر عليها. وقبل 4 سنوات رحب مئات الموظفين بحرارة بهيلاري كلينتون في أول يوم عمل لها على رأس الدبلوماسية الأميركية في مبنى الخارجية في واشنطن، حيث أعلنت عن «حقبة جديدة لأميركا». وخلال 4 سنوات في الخارجية، قطعت كلينتون نحو مليون ميل، وزارت 112 بلدا، وقضت نحو 500 يوم على متن الطائرة الرئاسية.. لتصبح لأول مرة أول وزيرة للخارجية تسافر أكثر من أي وزير خارجية قبلها، وأكثر من أي رئيس أميركي. وأكد هذا الرئيس أوباما، في نهاية السنة الماضية عندما قال عنها «سافرت جملة مليون ميل تقريبا، وجملة خمسمائة يوم تقريبا». وفاجأت الكل عندما أعلنت رغبتها في التخلي عن منصبها بعدما أشاد بها قادة العالم لاستعادتها مكانة بلادها في الخارج. ولذلك كان من المستغرب أن تختفي هذه السياسية التي كانت الأكثر ظهورا وأمضت عقودا تحت الأضواء، لعدة أسابيع بسبب إصابتها بسلسلة من الوعكات.

لكن حياة كلينتون لم تكن كلها انتصارات، حيث فشلت في أن تكون أول رئيسة لأميركا، وربما ستترشح في انتخابات سنة 2016. لكن مرضها الأخير ربما سيؤثر على هذا الترشح. وقد ظلت فضائح زوجها الجنسية ترافقها لفترات، خاصة اتهامات بأنها كانت تعلم، أو لم تكن تعلم وعندما علمت سكتت. وتظل تتهم بتغليب مصالحها السياسية (وزوجها أيضا).. وتظل تتهم بالبرود.

في عام 1947، ولدت هيلاري رودهام في عائلة محافظة في ولاية إلينوي. ومنذ المدرسة الثانوية، ظهرت ميولها السياسية. في ذلك الوقت لم تكن السياسة مهنة عادية وسط النساء. وشجعها والدها، بغض النظر عن كونها أنثى. ولأن الوالد كان جمهوريا، فقد مالت نحو الحزب الجمهوري. وشاركت في حملات انتخابية في شيكاغو لصالح الحزب الجمهوري.

في عام 1962 قابلت لأول مرة القس الأسود مارتن لوثر كينغ، زعيم حركة الحقوق المدنية للزنوج. وبدأت تتحول تدريجيا نحو الليبرالية. وأثناء دراستها القانون في جامعة ييل (ولاية كونيتيكت)، تركت الجمهوريين، وعملت متطوعة لخدمة الفقراء. وهناك تعرفت على زميلها بيل كلينتون، في الجامعة، عام 1971. وشاركا معا في حملات انتخابية لمرشحين ديمقراطيين.

وفي عام 1972، عندما ترشح السيناتور جورج ماكغفرن لرئاسة الجمهورية باسم الحزب الديمقراطي ضد الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون، وكان بيل وهيلاري أكملا القانون، وتزوجا، وانتقلا إلى ولاية أركنسا (حيث كانت للرجل طموحات سياسية عملاقة)، تطوعا للدعاية لماكغفرن (سقط أمام نيكسون). وبعد سنوات كسيدة أولى في ولاية أركنسا، جاءت إلى واشنطن سيدة أولى لأميركا، عندما فاز زوجها برئاسة الجمهورية عام 1992. وبقيت في واشنطن منذ ذلك الوقت.. سيدة أولى، ثم عضوا في الكونغرس، ثم وزيرة للخارجية.

وبعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 أيدت حرب العراق. لكن، عندما ترشحت لانتخابات رئاسة الجمهورية عام 2008، قالت إنها إذا فازت ستسحب كل الجنود الأميركيين من العراق وأفغانستان. وكانت، ولا تزال، مؤيدة قوية لإسرائيل. وكانت قد قالت أثناء الحملة الانتخابية بأنها ستمحو «إيران من الخريطة»، إذا فكرت طهران في مهاجمة إسرائيل، وكررت أن إيران دولة سيئة، وتنشر الإرهاب.

