الأزهر.. «مطفئ حرائق» المرحلة الانتقالية

حافظ على استقلاله رغم تحرشات القوى السياسية وجماعة الإخوان والسلفيين

TT

بوثيقة عن حريات المرأة وبمبادرة عن المصالحة الوطنية للم شمل فرقاء الوطن، تصدر الأزهر الشريف المشهد السياسي من جديد بعد إقرار أول دستور مصري بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011. ورغم تحرشات قوى الإسلام السياسي بمعقل الوسطية وبشيخه الدكتور أحمد الطيب، استطاعت المؤسسة الدينية العريقة خلال المرحلة الانتقالية في مصر أن تحافظ على استقلالها، وأن تفرض مقتضيات هذا الاستقلال في أول دستور للبلاد. كما نجح الأزهر في جمع فرقاء الوطن تحت مظلته ليحفظ استقرار الوطن فيما بدا دوره أشبه برجل إطفاء الأزمات السياسية التي اندلعت في البلاد خلال العام الماضي.

ويعتقد مراقبون أنه لا خوف من تنامي نفوذ الإسلاميين، إذ يرى هؤلاء أنه لا خلاف بين الأزهر وجماعة الإخوان المسلمين فكريا؛ لكن الخشية تأتي من الخلافات بين وسطية الأزهر وتشدد التيار السلفي الذي قد يعمل على أن يصبح الأزهر إحدى نوافذه الأساسية، وهو ما يعتبرونه أمرا يضر بالدعوة الإسلامية وبوسطية مؤسسة تملك تاريخ يمتد لألف عام. وانتصر الأزهر لحقوق المرأة، بعد انتقادات وجهها نشطاء لوضع المرأة في مشروع الدستور الجديد، خاصة بعد تهميش الإسلاميين لها وإبعادها عن المشهد السياسي بعد الثورة –حسب ناشطات حقوقيات - وأعلن الدكتور الطيب عن وثيقة جديدة يتم الإعلان عنها في يناير (كانون ثاني) الجاري للتعريف بمكانة المرأة في الشريعة الإسلامية، والرد على الشبهات التي يوجهها البعض تجاه حقوقها، وقال مصدر مسؤول بمشيخة الأزهر لـ«الشرق الأوسط»: إن «سبب إصدار الأزهر لوثيقة المرأة هو محاولة التيارات الإسلامية تهميش دورها وحصرها داخل المنزل»، وتابع: «كان لزاما على الأزهر أن يبين الحدود الشرعية لحرية المرأة وحقوقها».

وفي لحظة استثنائية أضيفت إلى سجل الأزهر الوطني العريق، اغتنم الدكتور الطيب فرصة إقرار الدستور الجديد، وأطلق مبادرة للمصالحة الوطنية ولم الشمل وإعلاء مصلحة الوطن، قال عنها الدكتور محمد مختار المهدي، الرئيس العام للجمعية الشرعية (السلفية)، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، إن «مبادرة شيخ الأزهر تنبعث من دوره الكبير الذي ننتظره منه دائما». ورغم التوافق الظاهر بين الأزهر وجماعة الإخوان؛ فإن بداية الصراع العلني بين الأزهر والإسلاميين، جاءت على خلفية سعي «الإخوان» إلى طرح مشروع قانون لتنظيم الأزهر يعمل على سحب البساط من المؤسسة العريقة عبر زحزحته عن موقعه كمرجعية فيما يتعلق بمواد الشريعة الإسلامية.

