المفتي الـ19.. «رمانة ميزان» في مشهد مضطرب

شوقي عبد الكريم.. اختاره الأزهر وسطيا وتغلب في أول اقتراع على الإخوان والسلفيين

TT

مع تصاعد الأوضاع المضطربة في البلاد والصراع المحموم على السلطة بين القوى السياسية المختلفة وتيارات الإسلام السياسي، أصبحت أنظار المصريين تتعلق بدار الإفتاء كحصن للوقوف على الرأي الشرعي والصحيح للدين، في كثير مما يتعلق بأمور حياتهم ودنياهم، خصوصا أنه في ظل هذا المناخ تعددت أوجه الفتوى، وأصبح البعض من المنتسبين لهذه التيارات يتخذها قناعا لتحقيق مكاسب سياسية، أو يتستر وراءها للثأر من خصومه المختلفين معه أيدلوجيا.

وبعد ثورة «25 يناير» عام 2011، ظهر كثير من التيارات الإسلامية، وبدأت قيادات وشخصيات بها تصدر الفتاوى في شتي المجالات الحياتية. ومنها جماعة الإخوان المسلمين بذراعها السياسية حزب «الحرية والعدالة» الحاكم، والتيار السلفي بدعوته السلفية وما يقرب من 11 حزبا أشهرها أحزاب «النور والوطن والأصالة»، والجماعة الإسلامية بذراعها السياسية حزب «البناء والتنمية»، والجماعة الجهادية.

وفي غبار هذا الوضع الشائك تقلد الدكتور شوقي إبراهيم عبد الكريم منصبه «مفتيا لمصر» في الرابع من مارس (آذار) الماضي خلفا للدكتور علي جمعة، ليكون بذلك المفتي رقم «19» في سجل هذه الدار التي يعود إنشاؤها لعام 1895.

وانتخبت هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف (أعلي هيئة بالمؤسسة الدينية في مصر) الدكتور عبد الكريم لشغل منصب المفتي في خطوة غير مسبوقة وتعد الأولى نحو استقلال المؤسسة الدينية عن سلطة الدولة بعد ثورة «25 يناير» عام 2011، وبعد تعديل قانون الأزهر رقم 103.

وتحول منبر الجامع الأزهر إلى ساحة صراع سياسي جديدة في مصر بعد صعود الإسلاميين لسدة الحكم، واتهم علماء الأزهر جماعة الإخوان والدعوة السلفية بمحاولة فرض رجالها بالقوة على رأس المؤسسة الدينية الرسمية والزج باسم الأزهر في صراعات سياسية وتفريغه من دوره الحقيقي في الدعوة إلى الله عن طريق المنهج الوسطي.

ويقول مراقبون إن «ذلك وضح جليا في ممارسة جماعة الإخوان التي ينتمي إليها الرئيس محمد مرسي ضغوطا على الأزهر للدفع بالدكتور عبد الرحمن البر عضو مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين في منصب المفتي الجديد، والذي يختص بكونه مصدر الإفتاء الأول في مصر». لكن مصدر بمشيخة الأزهر، قال إن «الدكتور البر لم يحصل على أصوات تؤهله لمنافسة الدكتور عبد الكريم على المنصب، حيث تقدم للمنصب 25 مرشحا وتنافس في الجولة الأخيرة 9 أسماء فقط، خلا منها اسم البر».

وأكد المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه، أن «هيئة كبار العلماء رأت أن أحد الشروط التي تم الاتفاق عليها مسبقا وهو عدم الانتماء إلى تيار سياسي بعينه لا ينطبق على الدكتور البر، الذي يشغل منصب عميد كلية أصول الدين جامعة الأزهر فرع المنصورة».

وظهرت عقب ثورة «25 يناير» كثير من الفتاوى التي كانت مثارا للجدل في الأوساط الدينية بمصر، وتأتى الفترة التي يتولي فيها الدكتور عبد الكريم منصبه مفتيا للبلاد من الفترات الحرجة في تاريخ مصر في ظل حالة الاحتقان السياسي والصراع بين التيارات الفكرية المختلفة التي تعمل جاهدة لتسخير الفتاوى الدينية من خلال مشايخ متشددين غير متخصصين أو علماء غير مؤهلين للفتوى، لكن الدكتور عبد الكريم قال: إن «دار الإفتاء ستقوم على تنظيم فوضى الفتوى وإصدار الفتاوى الفقهية التي لا تثير حفيظة العامة وتحفظ للأمة استقرارها بعيدا عما تثيره الفتاوى الشاذة من بلبلة بين العامة، وبعيدا عن الفتاوى التي تحمل أبعادا أو تعبر عن اتجاهات سياسية في الداخل أو الخارج».

