القواعد التاريخية للسياسة الأوروبية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تناولنا في الأسبوع الماضي بعض العوامل التي أثرت على مسيرة النظام السياسي الأوروبي اعتبارا من القرن الخامس عشر وحتى القرن الثامن عشر، وكيف أنها تفاعلت لتفتح المجال أمام إقامة نظام دولي ليس له شبيه على مر التاريخ، وإذا ما كانت تفاعلات ظهور حركة الإصلاح الديني مع التطور الاقتصادي الدولي على نمط ما قبل الرأسمالية مضافا إليها القوى الاجتماعية الجديدة والصاعدة المتولدة عن هذا التفاعل، كلها ساهمت في تغيير الخريطة السياسية والاجتماعية داخل الأقطار الأوروبية بصفة عامة، إلا أن المتغيرات على ساحة العلاقات الدولية في هذا النظام تأثرت بشكل كبير مع كل العوامل السابقة، فخلقت نظاما أوروبيا مختلفا حارب بقوة حلم القرون الوسطى في أوروبا، الذي سعى له الكرسي البابوي ومعه الإمبراطورية الرومانية المقدسة لتجميع خيوط القوة الأوروبية في أيدي هاتين المؤسستين تحت شعار «إله واحد وإمبراطور واحد»، أي أن تكون الكاثوليكية بقيادة الكنيسة في الفاتيكان هي الديانة الوحيدة والموحدة في أوروبا بينما تكون السلطة السياسية ممثلة في أيدي الإمبراطورية الرومانية المقدسة في فيينا.

لقد كسر هذا الحلم تحت وطأة ما عرف «بحرب الثلاثين عاما» والتي تفجرت خلال الفترة من 1618 وحتى 1648 داخل الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فيما يشبه الحرب الأهلية الداخلية ولكنها سرعان ما تحولت إلى حرب دولية شملت أغلبية من الدول الأوروبية، وهي ما يمكن اعتبارها أول حرب أوروبية إقليمية شاملة، ولكنها جاءت في رداء ديني تحت مسمى حرية العقيدة أمام سطوة الإمبراطورية الرومانية المقدسة وسعيها للإبقاء على المذهب الكاثوليكي سائدا في القارة الأوروبية، غير أنها كانت في حقيقة الأمر حربا سياسية من الطراز الأول سعى خلالها الأمراء داخل الإمبراطورية الرومانية الاستقلال عن السلطة المركزية للإمبراطور مستغلين حجة حرية العقيدة كغطاء لهذا الهدف، فلو كانت شرعية الإمبراطور الحاكم هي الديانة الكاثوليكية، فإن كسر هذه الشرعية باعتناق المذاهب البروتستانتية كان يمثل وسيلة الخلاص السياسي من سيطرة الإمبراطور، أما الدول الأوروبية فقد تدخلت في هذه الحرب لأهداف تتمحور حول مصالحها السياسية المختلفة، فنجد دولة مثل فرنسا الكاثوليكية تساند الأمراء البروتستانت ضد الإمبراطور والبابا لأسباب تتعلق برغبتها في كسر هيمنة الإمبراطورية الرومانية المقدسة حماية لنفوذها في القارة.

لقد انتهت الحرب في عام 1648 بالتوقيع على اتفاقية «وستفاليا Westphalia» والتي كانت علامة فارقة في التاريخ الأوروبي والدولي، ففي هذه الاتفاقية تم إقرار مبدأ هام للغاية وهو أن الأمير يحسم ديانة المقاطعة التي يحكمها، أو بمعني أدق أقرت مبدأ Cuius regio، eius religio أو الرعية على دين ملوكهم، وقد فتح هذا الاتفاق المجال أمام تطور مفاهيم أساسية وعلى رأسها مبدأ السيادة في شكلها التقليدي أي عدم وجود سلطة أعلى من الملوك والأمراء وأن تكون السيادة كاملة لهم على أقاليمهم من دون أية تدخلات خارجية، كذلك أسفرت اتفاقية وستفاليا عن نتائج هامة للغاية على رأسها أنها وضعت اللبنة الأساسية لعدد من الدويلات التي أصبحت فيما بعد دولا هامة للغاية، فلقد أقرت مقاطعة «براندنبورج» إقليما مستقلا وهو الإقليم الذي تحول فيما بعد لولاية بروسيا والتي استطاعت في القرن التاسع عشر توحيد كل الدول الناطقة باسم الألمانية في دولة ألمانيا، كذلك أقرت الاتفاقية توحيد «الأقاليم المتحدة» والتي أصبحت فيما بعد معروفة باسم هولندا، كما اعترفت بدولة سويسرا إلخ.

