شرارة الحرب العالمية الأولى

TT

تناولنا في مقال الأسبوع الماضي كيف أدت التوترات والتحالفات في أوروبا إلى حالة من الاحتقان بين الفريقين المتنافسين بها، الأول يجمع فرنسا وبريطانيا وروسيا، والثاني يجمع ألمانيا والدولة النمساوية المجرية، وقد سعى كل فريق لمحاولة تحصين نفسه أمام الآخر، لقد شهدت فترة ما قبل اندلاع الحرب بعض الجهود الحثيثة للتخفيف من وطأة العناصر التي أدت إلى حالة الاحتقان القائمة وعلى رأسها نظام التحالفات ذاته، إضافة إلى سباق التسلح والمتغيرات الداخلية في أوروبا والتي لم تكن الأنظمة السائدة في القارة قادرة على التعامل مع مثل هذه القضايا الجديدة، ولكن حالة التأهب لم تسمح لأي جهود بالنجاح، بل إن الأمر أصبح ينتظر الشرارة التي من شأنها أن تفجر القنابل الموقوتة.

ولقد جاءت هذه الشرارة في الثامن والعشرين من شهر يونيو (حزيران) 1914 عندما قامت مجموعة من العناصر الصربية المتطرفة وتدعى «اليد السوداء يتزعمها العميد ديميترييفيتش Black Hands» بقتل ولي العهد النمساوي الأرشيدوك فرانسيس فرديناند وزوجته في سراييفو، ولقد كان الهدف من وراء عملية الاغتيال هو القضاء على أفكار ولي العهد التي كانت تهدف إلى تغيير الدولة النمساوية المجرية من خلال خلق كيان ثلاثي نمساوي - مجري - سلافي، وهو ما بات يتعارض مع الأهداف القومية الصربية التي كانت تهدف لخلق كيان قومي على أساس سلافي مركزه صربيا، وقد اشتدت كراهية الصرب لولي العهد بعد أن بدأ يغازل باستقلال البوسنة والهرسك خارج النطاق السلافي، وهو ما استفز مشاعرهم القومية.

لقد اندفعت مجموعة الاغتيال لقتل ولي العهد، ولكن محاولتها الأولى باءت بالفشل حيث انفجرت قنبلتان بعيدا عن الرجل وزوجته، وقد كان من الممكن أن تتحرك القوات النمساوية المتواجدة بالقرب من موكب ولي العهد لحمايته ولكنها تقاعست عن أداء هذه المهمة، وهو ما ترك فرصة مجددة لقتل الرجل من خلال إطلاق الرصاص عليه مباشرة فأودى بحياته وزوجته على الفور، والثابت تاريخيا أن عددا من الوزراء الصرب كانوا على دراية بهذه المحاولة، ولم يحاولوا وقفها على الإطلاق، بل إن بعض الآراء تربط ما بين اليد السوداء وكثير من الوزراء الصربيين.

