طبول الحرب العالمية الأولى

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لم تعرف البشرية حربا ضروسا كالحرب العالمية الأولى، فهي الحرب التي غيرت مجرى البشرية والسياسة الدولية وطريقة الحياة في العالم كله، ولكن يبقى السؤال الحائر الذي لطالما راود المؤرخين؛ هل كانت هذه الحرب ضرورة؟ هل كانت هذه الحرب حتمية؟ هل تتحمل ألمانيا وحدها المسؤولية عن هذه الحرب كما فُرض عليها وفقا لاتفاقيات الصلح في 1919؟ وكل هذه الأسئلة مشروعة، ولكن لا أحد يملك إجابة قاطعة عنها لأنها مرتبطة بظروف اندلاع الحرب العالمية الأولى.

وفي هذا الإطار، فإن هناك مجموعة من العوامل التي أدت لاندلاع الحرب العالمية الأولى والتي يمكن أن تتلخص في أهم العوامل التالية:

أولا: يُرجع العديد من المؤرخين اندلاع الحرب لطريقة التحالفات التي بدأت تتشكل في أوروبا خلال العقدين السابقين لها، فلقد كانت أوروبا في ذلك الوقت تمثل نظاما غير متجانس تسعى فيه الدول لتعظيم قوتها على حساب الأطراف المختلفة داخله، وقد كانت ألمانيا هي الدولة البازغة في القارة بما لديها من قوة اقتصادية هائلة وجيش نظامي خلفه شبكة من الصناعات والمواصلات تفوق أية دولة قارية أخرى، وقد كان للحرب الألمانية - الفرنسية التي اندلعت في 1870 وفقدان الأخيرة لكبريائها ومعه مقاطعة «الألزاس واللورين»، أثرها المباشر على تطور العداء بين هاتين الدولتين، وهو العداء الذي تمحورت خلفه التحالفات بأشكالها المختلفة، فلقد كان المستشار الألماني بسمارك يعمل دائما على تأمين جبهتي بلاده الشرقية من الروس، والغربية من فرنسا، وسعيا وراء هذا الهدف، دخل الرجل في مجموعة تحالفات أسفرت عن ضم روسيا لتحالفه القوي مع النمسا اقتناعا منه بأن بلاده يجب أن لا تحارب على جبهتين في وقت واحد، ففرنسا يجب أن لا تتحالف مع روسيا تحت أي ظرف، وما دام أنه استطاع أن يحول دون هذا التحالف، فإن هذا سيمثل رادعا قويا لفرنسا يمنعها من الدخول في حرب منفردة مع ألمانيا لاستعادة مقاطعة «الألزاس واللورين».

لقد كانت السياسة الحكيمة التي اتبعها بسمارك قائمة حتى تم عزله من قبل القيصر الألماني في 1890، فآلت السياسة الخارجية إلى مجموعة من المستشارين الذين كانوا أقل كفاءة منه، فأهملوا تكتيكاته الصحية في السياسة الخارجية، فكانت النتيجة قيام فرنسا باستمالة روسيا تدريجيا من خلال استضافة القيصر لزيارة فرنسا وضخ الذهب الفرنسي في الاقتصاد الروسي الذي كان يعاني حالة ركود وتخلف، وبالتالي بدأت فرنسا تؤمن الجبهة الخارجية ضد ألمانيا بشكل يكاد يكون علنيا، بينما ظلت ألمانيا لا تبدي اهتماما بهذا التقارب ولم تشعر بالخطر منه وهو ما يرجع في الأساس لضعف طاقم مستشاري القيصر الألماني.

