إياد أغ غالي.. «ثعلب الصحراء»

زعيم جماعة أنصار الدين في شمال مالي تحول من قائد قومي إلى أمير جهادي

TT

عندما قاد إياد أغ غالي، زعيم جماعة أنصار الدين الإسلامية في شمال مالي، معارك كونا، مطلع يناير (كانون الثاني) الماضي، التي هاجم فيها جنودا ماليين يتدربون على يد عسكريين فرنسيين وأوروبيين مخلفا في صفوفهم عددا كبيرا من القتلى، بات مباشرة، الهدف الأول للقوات الخاصة الفرنسية التي دخلت الأراضي المالية بعد العملية بأيام، لحماية دولة مالي من الانهيار كما تقول باريس.

وقاد أغ غالي المالي الجنسية، برفقة زميله عبد الحميد أبو زيد (أمير كتيبة طارق بن زياد)، المعارك في بلدة «ديابالي» التي طرد منها الجيش المالي، فارضا بذلك على الفرنسيين توسيع دائرة المواجهة معه وحلفائه قبل أن تبتلعه الصحراء ويتحصن في جبال تغرغارت، قرب كيدال في أقصى الشمال الشرقي لمالي على الحدود مع الجزائر.

ورغم كل الجدل الذي أثاره هذا الرجل الخمسيني من العمر، طيلة حياته، فإن كثيرين من أبناء جلدته يجمعون على أنه قائد تاريخي في إقليم أزواد، ساهم في إطلاق شرارة التمرد في 28 يونيو (حزيران) 1990، عندما هاجم مدينة منيكا، شمال شرقي مالي، على رأس الحركة الشعبية لتحرير أزواد، التي تأسست سنة 1984.

فالرجل قصير القامة ممتلئ الجسم، الذي يرتدي العمامة التي تميز الطوارق في الصحراء الكبرى، يتمتع بهيبة كبيرة في مجالسه، ويرتدي ملابس أفريقية لا تخفي ثراءه الكبير. يصفه مراقبون بأنه «كتوم» ولا يتحدث في مجالسه إلا نادرا.

ويقول عنه أحد المحللين الموريتانيين المهتمين بالجماعات الجهادية في منطقة الساحل الأفريقي، التقاه عندما كان غالي ناشطا في جماعة الدعوة والتبليغ الباكستانية، التي تتجنب الخوض في القضايا الخلافية وتدعو إلى توحيد الأمة الإسلامية ونبذ العنف: «كان أغ غالي طيبا وبشوشا وفي غاية التدين، وذا هيبة في مجلسه، لكنه كتوم ولا يكثر من الحديث».

مسيرة طويلة ومتقلبة خاضها غالي بدأت في الجبال القريبة من مدينة كيدال في أقصى الشمال المالي، حيث ولد لعائلة ذات نفوذ في قبائل الإيفوغاس الطوارقية، وهي القبائل المعروفة بأنها ذات شوكة وقوة في منطقة أزواد (كما يسمون الطوارق شمال مالي)، ويتحدث بعض أصدقاء أغ غالي في شبابه عن حياته الماجنة والمليئة بالموسيقى والشعر، والسهر على أحاديث السياسة.

جاء الجفاف ليضرب بقوة منطقة الساحل والصحراء، منهيا بذلك حياة الرغد التي عرفها الطوارق، فكان قدر شباب الطوارق ورجالهم أن يشدوا الرحال إلى ليبيا وبعض الدول المجاورة، ومن بين هؤلاء إياد أغ غالي الذي وصل في ثمانينات القرن الماضي إلى ليبيا لتبدأ مسيرة أخرى في بلاط العقيد الليبي الراحل معمر القذافي.

غالي المتحدر من أسرة غنية، تلقى في ليبيا تكوينا عسكريا في صفوف الكتيبة الخضراء التي شكلها القذافي من الطوارق؛ وبعد أن برع في التكوين استحق على العقيد الليبي أن يكون ضمن البعثة التي أرسلها إلى لبنان من أجل المشاركة في القتال إلى جانب الفلسطينيين ضد الميليشيات المسلحة والإسرائيليين.