وكانت الدعوة السلفية صاحبة الحظ الأوفر في الفتاوى المثيرة للجدل وأشهرها، «تحريم التهنئة للمسيحيين في أعيادهم»، «وجواز أن تكذب الزوجة على زوجها للخروج للتصويت بنعم على الدستور المصري»، «والإفتاء بطهارة بول الأرنب إذا أصاب الملابس وتمت تأدية الصلاة بها»، «واستحباب لبس المرأة للكعب العالي في المنزل تزينا لزوجها وعدم جواز لبسه خارج المنزل»، «وتحريم التصويت في الانتخابات للمرشح المسلم الذي لا يصلي والمسيحي والعلماني والليبرالي الذين لم يتضمن برنامجهم تطبيق الشريعة الإسلامية»، «وفتوى اعتبرت الديمقراطية كفرا، واعتبرت روايات الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ تدعو للرذيلة وفيها فلسفة إلحادية»، و«وجوب تغطية وجوه التماثيل الفرعونية بالشمع لأنها تشبه الأصنام التي كانت موجودة في مكة»، «وتحريم الاختلاط في أماكن العمل والأماكن العامة بين الرجال والنساء»، «وفتوى حرمت قرض صندوق النقد الدولي».

أما الجماعة الجهادية فقد صدرت عنها فتوى، «تطالب بضرورة تحطيم الأصنام والتماثيل في شوارع مصر»، «وفتوى تجيز تطبيق حد الحرابة على قادة جبهة الإنقاذ المعارضة للرئيس محمد مرسي في مصر».

وأصدرت الجماعة الإسلامية، «فتوى تحرم تحية العلم والنشيد الوطني في المراسم وتعتبر الاستماع للموسيقى محرما شرعا»، «وفتوى أخري تهدر دم أعضاء جماعة «البلاك بلوك» في مصر باعتبارهم مفسدين في الأرض».

أما جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي لها الرئيس مرسي، فأصدرت كثيرا من الفتاوى للرد على شيوخ السلفية المتشددين من أهمها، «فتوى أجازت تهنئة المسلمين للمسيحيين بأعيادهم»، «وفتوى اعتبرت قرض صندوق النقد الدولي حلالا»، «وفتوى مثيرة أجازت السفر للجهاد في سوريا ضد قوات بشار الأسد».

من جهته، رفض مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر كثيرا من هذه الفتاوى. وأكد في بيانات له، أن «مثل هذه الآراء والفتاوى تفتح أبواب الفتنة والفوضى»، داعيا الجميع إلى الالتزام بما أقرته الشريعة الإسلامية.

وظهرت أول وظيفة رسمية للإفتاء في مصر، وهي وظيفة مفتي دار العدل الشافعي في القرن الرابع عشر الميلادي، ثم تولى المنصب رجال ينتمون إلى مذاهب أخرى، ووفق دراسة للباحث المصري عماد أحمد هلال، قال فيها إن «الإفتاء في البلاد كان يقوم به متطوع ولم تعرف مصر مناصب رسمية للإفتاء منذ دخول الإسلام إلى بدايات العصر المملوكي الذي يمتد من عام 1250 إلى 1517 ميلادية».

ويضيف هلال: أن «منصب المفتي في دار العدل استمر حتى نهاية القرن الخامس عشر، ولكنه تعرض للإهمال تدريجيا، ثم بطل تماما في أواخر العصر المملوكي، وعاد الإفتاء تطوعيا، وحين غزا العثمانيون مصر عام 1517 لم يهتموا بتعيين مفت للبلاد، ولكن العلماء المصريين قاموا بذلك على سبيل فرض الكفاية».

وتابع هلال: أن «مصر بعد خضوعها للعثمانيين لم تعرف منصب المفتي رسميا، وكان عدد من الفقهاء البارزين يقومون بهذا الدور في الوقت نفسه حتى عام 1596 حيث كان يتولى هذا الأمر الإمام شمس الدين الرملي، وحاولت الدولة العثمانية إيجاد مناصب رسمية للفتوى يتم تعيين شاغليها من إسطنبول، وكان الشيخ الرملي فيما يبدو يعرقل تلك المحاولات».

