لمحات من بلاد فارس

د. محمد عبد الستار البدري

TT

مثلت دولة فارس أحد الأركان الأساسية في معادلة القوة الدولية لقرون طويلة، فهي الدولة التي تم تأسيسها في القرن السادس الميلادي والتي لعبت دورا مهمّا للغاية بوصفها مصدر قوة على المستوى الدولي لقرون ممتدة أو مركز إشعاع فكري له قيمته حتى وإن لم يكن لينافس مصادر الحضارة التقليدية في العالم القديم وعلى رأسها مصر والحضارة السومرية واليونانية.. ومع ذلك، يبقى أنها امتدت لقرون طويلة حتى وإن كان ذلك على فترات غير متصلة، والثابت أن الجغرافيا الفارسية كان لها أكبر الأثر في التطور التاريخي لهذه الدولة العريقة، فهذه الأرض الجبلية ذات التضاريس القاسية باستثناءات قليلة نسبيا، لم تكن جاذبة للسكان، وبالتالي، فإنها لم تكن مركزا على مدار أكثر من ألفي عام لأية محاولة لبناء حضارة ثابتة أو راسخة فيها، والثابت أيضا أن الفرس لم يكن لديهم الثقل الثقافي نفسه مقارنة بالحضارات الأخرى، فهم لم يطورا نظاما للكتابة إلا متأخرا.

وقد نجحت محاولة بناء الدولة الفارسية الحديثة على أيدي الملك سيروس عام 559 قبل الميلاد، الذي استطاع من خلال تحركات عسكرية ناضجة أن يلم شمل دولة فارس خلال عشرين عاما، بما في ذلك مملكة «ميديس» Medes في شمال شرقي نهر دجلة التي كانوا خاضعين لسلطانها، وهناك بعض الروايات التاريخية التي تشير إلى أن السهولة التي ضم بها الملك «سيروس» هذه الأقاليم جاءت بسبب علاقة نسب ربطت جده بملوك هذه المملكة.

بدأت تحركات الملك «سيروس» خارج النطاق التقليدي لمنطقة فارس من خلال ضمه مملكة «ليديا» في الشمال الغربي وذلك على الرغم من التحالف القائم بين هذه المملكة ومصر ودولة إسبرطة لمحاولة القضاء على النفوذ الفارسي الصاعد، ثم بدأت الدول والأقاليم تتساقط أمام قوة دفع الدولة الفتية الجديدة، فتم الاستيلاء على منطقة بابل وما بين النهرين التي اشتهرت بالخصوبة، خاصة الدولة البابلية التي خارت قواها بسبب مساعدة اليهود ومجموعات من الشعب القلدوني الذي كان يترنح تحت الحكم البابلي، وقد أضافت هذه المنطقة الخصبة قوة جديدة لدولة فارس لأسباب اقتصادية مفهومة، ولكن القدر لم يمهل «سيروس» أكثر من هذا، فورث «قمبيز» المهمة من والده وقام بتوسيع رقعة أرضه الجديدة من خلال الاستيلاء على مصر في عام 525 وغيرها من الأقاليم المجاورة.

لقد كان من الممكن أن تنظم دولة فارس نفسها بشكل يسمح لها بفرض سيطرتها على المنطقة بلا أي منازع، ولكن الظروف التي أحاطت أسلوب حكمها عكست بشكل كبير نوعا من التوتر المستمر بسبب طريقة الحكم في الدول والحضارات التي تم ضمها لرقعة الدولة الفارسية، فلقد كان النظام الإداري المتبع من أعلى أنواع النظم الشمولية المبنية على الكبت العسكري لضمان عدم خروج هذه الأقاليم عن سلطة الملك، ولكن إحدى المشكلات الأساسية التي ارتبطت بذلك يمكن إرجاعها لحالة عدم الثقة التي انتابت الملوك الفرس وخوفهم المستمر من الثورات أو الظروف السياسية المرتبطة بخيانة رجال الدولة وتغيير ولائهم.. بالتالي، ارتبطت الدولة بنظام إداري قاس للغاية مبني على حاكم عسكري قائد للحامية أو الجيش ولكنه لم يكن بلا رقيب، فلقد تم إرسال عيون للملك من الأقارب والحاشية لضمان ولاء الحكام العسكريين.

ولعل أهم ما ميز مملكة فارس كان نظام الطرق الذي تم وضعه بكل دقة لربط الإمبراطورية وضمان التواصل الممتد مع الأقاليم المختلفة بما يساهم في بسط السيطرة، وهو نظام الطرق والاتصالات نفسه الذي كان له أكبر الأثر في تجهيز الجيش تلو الآخر عندما بدأت الدولة الإسلامية الفتية في غزو الدولة الساسانية كما سيأتي ذكره، وهو مما مكن هذه الدولة من السيطرة والحشد العسكري بشكل أسرع من أية دولة أخرى.

كل هذه المحاذير العسكرية لم تكن لتمد في عمر الإمبراطورية كثيرا لأسباب تتعلق بطريقة الإدارة ذاتها، فلقد عمت الثورات في كل مكان، خاصة في مصر وليديا وبلاد ما بين النهرين، وهذه كانت سنة الظروف السياسية المرتبطة بهذا الحكم، ولكن في حقيقة الأمر، فإن هناك عددا من الأمور التي عجلت بزوال هذه الدولة، خاصة بعد بداية حكم الملك «دارايوس الأول»، فلقد أدخل هذا الرجل بلاده في حالة حرب ممتدة بدأها بحملات صوب الغرب ناحية إقليم ثراس اليوناني حيث كان يأمل في ضم شبه الجزيرة اليونانية إلى مملكته، ولكنه وحد كل القوى اليونانية ضده فكانت النتيجة هزيمة قاسية للفرس في حملتهم من خلال عدد من المعارك الشهيرة أهمها «سلاميس» البحرية التي سبق تناولها في إحدى مقالات هذا الباب.

لقد كان للهزيمة الفارسية أثرها المباشر في إضعاف الدولة الفارسية، فلقد اعتمدت هذه الدولة على الانتصارات العسكرية من أجل تقوية موقفها السياسي، وبمجرد إلحاق الهزيمة، بدأت الأقاليم المختلفة تنتفض ضد الحكم الفارسي مستغلة هذه الظروف الحديثة، ولكن الضربة النهائية جاءت ضد هذه الإمبراطورية من خلال الفتح المقدوني لها على يد الإسكندر الأكبر الذي عبر بجيوشه مدعوما باقتناع شخصي بأنه ابن الإله ليفتح العالم الفارسي ويخضعه لليونان، وقد استطاع هذه الشاب أن يحطم هذه الإمبراطورية العتية في سنوات قليلة للغاية، خاصة بعد معركته الشهيرة «جواجاميلا» أو «اربيلا» كما يدونها كثير من الكتب التاريخية، وقد تزوج الإسكندر في ما بعد «روكسانا» ابنة ملك فارس المقتول؛ حيث كان يسعى بعد حروبه مع دولة فارس إلى العمل على خلق ثقافة مشتركة مبنية على التزاوج بين حضارتي اليونان وفارس، ولكن هذا التوجه فشل بمجرد موت الملك الشاب.

وعلى الرغم من زوال دولة فارس في مدة زمنية قصيرة نسبيا، فإنها تركت للعالم بعدا ثقافيا لا بأس به كما سنرى في الأسبوع المقبل.

* كاتب مصري