ليبيا.. ابحث عن الأمن والقبيلة

في كل مدينة أزمة كبيرة.. سيارات مفخخة للمرة الأولى وعمليات اغتيال وهجمات على مقرات الأمن

مشاهد الدمار الذي شهده مقر القنصلية الأميركية في بنغازي في سبتمبر الماضي (أ.ب)
TT

قبل نحو أسبوعين من احتفالهم بالذكرى الثانية لاندلاع انتفاضتهم الشعبية الناجحة ضد نظام حكم العقيد الراحل معمر القذافي عام 2001 ما زال الليبيون يتساءلون عن الأمن والاستقرار في بلد يفوق عدد الأسلحة المنتشرة فيه الآن بكل أنوعها، عدد مواطنيه الستة ملايين نسمة تقريبا على مساحة جغرافية واسعة النطاق تتطلب جيشا مفتقدا ومنظما وعلى مستوى عالٍ من التسليح.

بات عاديا أن يستيقظ سكان العاصمة طرابلس في أي وقت على أصوات الأعيرة النارية والمتفجرات شبه اليومية على أن الأمر بدأ يتحول إلى الأسوأ في بنغازي ثاني كبريات المدن الليبية ومهد الثورة ومعقل الانتفاضة ضد القذافي. في كل مدينة ليبية ثمة أزمة كبيرة في الأمن، بيد أن الكابوس الحقيقي بدأ يتجول مترجلا أيضا في بعض شوارع المدن المخطوفة من قبل ميلشيات مسلحة ما زالت تزعم أنها من كتائب الثورة ولا تريد أن تتخلى بسهولة عن السلاح الذي ترفعه الآن في مواجهة المواطن العادي والسلطات الرسمية.

مر أكثر من عام على سقوط نظام القذافي ومقتله في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام قبل الماضي لكن الوضع الأمني يراوح مكانه في دولة تتطلع إلى إعادة بناء ما دمرته الحرب شبه الأهلية التي شارك فيها حلف شمال الأطلنطي (الناتو) لإسقاط القذافي. وإذا سألت أي مواطن ليبي بشكل عابر عن مشكلته الأولى سيقول لك باختصار «الأمن» في دولة عاشت نحو 42 عاما تحت حكم القذافي دون أن تشتكي وضعا أمنيا مماثلا.

مؤخرا بات الأمن هو هاجس الجميع، وبات الوضع في مالي ينعكس على الدول المجاورة، ويضع تحديات جديدة أمام حكومة طرابلس، فقنصليات الدول الغربية في بنغازي بدأت تغلق مقراتها وتسحب العاملين فيها، وامتد الأمر أيضا ليشمل رعايا هذه الدول. وأمس قالت بريطانيا إنها على علم بخطر «محدد ووشيك» على الغربيين في مدينة بنغازي وحثت رعاياها على المغادرة. يجري ذلك من دون أن تقدم السلطات الليبية تفسيرا مقنعا لعجزها طيلة أكثر من عام على فرض الأمن.

في حديثه «الشرق الأوسط» بدا وزير الداخلية عاشور شوايل متفائلا بقدرته على ضبط الأمور خلال المرحلة المقبلة، لكنه اعتبر أيضا أن ثمة دورا رئيسيا لقوى المجتمع المدني ومؤسساته والقبيلة في خطته لبسط الأمن. واتخذت الحكومة الانتقالية برئاسة الدكتور علي زيدان خطوة غير مسبوقة بإغلاق حدود ليبيا مع الدول الأربع لجوارها الجغرافي جنوبا وهي الجزائر والسودان وتشاد والنيجر، في خطوة تستهدف تحويل منطقة الجنوب الليبي إلى منطقة عسكرية يجري تمشيطها من كل الجماعات الخارجة عن القانون.

وما يلفت الانتباه هنا هو أن الخطوة غير المسبوقة التي اتخذتها حكومة زيدان لإغلاق الحدود الجنوبية، كانت تالية لمناقشات لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في اجتماع عقدوه مؤخرا في العاصمة البلجيكية، قدموا خلاله اقتراحا يقضي بإرسال مدربين إلى ليبيا في الأشهر المقبلة لمساعدة الحكومة على تأمين حدودها في مواجهة تهريب الأسلحة. والحاصل أن الأوروبيين يتحدثون علانية عن خطط لإرسال بعثة لمحاولة وقف تهريب الأسلحة التي تدفقت من ليبيا منذ الإطاحة بالقذافي ووصلت إلى مقاتلي تنظيم القاعدة وساعدت في إذكاء التمرد الانفصالي في شمال مالي.