ويسجل أن عام 1603 شهد تعيين الشيخ محمد شمس الدين البكري الشهير بابن عبد الوارث مفتيا لمصر، وكان الأول والأخير من المفتين المالكية، نسبة إلى الإمام مالك ثاني أئمة السنة الأربعة.

ويقول الباحث هلال في دراسته التي تواكب نشرها مع اختيار المفتي الجديد لمصر، إن «الدولة سعت للسيطرة على الإفتاء بتعيين مفت ينتمي للمذهب الشافعي عام 1598 وحمل لقب «مفتي السلطنة الشريفة بالديار المصرية» وهو أبو السرور البكري وتوراثت أسرته هذا المنصب حتى عام 1676 وهو العام الذي توفي فيه الشيخ محمد بن زين العابدين البكري، وهو آخر من حمل لقب «مفتي السلطنة الشريفة بمصر». ويضيف أن منصب المفتي في ذلك الوقت لم يكن له دور في الحياة القضائية أو الفقهية بل كان «نوعا من الوجاهة الاجتماعية التي اكتسبتها أسرة البكري»، ثم اختفى المنصب مرة أخرى وعاد تطوعيا غير رسمي حتى خصص محمد بك أبو الدهب مناصب رسمية للإفتاء في القرن الثامن عشر بإنشاء مدرسة خصص فيها أماكن لجلوس ثلاثة مفتين.

وظلت دار الإفتاء المصرية منذ إنشائها تنتقل من مكان إلى آخر حتى استقر بها المقام في المبنى الحالي الخاص بها في حديقة الخالدين بمنطقة الدراسة بحي الحسين الشهير بالقاهرة، وقد افتتحها رسميا الرئيس السابق حسنى مبارك في 21 سبتمبر (أيلول) عام 1991، ومؤخرا زودت الدار بقاعدة بيانات إلكترونية ضخمة تمكن الباحثين من الوصول إلى حل الفتاوى والرد عليها بدقة ويسر.

ولمفتي مصر الجديد 5 وظائف حددها الدستور المصري والقانون الأولي، «الإجابة عن أسئلة السائلين على اختلاف أجناسهم وصفاتهم ووظائفهم فيما يتعلق بالحكم الشرعي عما يسألون عنه سواء كان يتعلق بالعقائد والعبادات أو بالمعاملات أو بالأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث أو بغير ذلك من الأمور التي تحتاج بيان الحكم الشرعي بشأنها»، أما الثانية وهي بيان الحكم الشرعي فيما يرد إليها من قضايا محكمة الجنايات الخاصة بعقوبة الإعدام.

ويرى مراقبون أن مفتي مصر يستشار في أحكام الإعدام التي تصدرها محاكم الجنايات لكن نادرا ما جاء رأي المفتين السابقين مخالفا للأحكام التي استشيروا فيها وترفض المحاكم مشورتهم إن جاءت مخالفة لأحكامها.

ويعد الدكتور عبد الكريم المفتي رقم 19 في مصر، وكان الشيخ حسونة النواوى هو المفتى الأول للديار، وتولى أمر الإفتاء في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1895 واستمرت مدة توليه 3 سنوات و6 أشهر و12 يوما.

من جهته، قال الدكتور عبد الكريم، إنه «لا يحمل أية أجندات أو توجهات سياسية ويؤمن بضرورة استقلالية المؤسسات الدينية والدعوية عن العمل السياسي»، مضيفا: «سأعمل على استيعاب كل القوى والطوائف السياسية من خلال المظلة الدعوية لدار الإفتاء التي ستعمل تحت مظلة الأزهر الشريف، كأكبر مؤسسة دعوية في مصر والمجتمع السني»، واعدا أنه سيبني على ما بدأه الدكتور على جمعة في دار الإفتاء من جهد.

وأضاف الدكتور عبد الكريم، أنه «يدرك الارتباك السياسي الذي تمر به البلاد حاليا»، مشيرا إلى امتناعه عن الحديث في السياسة لأنه رجل دين، والمنصب الذي ترشح له منصب ديني وليس سياسيا، حسب قوله.

والدكتور عبد الكريم من مواليد الدلنجات محافظة البحيرة (تبعد عن القاهرة 150 كم) عام 1961، وشغل منصب رئيس قسم الفقه في كلية الشريعة جامعة الأزهر فرع طنطا (شمال القاهرة)، وحصل على الماجستير في الفقه عام 1990، والدكتوراه في عام 1996.