لقد كان من الممكن أن تحتوي ألمانيا مخاطر هذا التحالف تدريجيا، ولكن ألمانيا ارتكبت خطأ فادحا في صياغة التوازن في سياسية الأحلاف في أوروبا حيث دخلت في سباق تسلح بحري مع بريطانيا خاصة في بحر الشمال، وهو ما أثار حفيظة لندن وبدأ يدفعها بخطى تدريجية في أحضان فرنسا، وهو ما تمخض عنه قيام كل من فرنسا وبريطانيا بنبذ خلافاتهما الاستعمارية والتوقيع على «الاتفاق الودي»Entente Cordial عام 1904 الذي بمقتضاه تم الاتفاق على أن تترك بريطانيا لفرنسا العنان في أطماعها في المغرب، مقابل أن تترك فرنسا العنان لبريطانيا في مصر.

ومنذ ذلك التاريخ، بدأت أوروبا تدخل في عملية استقطاب تحالفي خاصة بعد بدء التحالف بين فرنسا وبريطانيا وروسيا، مقابل تحالف بين ألمانيا والدولة النمساوية المجرية، وهو ما بدأ يولد حالات من التوتر بين الحليفين، خاصة خلال الأزمة المغربية الأولى، والأزمة الثانية المعروفة «بواقعة أغادير»، عندما أرسلت ألمانيا مركبة حربية إلى السواحل المغربية لحماية الأقليات الألمانية في هذه الدول، وقد بدأت التوترات تؤثر على العلاقة بين التحالفين بما بات يهدد باندلاع الحرب.

ثانيا: لعل من أهم الأسباب التي أدت إلى الحرب العالمية الأولى، كانت بداية ظهور الفكر القومي على الساحة الأوروبية، وعلى الرغم من أن هذه القوة الفكرية الصاعدة كان لها دورها في تشييد الدول على أساس قومي أو لغوي مثل ألمانيا عام 1871، فإن هذه القوة نفسها كان لها أسوأ الأثر على الاستقرار داخل القارة الأوروبية، فسرعان ما بدأت الأقليات داخل الإمبراطوريات الكبرى تسعى للاستقلال من خلال الثورات والكفاح المسلح، خاصة في الدولة النمساوية المجرية التي كانت تعاني من وجود قرابة تسع عشرة قومية تسعى للاستقلال التدريجي، وهو نفسه ما حدث في الدولة العثمانية خاصة في ممالكها في شرق وجنوب شرقي أوروبا، وقد كان لهذا التيار أثره الكبير في خلق حالات عدم الاستقرار داخل القارة الأوروبية، كما أنه فتح مجالا واسعا للدول الكبرى من أجل التدخل الخفي في الشؤون الداخلية للدول الأخرى مما خلق حالة عدم استقرار واضحة.

ثالثا: لعل الصراع الاستعماري على المستوى الدولي ونشر النفوذ داخل القارة الأوروبية كان من أهم الأسباب التي أدت للتوتر وبوادر الصدام في أوروبا، فلقد كان سعي ألمانيا لنشر نفوذها داخل الدولة العثمانية من أهم الأسباب التي أثارت حفيظة التحالف البريطاني - الفرنسي -الروسي، فلقد كانت لروسيا أطماعها في ممتلكات الدولة العثمانية، بينما كانت بريطانيا تسعى للحفاظ على التوازن القائم داخل النظام الأوروبي وترفض خضوع الدولة العثمانية للنفوذ الألماني المتزايد، الذي بدأ يدفع بها لفكرة إقامة خط سكة حديد يصل أوروبا بالعراق، وهو ما سيُدخله مباشرة في دائرة النفوذ البريطاني في الخليج، كذلك، فإن الدولة النمساوية المجرية دخلت في صراع نفوذ مع روسيا على شرق القارة، ويضاف لكل هذه العوامل؛ أن الصراعات التي انتشرت بين هذه الدول خارج القارة الأوروبية من أجل المستعمرات كان لها أكبر الأثر في خلق حالة من الريبة داخل النظام الأوروبي. لقد تداخلت كل هذه العوامل لتجعل أوروبا على شفا حفرة الحرب التي اندلعت بالفعل بفضل الأزمات المتكررة منذ مطلع القرن العشرين، كما سنرى في الأسبوع المقبل.