وتنبه الأزهر للأمر مبكرا، ورفض مشروع القانون ووصفه بالتدخل والتجاوز غير المسموح، خاصة أن المجلس العسكري الحاكم حينذاك، كان قد أصدر مرسوما بقانون لتعيين رئيس الأزهر القادم بالانتخاب عن طريق هيئة كبار العلماء، وأكد الأزهر وقتها «أنه إذا كانت هناك ضرورة لتعديل القانون المنظم للعمل بالأزهر، فالأولى أن يعده شيوخه (الدكتور أحمد الطيب)». ويرى مراقبون أن هذه الأزمة بين الإخوان وشيوخ وعلماء الأزهر، انعكست على سلوك الرئيس محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان فور تسلمه السلطة، حيث تجاهل الأخير مصافحة شيخ الأزهر في حفل تخريج دفعة جديدة من الطلاب بالكلية الجوية في 10 يوليو (تموز) الماضي، كما شهد حفل تنصيب مرسي رئيسا لمصر بجامعة القاهرة تجاهل تخصيص مقاعد خاصة للطيب والوفد المرافق له باستراحة قاعة احتفالات الجامعة، أما في داخل قاعة الحفل فقد تم تخصيص مقاعد لشيخ الأزهر وقياداته في الصفوف الخلفية، وهو الأمر الذي تسبب في انسحاب الطيب اعتراضا على تجاهله.

ورغم تعليق الرئيس مرسي على الواقعة، بأنه يكن كل تقدير لمؤسسة الأزهر؛ فإن الأمر نم عن احتدام الخلافات بين مؤسسة الأزهر ومؤسسة الرئاسة. وهو ما فسره نبيل زكي، الكاتب السياسي اليساري بقوله إن «الإخوان أرادوا نزع مرجعية الشرعية الإسلامية عن مؤسسة الأزهر». ومع تشكيل هيئة كبار العلماء التي تضم 26 عضوا من أعضاء مجمع البحوث الإسلامية من جميع المذاهب الفقهية الأربعة برئاسة الدكتور الطيب بعد موافقة الدكتور كمال الجنزوري رئيس مجلس الوزراء السابق، ظهرت علامات استفهام حول تشكيل الهيئة، وانتقد الكثيرون تشكيلها، مؤكدين أنها خرجت لدعم شيخ الأزهر في مواجهة الإخوان والسلفيين، رغم كونها ضمت الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، والذي لم يحضر أي اجتماع للهيئة منذ تكوينها حتى الآن.

وطالب بعض رموز التيار السلفي بضرورة إعادة تشكيل هيئة كبار العلماء مطالبين بتمثيل كل الأطياف بغض النظر عن أزهريتهم الأمر الذي رفضه أزهريون، واعتبروا هذا بداية تسييس الأزهر ودخول الأفكار المتشددة إليه. وتختص هيئة كبار العلماء بانتخاب شيخ الأزهر عند خلو منصبه، وترشيح مفتي الديار المصرية، والبت في المسائل الدينية ذات الطابع الخلافي، والقضايا الاجتماعية التي تواجه العالم الإسلامي بعد أن يقدم مجمع البحوث الإسلامية رأيه في تلك القضايا.

ويبدو أن أعضاء هيئة كبار العلماء يدركون طبيعة المرحلة الراهنة في مصر، وهو ما دفع الدكتور محمد الشحات الجندي عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر لأن يقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «هيئة كبار العلماء ستقف ضد الرياح العاتية من جانب التيارات الدينية وخاصة المتشددة منها، لأن الهيئة تضم علماء كبارا يحملون الفكر الوسطي وقادرين على تلبية أولويات الوطن في تلك المرحلة الفارقة في تاريخ مصر الحديث».

من جانبه، قال الدكتور محمود مهنا، عضو المكتب الفني لشيخ الأزهر، عضو هيئة كبار العلماء، إن «الهيئة ستتصدى وتقاوم الأفكار الإخوانية والسلفية والشيعية، لأن تلك التيارات ليس في مصلحتها وجود الأزهر قويا شامخا»، مضيفا لـ«الشرق الأوسط» أن «الهيئة ستواجه أي محاولات للهيمنة على الأزهر من جانب التيارات الدينية وستحمي وسطية واعتدال الأزهر».