تدرج وظيفيا وعلميا بكلية الشريعة والقانون بطنطا، وحصل على الدكتوراه في موضوع «إيقاف سير الدعوة الجنائية وإنهائها بدون حكم في الفقه الإسلامي». لديه بحوث كثيرة منها، «دور الدولة في الزكاة» عام 1998، «وإحكام خيار المجلس دراسة مقارنة» عام 1999، و«الولاية في عقد النجاح دراسة مقارنة» عام 2001، و«الطلاق السني والبدعي حقيقة وحكما، دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي» عام 2002، و«الحكم القضائي وأثره في رفع الخلاف الفقهي»، و«التفريق القضائي بين الزوجين للعلل والعيوب»، و«المقاصد الشرعية بين كتابي المصنف وقواعد الإسلام»، و«المرأة والعولمة في شبه الجزيرة العربية» عام 2007، و«دراسة حول الحقوق السياسية للمرأة المسلمة»، و«القواعد الفقهية ودورها في التفسير القضائي للعقد عند التنازع في عباراته المرتبة للحقوق والالتزامات في الفقه الإسلامي».

وفي مجال الكتب العامة قدم الدكتور عبد الكريم عددا من المخرجات الفقهية وهي، «محاضرات في فقه العبادات (فقه الحج والعمرة)» عام 1997، و«كتاب حول مبادئ علم الميراث» عام 1999، وكتاب آخر حول «الموجز في قواعد الفقه الكلية» عام 2004.

«الشرق الأوسط» التقت زملاء المفتي الجديد في كلية الشريعة والقانون بطنطا، وقالوا إن «لديه رسالة سامية تهدف إلى تخريج عقول واعية في إطار يمزج بين الدين والحياة»، وأكد الدكتور عبد الفتاح النجار، أستاذ متفرغ بقسم الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا، أن «الدكتور عبد الكريم منذ أن جاء إلى كلية الشريعة والقانون وهو لم يتغير في أخلاقه وسلوكه، فهو صاحب خلق حميد ولم ينتم إلى أي تيار ديني أو سياسي، وكل علاقته بالحياة أن يخرج عقولا فاهمة وواعية».

وأضاف النجار، أن «علاقة المفتي الجديد الاجتماعية مع زملائه وطلابه في ود دائم، ومهموم في حياته بالبحث والتنقيب والعلم»، مؤكدا أنه على الرغم من انتمائه للمذهب المالكي فقد درس وتعمق في الفقه المقارن الذي يحتوي على جميع المذاهب.

أما الدكتور سيف قزامل، عميد كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر فرع طنطا، والتي كان يشغل فيها المفتي الجديد منصب رئيس قسم الفقه العام، قال إن «الدكتور عبد الكريم ليس له أي توجهات دينية أو حزبية ويمتاز بالموضوعية والهدوء، وهو أستاذ جامعي أكاديمي يهتم بالناحية التعليمية وحالة الطلاب، وعلاقته جيدة بزملائه في الجامعة ويهتم بكل الموضوعات ويتميز بالموضوعية».

وقال الدكتور جودة عبد الغني بسيوني، عميد كلية الشريعة والقانون بطنطا السابق، إن «المفتي الجديد من العلماء الحريصين على العلم والمهتمين به، وقد عاهدناه حريصا على وقته مع حسن خلق وتواضع شديدين، فهو مهتم بأمر طلابه فيبسط لهم ويترفق بهم ويحسن معاملتهم».

وعاش الدكتور عبد الكريم في قرية زاوية أبو شوشة وهي إحدى القرى التابعة لمركز الدلنجات في محافظة البحيرة، وهي المحافظة التي نشأ فيها الشيخ محمد الغزالي أحد دعاة الفكر الإسلامي في العصر الحديث. ويتحدث عن حياة المفتي الجديد ابن عمه عبد العزيز علام قائلا: «الدكتور عبد الكريم متواضع في بلدته، ولا يترك مناسبة إلا ويحضرها ويشارك فيها، كما أنه عرف منذ صغره بتميزه في أمور الدين، ونشأ وتعلم في أسرة كلها تراعي أمور الدين في حياتها».

وأضاف علام، أن «أهل القرية دائما يلجأون إليه عند حاجتهم لأي فتوى أو استفسار عن أي أمر من أمور دينهم وحياتهم».