وهي صاحبة شعار «ريسيت» (إعادة الوضع الأول) في العلاقات مع روسيا، والتي كانت تدهورت خلال سنوات الرئيس السابق جورج بوش الابن، ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس. وأيضا، تقربت إلى الأوروبيين أكثر من رايس. وتوددت نحو الصين، بدلا عن قلق رايس، والحزب الجمهوري، من زيادة قوة الصين.

وشخصيا، اشتهرت في عدة مجالات، أولها قدرتها على الحديث الطويل والفصيح، خاصة عند دفاعها عن بلادها خلال توليها وزارة الخارجية. ثانيا: دعمها للديمقراطية في دول العالم الثالث. ثالثا، دعواتها إلى «القوة الذكية» بنشر التعليم، وتطوير المرأة، والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة. رابعا: ضحكتها الرنانة، وقيل إنها كانت تنقل عدوى الضحك لمن حولها في كثير من المناسبات. خامسا: مثل زوجها، تتمتع بحضور قوي، وثقة بالنفس، ودفء يسهل على الآخرين التقرب منها. وسادسا: اشتهرت بأنها مدمنة للعمل، لا تكل، ولا تمل منه. كما عرفت باهتمامها بالتفاصيل وميلها إلى الابتعاد عن الرسميات في بعض الأحيان.

غير أن المنافسة مع الرئيس أوباما تظل واحدة من نقاط مهمة في حياة كلينتون. كانت تريد أن تكون أول رئيسة، وكان يريد أن يكون أول رئيس أسود. ومنذ البداية، صار واضحا أن حزبهما، الحزب الديمقراطي، في حيرة بشأن من سيؤيد.

وربما لن تغفر هيلاري كلينتون، للسيناتور إدوارد كيندي الذي انحاز نحو أوباما في عام 2008. بل جمع كل آل كنيدي في شبه مظاهرة، في مؤتمر الحزب، وأيدوا كلهم أوباما. وكانت تلك نقطة التحول التي أثرت كثيرا على مستقبل هيلاري.

ولم يعد سرا وجود اختلاف أساسي بين بيضاء من عائلة شبه أرستقراطية من ضواحي شيكاغو، وأسود عمل محاميا ويدافع عن حقوق الفقراء في قلب شيكاغو. ورغم أنها، كالعادة، كانت حذرة جدا في إثارة الجانب العنصري، مرة، خلال الحملة الانتخابية، فقد أخطا زوجها وتفوه بعبارات معناها أن الزنوج لن يصوتوا لامرأة بيضاء. غير أن بعض الجليد ذاب عندما عرض أوباما عليها وزارة الخارجية، وبعد تردد، قبلت، لأن فرص ترشيحها لرئاسة الجمهورية سنة 2012 صارت ضعيفة.

لكن، أثبتت كلينتون ولاءها له لدرجة أن البعض قالوا إنها تحملت المسؤولية، بدلا من أوباما، في موضوع الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي الذي قتل فيه أربعة من الموظفين الدبلوماسيين العام الماضي. وهو الهجوم الذي وصفته كلينتون بأنه «أسوأ حدث» في ولايتها. وانتقد الجمهوريون كلينتون كثيرا لأنها لم تقدم شهادة علنية بعد في هذا الحادث، خاصة بعد أن أظهر تقرير أجرته وزارة الخارجية نفسها أن الأمن حول القنصلية «كان يعاني من نقص كبير».

وقال خبراء في السياسة الخارجية الأميركية إن كلينتون لم تحقق انتصارات كبيرة تشبه تلك التي حققها هنري كيسنجر في مبادرته نحو الصين الشيوعية (الانفتاح)، وفي مبادرته نحو الاتحاد السوفياتي (التعايش).