ومع ذلك، فإن ثمة من يقول إن المعضلة الأمنية في ليبيا الخارجة لتوها من أتون حرب شبه أهلية انتهت بسقوط القذافي ومقتله، لها الكثير من التعقيدات منها ما هو قبلي ومنها ما يتعلق بالولاء للنظام السابق. ويقول تقرير سرى كتبه أحد قيادات الثوار وحصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه إنه بعد إسقاط هرم السلطة في ليبيا حاول الثوار تفادي الاصطدام المباشر بأعضاء المؤسسة الأمنية والعسكرية وكان المجال أمامهم مفتوحا لتطهير مؤسساتهم من العناصر التي عملت مع النظام السابق وكان لها موقف سلبي من ثورة السابع عشر من فبراير (شباط).

ولاحظ أنه في المنطقة الغربية ونظرا لطول فترة القتال كانت المدة كافية لفرز وتصنيف هؤلاء فمن التحق بالثورة معلوم ومعروف ومن تباطؤ عن الالتحاق معلوم ومن وقف إلى صف النظام الهالك معلوم، بينما في شرق البلاد ونظرا لقصر فترة القتال فإن المؤسسة العسكرية والأمنية احتفظت بكل مكوناتها ولم يحصل أي تغيير خاصة في العناصر العاملة في الأجهزة ذات الطابع القمعي كالأمن الداخلي وجهاز مكافحة الزندقة وغيرها من الأجهزة التي ساهمت في قمع الليبيين طيلة العقود الأربعة من عمر النظام.

ويرصد التقرير كيف أن أفراد المؤسسة الأمنية والعسكرية في ليبيا يرفضون العمل تحت إمرة مدنيين فيما يتعلق بمنصب وزيري الداخلية والدفاع وهم مسؤولون عن عرقلة بناء الجيش الليبي الذي نطمح جميعا إليه وليس جيش النظام السابق وذلك بالتفافهم على وزير الدفاع المدني ونزع السلطات عنه وفي نفس الوقت هم مسؤولون عن التشويه الذي حصل في المؤسسة الأمنية عندما اضطر وزير الداخلية وهو مدني أيضا إلى إنشاء جسم مواز لوزارة الداخلية وهو اللجنة الأمنية العليا.

يقول أحد قيادات الثوار في تحليله للوضع الأمني إنه لفهم الواقع في ليبيا لا بد من فهم طبيعة التركيبة الديموغرافية للقبائل الليبية معتبرا أن ليبيا الدولة الحديثة المعاصرة التي من المفترض أن يقطنها شعب اسمه الشعب الليبي لم تقم على الإطلاق.

وأضاف: «ينسى الجميع حقيقة تاريخية واضحة وهي أن الشعب الليبي عبارة عن مجموعة قبائل تقيم على بقعة جغرافية شاءت ظروف الاستعمار والحروب العالمية أن تقع بين مصر المستعمرة الإنجليزية والجزائر المستعمرة الفرنسية ووجدت فيها إيطاليا فرصة لإحياء أمجاد الإمبراطورية الرومانية لكن إيطاليا وإن نجحت في احتلال البلاد بالقوة العسكرية فإنها لم تنجح في إقامة دولة وظل الأمر على ما هو عليه حتى تدخلت الأمم المتحدة وأنشأت كيانا جغرافيا وسياسيا وأعلنته دولة أطلق عليه اسم ليبيا إلا أن شعب هذا الكيان لم يتوحد بل ظل محتفظا بخصائصه القبلية وإن شهدت المدن نوعا من الانصهار والتمازج القبلي إلا أن هذا التمازج غالبا ما شابته الجهوية التي خلقتها في أغلب الأحيان الانتماءات الجغرافية للقبائل الليبية.