ويشير بعض المقربين من إياد أغ غالي إلى أن مهمته في لبنان كانت أول تجربة عسكرية حقيقية له، وأنه عاد منها رفقة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، على متن باخرة فرنسية، لتبدأ بذلك قصة لهذا الزعيم الطوارقي مع الجيش الفرنسي لم تنته حتى اليوم؛ وتميزت بفترات تقارب وتنافر كانت «عملية القط الوحشي» آخر حلقاتها.

بعد عودته من لبنان بسنوات، كان إياد أغ غالي رهن إشارة العقيد الليبي الراحل في مهمة نفذتها وحدات ليبية داخل الأراضي التشادية من أجل مساعدة المتمردين الذين يسعون إلى إسقاط نظام الرئيس السابق حسين حبري، ولكن الجيش الفرنسي كان بالمرصاد لهذه العملية فأوقفها.

بعد كل هذه المغامرات العسكرية عاد غالي إلى شمال مالي مطلع التسعينات من القرن الماضي، حيث شرع في تشكيل قوة عسكرية متمردة ضد الحكومة المركزية في باماكو؛ وهو التمرد الذي استمر لأكثر من عشرين عاما كان أغ غالي هو المتحكم الرئيسي فيه، حيث خاض المعارك وأبرم الاتفاقيات، قبل أن يؤسس جماعة أنصار الدين العام الماضي ويسعى لتأسيس إمارة إسلامية هي الأولى من نوعها في أزواد.

ورغم التفاف بني جلدته حوله، فإن الخلافات بدأت تدب في صفوف مسانديه عندما أبرم اتفاقية «تمنراست» 1991 مع الحكومة المالية، مما أدى إلى تفكك الحركة الشعبية الأزوادية إلى ثلاث حركات قاد منها إياد أغ غالي الحركة الشعبية الأزوادية التي يمكن اعتبارها النسخة الأولى من حركة «أنصار الدين» ولكنها ذات طابع قومي، حيث شكلها من آلاف المقاتلين المتحدرين من قبيلته «الإيفوغاس».

كان إياد أغ غالي هو الداعم الوحيد للاتفاق الوطني سنة 1992. قبل أن يصل لدرجة إعلان حل الحركة الشعبية الأزوادية سنة 1996 بمناسبة الشعلة الوطنية في تمبكتو، ولكنه عاد إلى التمرد في «حركة الائتلاف الديمقراطي من أجل التغيير» التي أصبح أمينها العام، ليعود بعد ذلك إلى توقيع اتفاقية الجزائر سنة 2007.

أصبح إياد أغ غالي في تلك الفترة مقربا جدا من السلطة المركزية في باماكو، حيث تم تعيينه نوفمبر (تشرين الثاني) من سنة 2007، مستشارا في القنصلية المالية بمدينة جدة في المملكة العربية السعودية؛ قبل أن يتم ترحيله سنة 2010 بتهمة «علاقات مشبوهة مع تنظيم القاعدة».

عاد أغ غالي بعد عامين بعد ذلك إلى الواجهة في جماعة «أنصار الدين» التي قال: إنها «حركة شعبية جهادية» تسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في مالي.

ويرى معارضو إياد أغ غالي أن الغموض الذي يحيط به هو سر تفوقه وبقائه الزعيم التاريخي للتمرد في إقليم أزواد، سواء كان زعيما قوميا يحمل مشروعا وطنيا، أو زعيما جهاديا يسعى لتأسيس إمارة إسلامية. ويؤكد هؤلاء أنه رغم أن أغ غالي يتحدر من إحدى أكبر القبائل وأكثرها نفوذا في شمال مالي، فإنه احتاج إلى من يزيح عنه منافسيه ليتزعم المشهد في إقليم أزواد.

في هذا السياق يقول أبو بكر الأنصاري، مثقف وكاتب من الطوارق، لـ«الشرق الأوسط» إن «المخطط الذي قاد إياد أغ غالي إلى النفوذ في أزواد بدأ في الجزائر سنة 1992 عندما تم التوقيع على اتفاقية تمنراست، حيث قام بعض الجنرالات الجزائريين بإحداث شرخ وهمي بين بعض أهالي كيدال وتمبكتو، من خلال تضخيم دور بعض المجندين من صغار الضباط وتهميش محمد عالي الأنصاري، الزعيم السياسي لثورة 92».