وألقى أرون ديفيد ميلر، خبير في مركز واشنطن للشرق الأدني، باللوم على أوباما «نظرا لقبضته الشديدة على شؤون السياسة الخارجية». وقال إن أوباما «كانت لديه وزيرة خارجية موهوبة لدرجة كبيرة وقادرة، لكنه لم يمكنها من استغلال كامل قدراتها في أي قضية مهمة تتعلق بالسلام أو بالحرب». وأضاف ميلر الذي عمل مستشارا سابقا لستة وزراء خارجية سابقين «لهذا، أوجدت لنفسها أجندتها الخاصة التي سمتها الإنسانية الكونية. وكانت أجندة مهمة تتعلق بالمساواة بين الجنسين، وقضايا المرأة، والإعلام الاجتماعي، والتكنولوجيا الحديثة، ونظافة البيئة».

وأثنى كثير من الخبراء على دور كلينتون في استعادة صورة الولايات المتحدة في الخارج، والتي كانت تضررت كثيرا خلال سنوات التدخلات العسكرية وحروب الإرهاب، في عهد الرئيس السابق بوش. وأشاروا إلى أنها عملت بجد لتقارب مع باكستان، الحليفة المهمة في الحرب ضد طالبان في أفغانستان. وأنها تمكنت من الحصول على موافقة الدول الأوروبية لتشديد العقوبات على إيران. وخلال زيارة إلى الصين في مطلع عام 2012، حققت انقلابا دبلوماسيا كبيرا عندما تمكنت من التفاوض مع المسؤولين الصينيين حول الخروج الأمن المنشق الصيني شين غوانغشينغ.

في عام 2012، عندما اقتربت الانتخابات الرئاسية، فاجأ الرئيس الأسبق كلينتون المراقبين، وقرر فتح صفحة جديدة (هو وزوجته) مع أوباما. وبدآ حملة دعاية قوية له، لعبت دورا كبيرا في فوزه على المرشح الجمهوري. وفي مؤتمر الحزب في شارلوت (ولاية نورث كارولينا)، ألقى كلينتون خطاب تأييد قويا لأوباما.

وقالت مصادر إخبارية أميركية إن خطة الذين نظموا المؤتمر ركزت على أن يخاطب كلينتون المستقلين وسط الأميركيين، والذين يعتقد أن نسبتهم ثلاثين في المائة تقريبا، وذلك بالاعتماد على سجل ثماني سنوات قضاها في البيت الأبيض. وأيضا، بسبب قدرة كلينتون على الاعتماد على التفاصيل، بمقارنة سجل أوباما مع برنامج منافسه المرشح الجمهوري ميت رومني.

وقاطع الحاضرون في المؤتمر خطاب كلينتون بالتصفيق والهتاف مرارا وتكرارا، خاصة عندما رد على الانتقادات التي وجهها الجمهوريون إلى أوباما، في مؤتمرهم في تامبا (ولاية فلوريدا). ودافع كلينتون عن جوانب عدة في سجل أوباما، بما في ذلك قانون الرعاية الصحية. وأيضا، «قانون إنعاش الاقتصاد» المثير للجدل الذي أعاد هيكلة شركات السيارات الأميركية.

ودافع كلينتون حتى عن اختيار أوباما لجوزيف بايدن نائبا له في انتخابات سنة 2008، وفي انتخابات هذه السنة، رغم أن كلينتون كان يريد أن يختار أوباما زوجته نائبة له، بعد أن هزمها كمرشح للحزب للرئاسة. وقال كلينتون «لنرفع شعار: نحن جميعا معا، بدلا من شعار الجمهوريين الذي يقول: كل واحد لنفسه». وأضاف، في خطاب استمر لساعة تقريبا «أؤيد ترشيح رجل (كول) – لطيف - في الخارج، و(هوت) – ساخن - في الداخل في قضايا أميركا».

وأجاب كلينتون عن السؤال الذي استخدمه الجمهوريون في مؤتمرهم «هل أنت أفضل حالا الآن عما كنت عليه في بداية عهد أوباما؟». وقدم كلينتون سؤالا آخر «هل تريد أميركا لأطفالك وأحفادك حسب برنامج أوباما، أم حسب برنامج رومني؟».

