ظهور المارد الأميركي

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تناولنا في مقال الأسبوع الماضي العلاقة المقارنة بين الإمبراطوريات الثلاث الرومانية والبريطانية والأميركية، خاصة أوجه التشابه والاختلاف بين الدولة الرومانية والبريطانية، ونستعرض في هذا المقال طبيعة قوة المارد الأميركي مقارنة بهاتين القوتين العظمتين لنستوضح بعض النقاط بين أعظم ثلاث إمبراطوريات عرفها التاريخ البشري حتى الآن، وفي هذا الإطار فيمكن رصد أهم أوجه النقاط التالية:

أولا: تتميز الولايات المتحدة بسمة أساسية تختلف فيها عن دولة روما وبريطانيا وهي أنها ولدت من رحم قطب دولي، فالولايات المتحدة بدأت كمجرد مستعمرات بريطانية حتى حروب الاستقلال، وبمجرد الاستقلال بدأت تبني دولتها بشكل مطرد، وذلك في حين بُنيت روما على أساس صراع قبائل وعشائر حتى خرجت منه لتسيطر على شبه الجزيرة الإيطالية، أما بريطانيا فلم تكن في حالة احتلال من قوة عظمى أخرى ولكنها بنت قدراتها وانطلقت بعد هزيمة أخطر محاولة لاحتلالها في التاريخ الحديث حتى الحرب العالمية الثانية ممثلة في الحملة البحرية الإسبانية المعروفة بالأرمادا.

أما الملاحظة الثانية فهي أن الدولة الأميركية منذ نشأتها حتى اليوم تميزت بنظام سياسي موحد فلم يتغير مع مرور الزمن حتى على الرغم من الحرب الأهلية الأميركية، فالولايات المتحدة ولدت ديمقراطية مقارنة بالنظامين السياسيين الروماني والبريطاني، فالدولة الرومانية بُنيت على أساس ديكتاتوري قمعي وظلت تترنح تحت أهواء القائد والإمبراطور حتى في العهد الجمهوري، وظلت مشكلة السلطة والحكم في روما معضلة سياسية لأكثر من ألف عام، أما بريطانيا فلقد مرت بتجربة وسط ما بين روما والولايات المتحدة، فلقد تعرضت هذه الدولة لعوامل الشد والجذب السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتي امتزجت لتأتي بتطور ديمقراطي تدريجي من الحكم المطلق للملكة إليزابيث الأولى مؤسسة الإمبراطورية وحتى تمتعها بالنظام الديمقراطي الحالي. وما يهمنا تأكيده هو أن طبيعة ميلاد الولايات المتحدة جعلتها تتميز بنظام ديمقراطي منذ اليوم الأول لها حتى وإن لم يكتمل نضجه وشموليته إلا في مراحل تالية، ولكن فلسفة نشأة الدولة ذاتها جعلتها أكثر النظم السياسية استقرارا في الإمبراطوريات الثلاث.

ثانيا: اتصالا بنشأة الدولة فإن الولايات المتحدة تتشابه مع دولة روما وتختلف عن الإمبراطورية البريطانية في عنصر هام للغاية وهو أن هذه الدولة بُنيت على أساس ثلاث عشرة ولاية شرقية مستقلة أخذت تستقر وتتوسع تدريجيا في القارة الأميركية غربا، وفي هذا الإطار فإننا لا نستطيع أن نقول إن الولايات المتحدة واجهت قوة معادية تذكر في سعيها للتوسع غربا مثلما واجهت روما قبائل «الاتروسكانز» على سبيل المثال، لذلك استطاعت أن تتوسع بيسر كبير دون ضغوط عسكرية تُذكر بسبب الضعف العسكري النسبي للسكان الأصليين، أما بريطانيا فإن الطبيعية الجغرافية الجزيرية للدولة فرضت عليها أنماطا من التوسع التقليدي لتسيطر القوة المهيمنة في الجزيرة، كما أن هذه الميزة حمتها من شرور التدخل الخارجي والتي كان يمكن أن تؤخر فرص تطورها لتصبح قوة عظمى على المستوى الدولي.

ثالثا: يلاحظ في هيكل الدولة الأميركية عددا من النقاط المحورية وعلى رأسها أن هذه الدولة تميزت عن الإمبراطوريتين الرومانية والبريطانية بأن جغرافيتها السياسية منحتها ما يطلق عليه بالاقتصاد القاري، أي إنه في حين سعت روما للتوسع لتوفير الغذاء والأموال لجيوشها، وعلى حين اعتمدت بريطانيا على التجارة الدولية لضمان رفعتها الاقتصادية والعسكرية، فإن الولايات المتحدة تمتعت بقوة اقتصادية هائلة لكونها تملك قارة كاملة صالحة للاستغلال وهو ما كسر من فكرة الاعتماد على الخارج وولد كما سنرى فكرة الانعزالية، فهذه الدولة كانت من الغنى والقوة بما سمح لها أن تكون معتمدة على الذات وليست في حاجة لامتداد خارجي.