ولم يتوقف دور علماء الأزهر عند حدود الدفاع عن المؤسسة، لكن بدا أن للأزهر دورا في رسم الهوية الوطنية عبر دستور البلاد الجديد. وقد أثار نص المادة الثانية من الدستور؛ «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع»، جدلا داخل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، حيث طالب التيار السلفي باستبدال كلمة مبادئ بأحكام، وهو ما رفضه ممثلو الأزهر في التأسيسية.

وطالب الدكتور الطيب بإبقاء المادة الثانية من دستور عام 1971 على وضعها الحالي دون تغيير، مؤكدا أن الجدل المثار حول المادة الثانية يعد خروجا على ما تم الاتفاق عليه في وثيقة الأزهر من جانب كافة ألوان الطيف السياسي، من أحزاب وتيارات وجماعات، وهي الوثيقة التي وضعها الأزهر العام الماضي لتفادي صدام محتمل بين القوى السياسية في البلاد.

وشدد الطيب على أن الأزهر لن يقبل الجدل ولن يسمح لأحد أن يجر الأمة باسم خلافات لفظية إلى قضايا تبدد الطاقات وتثير المخاوف وتفتح أبواب الفتنة وشغل الأمة عن الالتفات للقضايا الجادة، لكن جماعة الإخوان نفت تدخلها في تغيير نص المادة الثانية، وقال الشيخ سيد عسكر عضو الهيئة البرلمانية لحزب الحرية والعدالة الذراع السياسية للجماعة «هذا الكلام غير صحيح جملة وتفصيلا، و(الإخوان) منه براء، لأن كل أعضاء الجماعة ونواب الحرية والعدالة يعرفون للأزهر قدره ويحفظونه ويرون أنه المرجعية الأساسية للمسلمين في كل أنحاء الأرض ويدعمون دوره الكبير»، مضيفا أن «البرلمان (المنحل) لم يعمل ضد الأزهر الشريف ولم يهاجمه ولم يسعى للانتقاص من دوره أبدا».

وفي سعيه إلى توحيد الصف فتح الأزهر سلسلة حوارات مع معارضيه من أبنائه الأزهريين لتقريب وجهات النظر والوقوف أمام أي محاولة تنال من كينونة الأزهر وقياداته، وقال مصدر مطلع في مشيخة الأزهر إن «الشيخ جمال قطب رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر، والدكتور عبد الله بركات عميد كلية الدعوة بجامعة الأزهر كانا من أوائل القيادات التي تم التحاور معها».

وقالت مصادر مطلعة على مجريات الحوار لـ«الشرق الأوسط»، إنه ركز على كيفية مجابهة محاولة الإسلاميين المتشددين، للسيطرة على أكبر مؤسسة سنية في العالم، خاصة بعد أن نفض الأزهر عن كاهله 30 عاما من تبعية الأنظمة الحاكمة، وتصدر المشهد السياسي بعد ثورة «25 يناير». وبثقله الرمزي والتاريخي دخل الأزهر الشريف بقوة على خط أزمة رفض مشروع الدستور الجديد والإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وهو الإعلان الذي انطلقت على أثر إصداره احتجاجات واسعة للمطالبة بإسقاطه، ووقف الاستفتاء على الدستور. ونجح الأزهر الذي بدا وكأنه رجل إطفاء المرحلة الانتقالية في جمع فرقاء السياسة، ووجه الدكتور الطيب مناشدة للرئيس مرسي للتأكيد على سيادة القانون وإنهاء الفرقة.

ورغم أن بعض القوى قللت من شأن هذه اللقاءات؛ فإن شيخ الأزهر واصل اتصالاته بالقوى السياسية للبحث عن مخرج للانسداد السياسي الذي تشهده البلاد، بما فيها من قرارات سيادية تسببت في اشتعال مظاهرات الغضب في المحافظات المصرية.