وعلى الرغم من تعدد المحاولات الانقلابية على نظام القذافي فإنها فشلت جميعا نظرا لأن القذافي صهر استمرار مصالح كل تلك القبائل في استمراره هو شخصيا حتى إن بعض أشهر الانقلابات التي حصلت في ليبيا كانت تنسب إلى قبائلها كانقلاب ورفلة (على الرغم من أن من قاموا بها لا ترجع أصولهم إلى قبيلة ورفلة إنما هم من النازحين الذين جاوروا القبيلة لكثير السنوات) أو انقلاب الرائد عمر المحيشي الذي يحسب على مدينة مصراتة والتي ينتمي إليها المحيشي عضو مجلس قيادة الثورة وأحد رفاق القذافي.

ما حدث في الثورة وما بعدها من أحداث يرجع من وجهة نظر مسؤول في وزارة الداخلية الليبية إلى مسألة الانتماءات القبلية هذه وما يصفه بصراع قيادات هذه القبائل على تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وجهوية قد يكون لها في حال استمرت تأثير سلبي على الوضع السياسي في البلد.

لكن والحديث لنفس المسؤول فإن الجميع الآن يتنافس - وإن سرا - على من يرث الوضع الاجتماعي والسياسي لقبيلة القذاذفة والكل يرى في نفسه الأصلح لهذه المهمة. وهذا أمر أرى أنه يدل على قصر النظر والجهل بطبائع الأمور.

ويلخص خبير أمني عربي عاش في ليبيا لسنوات القصة بقوله «لتعرف أصل كل مشكلة في ليبيا فقط ابحث عن القبيلة وستجد الحل مباشرة فليبيا دولة القبائل لا دولة الشعب».

قبل تعيين العميد عاشور شوايل وزيرا للداخلية بعد شد وجذب بين المؤتمر الوطني وحكومة زيدان من جهة وبين حكومة زيدان ولهيئة العليا لتطبيق معايير النزاهة والوطنية (وهي الجهة المفوضة بإقصاء كل المحسوبين على نظام القذافي من العمل في دولاب الدولة الليبية) من جهة أخرى، كاد الوضع الأمني أن يكون منهارا كليا لأسباب قبلية في معظمها.

وعلى سبيل المثال فوزير الداخلية السابق فوزي عبد العال مثلا وهو مصراتي الأصول عين وكيل وزارة في المنطقة الشرقية من أصول مصراتية أيضا لأسباب قبلية محضة بغض النظر عن الكفاءة من عدمها إلا أن ضباط الشرطة وقيادتها أيضا رفضوا قرار الوزير وهددوا بالاستقالة الجماعية وهم أيضا كانت دوافعهم قبلية، حيث كان المطلوب أن يكون الوكيل في المنطقة الشرقية ابن إحدى قبائل الشرق الليبي وإن لم يعلنوها صراحة ومصراتة وإن استوطن جزء من أبنائها شرق البلاد إلا أن أصولهم ترجع إلى الغرب الليبي.

هذا مثال على المعضلة في ليبيا أضف إلى ذلك تعقيدات آيديولوجية أخرى، فالإسلاميون في ليبيا ينتشرون في المناطق المتحررة من القبلية خاصة في المدن الكبيرة كطرابلس وبنغازي ومصراتة والزاوية وغريان وهي المدن التي تشهد اختلاطا نسبيا بين أفراد القبائل المختلفة ما يفسح المجال أمام الآيديولوجية الدينية لتكون اللاعب الأساسي.

ولن يكون مستغربا حينها أن نعرف أن أغلب قيادات التيار الإسلامي هي من مصراتة مثلا سواء في شرق البلاد أو في غربها وأن النسبة الغالبة من المعتقلين في سجون القذافي كانوا من أبناء المدن لا من أبناء القبائل كدرنة وبنغازي ومصراتة وطرابلس والزاوية والتي كان غالبا عليها التحرر من العصبية القبلية.

ثمة من يقول إن الحل في ليبيا لن يكون إلا عن طريق جلوس هذه القبائل للتحاور والاتفاق على ملامح المرحلة المقبلة فالوضع في ليبيا متأزم وهو قريب من الوضع اليمني وإن كان وجود البترول قادرا على حل الكثير من الخلافات والتقريب في وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين وأن تأسيس الدولة مع مراعاة النواحي القبلية والجهوية والعرقية أمر ضروري في هذه المرحلة لا يجب على الساسة إغفاله.