رابعا: لقد دخل المارد الأميركي حلبة السياسة الخارجية كقطب دولي ثم أوحد بعد حقب طويلة من التردد السياسي نتيجة السياسة الانعزالية التي فرضها الكونغرس الأميركي للبعد عن السياسة الدولية والمعروفة باسم ISOLATIONISM، كما أن الشعور الغالب لدي الساسة الأميركيين كان يتمركز حول فرضية أن أي تدخل في السياسة الأوروبية من شأنه أن يجلب الحروب والويلات على هذه الدولة الوليدة، كذلك فإن البعد الجغرافي عضد من هذا الاتجاه، فضلا عن أن الامتداد الإقليمي الواسع غير المستغل حتى ذلك الوقت جعل الشاغل الأساسي للساسة الأميركيين منكبا على الساحة الداخلية وبدرجة أقل الكاريبي وأميركا اللاتينية غير عابئ بالسياسة الأوروبية، خاصة أنه كان يُنظر لأوروبا على أنها قارة الصراعات والحروب الممتدة.

ومع مرور الوقت ودخول الدولة الفتية مرحلة الاستقرار السياسي والاقتصادي التدريجي بدأت تظهر الأصوات التي تطالب بترك هذه السياسة، فتمثلت بدايتها في مبدأ «مونرو» والذي اعتبر أي تدخل في شؤون الأميركيتين مرفوضا ويتعارض مع المصلحة القومية الأميركية، ثم بدأت تتوسع خارجيا بحركة بطيئة في محيطها ثم بدأت تزيد فيما بعد، ثم جاءت الحرب الأميركية الإسبانية في ختام القرن الثامن عشر لتبدأ مرحلة التوسع الخارجي، ويلاحظ في هذا الإطار أن الولايات المتحدة لجأت لسياسة مشابهة لبريطانيا وبدرجة أقل روما، وهي سعيها المستمر لفتح أسواق تجارية لها خاصة في دول آسيا الشرقية، وذلك اقتناعا منها بأن التجارة عنصر هام في التطور الاقتصادي فلم تنكب على نفسها اقتصاديا وتجاريا مثلما انكبت على نفسها سياسيا وفي علاقاتها الخارجية.

وقد ظلت الولايات المتحدة مترددة في إعلان انطلاقها كقوة دولية حتى اضطرت للدخول في الحرب العالمية الأولي عقب إغراق البحرية الألمانية لسفينتيها «لوسيتانيا» و«الألجونكوين»، خاصة مع المواقف الألمانية المناوئة لسياسة تدخل الولايات المتحدة في الشؤون المكسيكية، وهو ما أسفر عن قرار الرئيس «وودرو ويلسون» خوض غمار الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا، فأرسل أكثر من مليون جندي بقيادة الجنرال «بيرشينغ» ليقلب موازين الحرب لصالح بريطانيا وفرنسا، ولعل هذا التردد في الانخراط الدولي هو ما ميز الولايات المتحدة عن الدولة الرومانية وبريطانيا واللتان كانت لهما أهدافهما التوسعية منذ البداية ولم يترددا في عملية الانخراط السياسي الخارجي.

وجدير بالإشارة أن انتصار الولايات المتحدة وتحمس رئيسها ويلسن لتكوين عصبة الأمم، لم يشفع لاستمرار هذا التوجه، بل إن الكونغرس استمر في فرض سياسته الانعزالية بقيادة «هنري كابوت لودج» والذي حارب كل خطط ويلسون للانفتاح الخارجي، ولكن العودة للانعزالية لم يكن الخيار الممتد أو الدائم للولايات المتحدة والتي أصبحت مصالحها المتشابكة تفرض عليها الخروج من الفكر القاري الضيق إلى العالم الأوسع، فسرعان ما بدأت الولايات المتحدة تنخرط في السياسة الدولية بمجرد دخولها الحرب العالمية الثانية، والتي دخلتها أيضا نتيجة خطأ مماثل لإغراق سفينتيها في الحرب العالمية الأولي، ولكن في هذه المرة فإن اليابان قامت بمهاجمة «بيرل هاربر» واضعة الولايات المتحدة كطرف مباشر في هذه الحرب وكحليف أساسي ضد قوى المحور ممثلة في النازية الألمانية والشمولية اليابانية والفاشية الإيطالية، وقد كانت هذه الحرب بداية لظهور المارد الأميركي كقوة دولية أحادية فيما بعد بفلسفة وفكر يختلفان بشكل كبير عن أي إمبراطورية أخرى عبر التاريخ كما سنرى في الأسبوع المقبل.

* كاتب مصري