ويضيف الأنصاري المقيم في نواكشوط، أن «أغ غالي بدأ مرحلة من التحالف مع باماكو بعد اتفاق تمنراست، حيث تآمر معها على الرافضين للاتفاقية، فشن حربا على الجبهة العربية الإسلامية لتحرير أزواد، قتل فيها آلاف من قبيلة «العرب البرابيش» وتسببت في فقدان العرب المقيمين في تمبكتو للثقة في جيرانهم الطوارق، مما جعل بعض العرب يفضل التحالف مع باماكو خوفا من بطش إياد أغ غالي».

ويواصل الأنصاري بالقول إن «غالي خاض أيضا حربه الخاصة ضد قبائل إمغاد الطوارقية، وهو ما يرجعه البعض إلى تنافس شخصي بينه وبين الهجي أغ غامو، الضابط في الجيش الحكومي المالي، وهي الحرب التي أشعلت صراعا بين الحركة الشعبية لتحرير أزواد بقيادة إياد والجيش الثوري لتحرير أزواد بقيادة عبد الرحمن غلا، ولكن أغ غالي تمكن في النهاية من كسب الحرب بعد أن فقدت القبيلتان اللدودتان الكثير من المقاتلين».

وبنظرة تشكيك في هذه الحروب والأحداث التي رافقت صعود نجم إياد أغ غالي، يقول الأنصاري إن «هناك جهات إقليمية كانت تفتح لأغ غالي الأبواب وتزيح من أمامه المنافسين، فقتل مانو دياك 1995، الذي نافسه بقوة على الزعامة في إقليم أزواد، كما قتل إبراهيم أغ بهنغا أواخر عام 2011 في حادث سير مريب، وتم تهميش عيسى سيدي محمد رئيس الجبهة الشعبية لتحرير أزواد».

آخر محطات حياة أغ غالي إثارة تلك التي تتعلق بتحوله من شاب مقبل على الحياة إلى رجل هادئ شديد الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي من خلال رؤية سلفية بدأت حين أصبح يرفض مصافحة النساء ويفرض الحجاب على زوجته ويقيم الشريعة في محيطه العائلي، وأصبح أحد أكبر الناشطين في جماعة الدعوة والتبليغ الباكستانية، ليقوم برحلات دعوية قادته إلى عدد من الدول الأفريقية المجاورة لمالي من بينها موريتانيا.

غير أن مرحلة الدعوة والتبليغ لم تكف الرجل الذي أصبح يحمل رؤية سلفية جهادية، وكبر مشروعه ليصبح إقامة إمارة إسلامية تطبق الشريعة الإسلامية في إقليم أزواد تحت راية «أنصار الدين».

وفي تلك الأثناء بدأت علاقات إياد أغ غالي مع الجماعات الإسلامية المسلحة وعلى رأسها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، خاصة عندما اختطف التنظيم سنة 2003 أربعة عشر سائحا أوروبيا، لعب غالي دورا كبيرا في الوساطة من أجل تحريرهم، مستخدما في ذلك نفوذه القبلي والعسكري وشبكة علاقات معقدة مع الجماعات الإسلامية المسلحة التي اندمجت اجتماعيا مع القبائل المحلية.

غير أن الوجه الآخر للوساطات التي قام بها غالي ما بين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والدول الغربية، تمثل في حصوله على عمولات مادية كبيرة زادت من ثرائه ليصبح واحدا من أثرياء المنطقة التي تعاني من الفقر وينتشر فيها التهريب بكافة أنواعه.

وبالتوازي مع ذلك نمى التوجه الديني لدى إياد أغ غالي وتوطدت علاقاته مع زعماء التنظيمات السلفية الجهادية، ليتحول فيما بعد من حامل للمشروع الوطني القومي إلى صاحب مشروع إمارة إسلامية.