النموذج في ليبيا نموذج فريد ومتميز ولا يتأتى استيراد نماذج دول أخرى وتطبيقها في الحالة الليبية فالحديث عن دولة إسلامية في ليبيا أمر صعب وهو يشبه الحديث عن دولة مدنية تقوم على أساس وجود شعب هو غير موجود أصلا، فالمشهد الليبي ينقصه مصطلح «الشعب الليبي» وهو في مجمله مشهد لقبائل تقيم على بقعة جغرافية واحدة وتربطها لغة واحدة لكن كل منها تمكنت خلال عشرات السنين من تشكيل هوية قبلية لها تميزها عن غيرها من القبائل.

وربما لهذه الأسباب أعلنت وزارة الخارجية الألمانية برنامجا قالت إنه سيمتد لعدة سنوات من شأنه تحسين مستوى الأمن في ليبيا، وذلك في إطار شراكة ثنائية في مرحلة ما بعد الثورة في مجال الرقابة على التسلح.

ويهدف البرنامج كما يقول موقع الوزارة على شبكة الإنترنت، إلى مساعدة الحكومة الليبية في إزالة وتطهير أماكن المعارك ومخلفات المواجهات المسلحة مثل الذخائر ورؤوس الصواريخ. ويتم تطبيق البرنامج بالتنسيق الوثيق مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومانحين آخرين في مجال الأمن.

وخصصت وزارة الخارجية الألمانية لهذه الشراكة في الفترة من 2011 حتى 2015 مبلغا يصل إجمالي قيمته 3،6 مليون يورو، علما بأنه تم في العام الماضي دعم تأسيس هيئة ليبية مختصة بإزالة الأسلحة بمبلغ قدره 750 ألف يورو.

ويلاحظ فريدريك ويري كبير الباحثين في برنامج الشرق الأوسط في معهد كارنيغي الأميركي للأبحاث والدراسات، أنه على الرغم من نجاح الانتخابات البرلمانية التي عُقِدَت في أوائل شهر يوليو (تموز) المنصرم،، فما زالت الخلافات المحلية على الهوية والطاقة والموارد قائمة في ليبيا، ما يؤثر على قدرة الحكومة الضعيفة، ويثني الاستثمارات الأجنبية عن الدخول إلى ليبيا، وربما يعرقل ظهور مؤسسات ديمقراطية.

وللمساعدة في كبح العنف واستعادة ثقة المنطقة الشرقية بالدولة، يعتقد ويرى أنه يجب على الحكومة تسريح الكتائب الثورية الكثيرة في البلاد وتعزيز الجيش الوطني والشرطة، كما ينبغي أن تكون الأولوية لإضفاء الطابع الاحترافي على اللجان الأمنية العليا، وهي هيئات تشبه الشرطة أصبحت غير خاضعة للمساءلة ولا تحظى بالثقة على نطاق واسع. في المقابل يرى طارق متري الممثل الخاص للأمين العام لليبيا إن إصلاح القطاع الأمني وتفعيل السلطة القضائية بشكل كامل، هما أمران أساسيان ينبغي على السلطات الليبية أن تقوم بتعزيزهما. وبشكل واضح يضع متري إصبعه على الجرح قائلا: «وفي حين أن الكثير من المرافق هي الآن تحت سيطرة المجالس العسكرية المحلية أو اللجان الأمنية المرتبطة بوزارة الدفاع أو العدل، إلا أن بعضها لا يزال خارج سيطرة أجهزة الدولة». والحاصل أن الأمن ما زال مفقودا في دولة عانت كثيرا من دمار شبه شامل أتى على بنيتها التحتية وجرف معه بقايا مؤسسات الدولة، بينما رجل الشارع العادي يتساءل في المقابل عن حقوقه في العيش بأمان دونما اعتبار لكيفية حدوثه. وما بين حالة اللاأمن فإن الضغوط تتصاعد على رجال لشرطة للقيام بواجب هم ليسوا مؤهلين أو مهيئين للقيام به، لتتصاعد الأزمة بشكل يومي إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.