لكن، في الجانب الآخر بالنسبة لكلينتون وزوجته، صار واضحا أن ترشيح أوباما مرة ثانية عرقل طموحات كلينتون لتكون رئيسة. وربما نهائيا. لهذا، حتى قبل الانتخابات الرئاسية سارعت وأعلنت أنها تعتزم التنحي عن منصبها في يناير (كانون الثاني) عام 2013، مع تنصيب الفائز في انتخابات الرئاسة، سواء فاز الرئيس باراك أوباما، أو فاز المرشح الجمهوري ميت رومني.

وكانت تساؤلات أثيرت، في ذلك الوقت، حول خطط كلينتون بعد أن قالت لصحيفة «وول ستريت جورنال» إنها تركت الباب مفتوحا بشأن بقائها في منصبها إذا فاز أوباما. وقالت «كثيرون تحدثوا عن البقاء» في منصب وزيرة الخارجية. وأضافت أن التحقيقات المستمرة في الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي صارت «واحدا من أكبر المواضيع تحديا» خلال ولايتها. وفسرت مصادر إخبارية هذه التصريحات بأنها تشير إلى أنها ستبقى، لأن التحقيقات يتوقع أن تستمر شهورا كثيرة.

لكن، في ذلك الوقت، وفي إجابة عن سؤال من صحيفة «واشنطن بوست»، قالت إنها لن تبقى في الخارجية أكثر من فترة واحدة. وقالت «صار أهم شيء بالنسبة لي الآن هو الابتعاد عن هذا التوتر الكبير الذي عشته، والعودة إلى حياتي الطبيعية». ولم تفسر ماذا تقصد بـ«التوتر الكبير».

وكان أوباما قال، في ذلك الوقت، إنه يأمل بقاء كلينتون في منصبها، لكنها قررت الرحيل «على الرغم من آمالي. إنها تقوم بعمل عظيم. أتمنى أن تبقى». وكان زوجها نفسه قال إنه ليس متأكدا من خطط زوجته. وقال إنه لا يعرف إذا كانت زوجته تريد البقاء أم لا. وإذا كانت تريد الترشيح لرئاسة الجمهورية سنة 2016، أم لا.. لكنه أكد أنه سيدعمها أيا كان قرارها. وقال «لا أعرف. تعلمون أنها عملت كثيرا في المجال السياسي طوال 20 سنة. قضينا ثماني سنوات في البيت الأبيض. ثم ترشحت، وفازت، بمقعد في مجلس الشيوخ. ثم أصبحت وزيرة للخارجية». وأضاف «إنها مرهقة. لكنها تريد بعض الوقت لتستجمع قواها، وتؤلف كتابا. وآمل أن نعمل معا في هذا».

وفي النهاية، حسمت كلينتون النقطة الأولى، وهي عدم الاستمرار في الخارجية. لكنها لم تحسم النقطة الثانية. وظل زوجها يقول إنها هي صاحبة القرار. وردا على سؤال إذا ما كانت زوجته «مؤهلة» لتترشح للرئاسة سنة 2016، قال كلينتون «لم أصادف يوما شخصا أعتقد أنه سيكون أفضل منها. لكن، لدينا الكثير من الأكفاء في حزبنا (الحزب الديمقراطي) الذين يرغبون في الرئاسة. وأيا كان ما تريد، سأكون أول من يقف بجانبها. أنا متأكد أنها الأفضل. أعرف أنني منحاز، لكنها أثبتت كسيناتور، ثم كوزيرة خارجية، أن لديها قدرة مذهلة».

ولم يعلق كلينتون على عمر زوجته، رغم أن ذلك كان الهدف من السؤال. عمرها خمس وستون سنة، وسيكون سبعين تقريبا سنة 2016. والآن، بعد مرضها، زاد الغموض حول مستقبلها السياسي.