ومنذ اتفاقية وستفاليا تم إقرار مبدأ توازن القوى في التعامل داخل النظام الأوروبي للقرون التالية، وقد وصف هنرى كيسنجر هذا المشهد السياسي بمقولته الشهيرة «عندما تضطر مجموعة من الدول للتعامل مع بعضها البعض فهناك إحدى نتيجتين، إما أن تقوم دولة بالسيطرة على باقي الدول، أو أن أيا من الدول لن تملك القدرة على تحقيق ذلك، وفي هذه الحالة فإن أهداف الدولة المهيمنة يتم تحجيمها بتحالف من الدول الأخرى.. أو بمعني آخر بآلية توازن القوى»، وهذه المقولة تضع الأسس السياسية التي صار عليها النظام السياسي الأوروبي بعد هذه الاتفاقية، وقد سعى مؤرخون كثيرون لمحاولة تبسيط هذا النظام، إلا أنه يوجد اقتناع عام بأن آلية توازن القوى تضمنت سلوكا تقوم الدول خلاله بمواجهة الدولة التي تسعى لتغيير توزيعات القوة أو الهيمنة على النظام بسلسلة من التحالفات ضدها لتحجيمها وتهذيب قوتها.

وقد اتبعت الدول هذه الآلية من خلال مجموعة من التحركات شبه المنتظمة وعلى رأسها إقامة التحالف بمجرد أن تشعر الدول بأن التوازن بدأ يختل، ثم تأتي عملية التدخل ضد الدولة المعتدية سواء بالوسائل الدبلوماسية أو التحركات العسكرية ضدها لتعيد الأمور إلى نصابها، وبمجرد أن ينتهي العمل العسكري تبدأ الدول في صياغة التوازن من جديد بحيث لا تستطيع أية دولة أن تسيطر على النظام مرة أخرى.

وهكذا استمرت هذه السياسة بين الأقطار الأوروبية على مدار القرن السابع عشر، ولعل أخطر تحد واجه معادلات توازن القوى داخل القارة الأوروبية كان ما عرف «بحرب الوراثة الإسبانية» فعندما مات ملك إسبانيا بلا وريث سعى لويس الرابع عشر ملك فرنسا لتنصيب أحد أقاربه ملكا على إسبانيا، بينما سعت دولة النمسا لمحاولة الإبقاء على العرش داخل أسرة الهابسبورج الحاكمة، فدخلت فرنسا في حروب ممتدة مع أغلبية الدول الكبرى في القارة، فكانت النتيجة حربا ضروسا امتدت لسنوات طويلة انتهت باتفاق أعاد السلام لأوروبا تم بمقتضاه الاتفاق على ألا تتحد فرنسا وإسبانيا أبدا، وأن تحصل بريطانيا على مضيق جبل طارق لضمان أمن مدخل المتوسط، بينما تحصل النمسا على أراض في مناطق أوروبية مختلفة، وبهذا يكون التوازن قد أعيد للنظام الأوروبي.

لقد استمرت أوروبا تمارس هذه السياسة لقرون طويلة، فلم تستطع أية دولة أن تقلب التوازن مهما حاولت، ولكن النظام الأوروبي كان على موعد مع أكبر حرب شهدتها أوروبا والتي امتدت على مدار ما يقرب من ثلاثة وعشرين عاما كاملة كما سنتابع في الأسبوع القادم.