وعلى الفور بدأت الدولة النمساوية المجرية تستعد للثأر لمقتل ولي العهد، ولكنها كانت على دراية كاملة بأنها في حاجة إلى ضمان المساندة الألمانية في حالة اندلاع الحرب، وهو ما دفعها للتشاور مع ألمانيا التي لم يكن قيصرها «فيلهلم الثاني» يمتلك الخبرة الكافية ليفادي بلاده الطريق إلى الحرب بسبب حادثة مثل هذه، وقد كان المستشار الألماني السابق بسمارك حريصا كل الحرص على نقل محاذيره الشديدة من التورط في الشؤون الداخلية النمساوية المجرية على مدار فترة سيطرته على مقاليد السياسة الخارجية الألمانية، ولكن القيصر الروسي الذي أخذ على عاتقه مسؤولية إدارة العلاقات الخارجية كانت له وجهة نظر مختلفة وهي أن النمسا تعد حليفته الأولى، وبالتالي فإنه كان لزاما عليه أن يحافظ على هيبتها على المستوى الدولي، بما في ذلك مساندته لها إلى أقصى الحدود، وهو الأمر الذي استغله الساسة النمساويون على أسوأ وجه، فلقد كانت النمسا عاقدة العزم على القضاء على الميول الصربية تماما، فتمت صياغة مذكرة شديدة اللهجة متضمنة إنذارات شديدة وصريحة بما في ذلك كبت كافة المشاعر العدائية للدولة النمساوية المجرية في صربيا وإغلاق الصحف والمقاهي والجمعيات المناهضة للدولة النمساوية، ولكن أسوأ ما في الأمر كان بندا واضحا وصريحا يسمح للدولة النمساوية بالتدخل والإشراف على تنفيذ هذه المطالب، وإزاء الصلف النمساوي، لم تستطع صربيا إلا الموافقة على المطالب النمساوية باستثناء الشرط الخاص بتدخلها في تنفيذ هذا الأمر، ومع ذلك فقد أبدوا استعدادا للتفاوض حول هذه النقطة، ولكن الدولة النمساوية المجرية لم تكن على استعداد للتفاوض، فقد كانت عاقدة العزم على احتلال صربيا والتخلص من الصداع الصربي مباشرة.

كانت روسيا هي الحليف الأول لصربيا لأسباب تتعلق بالتقارب العرقي، إضافة إلى الاعتقاد الروسي الراسخ بأنهم حماة الأرثوذكسية في العالم، وهو رباط ديني إضافي كان له أكبر الأثر في دعم موسكو لبلغراد على مر التاريخ حتى يومنا هذا، وقد رأت روسيا فيما يحدث لصربيا أمرا غير مقبول، وبالتالي بدأت المشاورات الداخلية للقيصر «نيقولا الثاني» بمجرد أن بدأت النمسا تتفاوض مع صربيا، وكان الموقف الروسي رافضا لكل ما يحدث ويسعى لحماية الصرب على وجه السرعة، ورغم أن القيصر سعى للتهدئة فإن الصقور داخل البلاط الملكي كانت لهم اليد العليا وأجبرته على الصمود أمامهم، وبالتالي بدأت روسيا عملية التعبئة رغم أن رد الفعل الألماني تجاهها جاء سريعا وتصالحيا لمنع نشوب الحرب، ولكن التعبئة العامة كانت على قدم وساق في روسيا، وبالتالي اضطرت ألمانيا نفسها إلى الدخول في التعبئة لأنها لم تكن راغبة في خسارة المبادرة إذا ما بدأت الحرب، بل إنها طالبت روسيا بوقف التعبئة، ولكن الجانب الروسي لم يكلف نفسه عناء الرد، بالتالي بدأت ألمانيا استعداداتها لمواجهة الجيش الروسي القادم، وبمجرد أن بدأ الهجوم الروسي على شرق بروسيا بدأت الحرب في الجبهة الشرقية، أما الجبهة الغربية فقد اندلعت من تلقاء نفسها بعدما رفضت باريس حتى الرد على التطمينات الألمانية حيث خشيت أن تكون المبادرة للألمان وحدهم.

وقد كان موقف بريطانيا واضحا حيث سعت بالتعاون مع ألمانيا لمحاولة منع نشوب الحرب على وجه السرعة، خاصة «اللورد غراي» ولكن عجلة الحرب بدأت تدور ولم يكن من الممكن وقفها رغم أن القيادات الملكية سعت كل السعي لمحاولة التهدئة، وقد حاولت بريطانيا أن تظل خارج دائرة مناوشات بداية الحرب، ولكن دخول ألمانيا الأراضي البلجيكية كان كفيلا بإعلان البرلمان البريطاني الحرب ضد ألمانيا.

وهكذا لم يستطع عقلاء القوم أن يطفئوا نار الحرب التي اشتعلت من كل اتجاه وهي الحرب الضروس التي كانت لها أسوأ الأثر على مستقبل البشرية كما سنرى.

* كاتب مصري