يقول إسلم ولد صالحي، الباحث المتخصص في شؤون الجماعات الجهادية في الساحل الأفريقي، لـ«الشرق الأوسط» إن «إياد أغ غالي شخصية لها وزن في إقليم أزواد، حيث بدأ مشروعه بالخطاب القومي وكان من قادة انتفاضة الطوارق سنة 1991. بعد ذلك وقع عددا من الاتفاقيات وهو مؤمن بأن حل القضية الأزوادية يمكن أن يكون سياسيا، ولكن – وللأسف- خاب أمله بعد الاتفاق الأخير الموقع في الجزائر سنة 2007، لأن البنود السياسية والاقتصادية والاجتماعية للاتفاق لم تطبق، في الوقت الذي طبق البند المتعلق بتخلي الطوارق عن السلاح؛ فكان بالنسبة له هذا الاتفاق مجرد محاولة لتحييد الطوارق ووأد مشروعهم.. فكانت خيبة أمله كبيرة».

ويضيف ولد صالحي «خيبة الأمل التي تعرض لها إياد أغ غالي تزامنت مع نزعة دينية قوية، ويعرف الجميع أنه منذ عشر سنوات انضم لجماعة الدعوة والتبليغ وسافر في رحلاتها الدعوية التي قادته سنة 2002 إلى مدينة نواذيبو في أقصى الشمال الموريتاني؛ وأمام تنامي هذه النزعة الدينية وتغذيتها بخيبة الأمل تحول أغ غالي من المشروع القومي إلى المشروع الديني، فسعى إلى تأسيس جماعة أنصار الدين التي طبقت الشريعة الإسلامية في مناطق واسعة من إقليم أزواد وقعت تحت سيطرته».

وأمام هذا التوجه الجديد لغالي يعود أبو بكر الأنصاري، ليقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «إياد أغ غالي كان زعيما للثورة في أزواد، ولكنه باع قضيته وخان المسيرة الوطنية وتحول إلى أداة تتلاعب به دول الجوار، وخاصة الجزائر، من أجل تخريب المشروع الوطني الأزوادي».

ويرجع أبو بكر الأنصاري التحاق مئات المقاتلين الطوارق بمشروع إياد أغ غالي الجديد لإقامة إمارة إسلامية في أزواد، إلى أن «منطقة أزواد تعيش أوضاعا اقتصادية صعبة والناس فيها يعانون من الفقر نتيجة للبطالة والجوع والجهل، وبالتالي فإنه عندما يأتي شخص مثل إياد أغ غالي ثري ولديه أموال طائلة فإنه يستطيع أن يشتري ذمم الجميع ويحولهم إلى مقاتلين لا يعصون له أمرا، خاصة إذا كان يتحدر من قبيلة عريقة وذات نفوذ».

ويحمل الأنصاري مسؤولية التدخل الفرنسي في شمال مالي، لإياد أغ غالي معتبرا أن ما قام به مؤخرا هو السبب المباشر للتدخل الفرنسي، مشيرا إلى أن هذا التدخل مرفوض لأنه جاء ليرجح كفة الدولة وليطمس معالم القضية الوطنية الأزوادية، على حد تعبيره.

وبين المشككين في إياد أغ غالي والمتفهمين له، يبقى الرجل واحدا من أكثر زعماء الطوارق إثارة للجدل، حيث استطاع أن يكون صاحب القرار المسموع في إمارة إسلامية زاد عمرها على عشرة أشهر في إقليم أزواد بالشمال المالي، وهي الفترة التي يرى إسلم ولد صالحي أنه أحرج فيها المحللين الغربيين حين عجزوا عن إلحاق صفة الإرهابي به.

وفي هذا السياق يقول ولد صالحي إن «إياد أغ غالي وضع المحللين الغربيين في حرج كبير؛ لأن المناطق التي وقعت تحت سيطرته لم يتم فيها اختطاف أي مواطن غربي، بل إنه أعاد مواطنة سويسرية وآخر إسبانيا إلى السلطات في وغادوغو وباماكو، بعد أن تم اختطافهما؛ كما لم تستهدف فيها مصالح الدول الغربية، وبالتالي فإنه إلى حد الآن لم يرتكب ما يجعل هؤلاء المحللين قادرين على وصفه بالإرهابي».