وأكدت مصادر داخل حزب الحرية والعدالة، أن «جماعة الإخوان هي من استجارت بالأزهر الشريف وناشدته التدخل وجمع الفرقاء وعودة الحوار من جديد خوفا من انفلات الأوضاع»، مشيرة إلى أن هذه الاتصالات بدأت قبل مليونية «للثورة شعب يحميها» التي نظمتها القوى المدنية أمام قصر الاتحادية الرئاسي. وهو ما علق عليه الدكتور حسن الشافعي، كبير مستشاري شيخ الأزهر، رئيس وفد الأزهر في الجمعية التأسيسية للدستور الجديد، قائلا لـ«الشرق الأوسط»، إن «الأزهر لم يكن يوما غائبا عن أي حدث في تاريخ مصر، وكلما اشتدت الأزمات كان الأزهر بوابة الأمل والإنقاذ من أجل دعم مبادئ الاستقرار والحرية».

كما حافظ الأزهر على استقلال مؤسسته وشيخه في مشروع الدستور الجديد، ورغم النقد الذي وجه للأزهر بعدم الانسحاب من الجمعية التأسيسية على غرار رموز المعارضة والكنائس المصرية الثلاث؛ لكن مصدرا مسؤولا بالأزهر، قال: إن «الانسحاب من التأسيسية معناه ضياع الأزهر وضياع استقلاله»، مضيفا: «لو انسحبنا كانت التيارات المتشددة سيطرت على منابره».

ورغم جلسة المصالحة التي تمت بين الدكتور يوسف القرضاوي والشيخ الطيب في مقر مشيخة الأزهر بالدراسة، رفض علماء الأزهر اعتلاء «الإخوان» منبر الأزهر، بعدما وجه الدكتور طلعت عفيفي وزير الأوقاف المحسوب على التيار السلفي الدعوة للدكتور القرضاوي لإلقاء خطبة الجمعة كل أول شهر عربي من فوق منبر الأزهر، واتهم علماء الأزهر جماعة الإخوان والدعوة السلفية بالزج باسم الأزهر في صراعات سياسية وتفريغه من دوره الحقيقي في الدعوة إلى الله عن طريق المنهج الوسطي.

واعتبر مراقبون أن وزارة الأوقاف غدت معقلا للسلفيين، وقالوا: إنها تسعى إلى سحب البساط من تحت أقدام الأزهر، لتصبح مراكز الثقل للشيوخ والدعاة غير الأزهريين، بعيدا عن الوسطية المعهودة بالأزهر.

وظل منبر الأزهر برمزيته المكان الأنسب لزعماء مصر لتدشين عهودهم أو تجييش الشعب، فقد اعتلاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عقب «العدوان الثلاثي» على مصر عام 1956. وحرص الرئيس الأسبق أنور السادات على الصلاة فيه، وصلى به الدكتور محمد مرسي أول جمعة له بعد قيامه بأداء مهامه كأول رئيس لمصر بعد ثورة 25 يناير، كتقليد كان يحرص عليه حكام وسلاطين مصر، وحتى الرئيس السابق حسني مبارك في بداية توليه السلطة. وسبق أن اجتمع تحت عباءة روح ميدان التحرير (مفجر الثورة) وعلى مائدة الأزهر الشريف ما يقرب من 60 شخصية من الزعماء والفرقاء السياسيين مطلع عام 2012 الماضي، تقدمهم كمال الجنزوري، والبابا الراحل شنودة الثالث بابا الإسكندرية بطريك الكرازة المرقسية، والدكتور محمد بديع مرشد جماعة الإخوان، والمرشحون السابقون للرئاسة عمرو موسى، ومحمد سليم العوا، وحمدين صباحي، وعبد المنعم أبو الفتوح، والداعية السلفي محمد حسان، وكوكبة من شباب الثورة، لمحاولة ردع الفتنة يوم ذكرى ثورة 25 يناير العام الماضي.