إيران.. صراع البحار

تنشر سفنها الحربية في «الخليج» ومياه «الهادئ».. وعينها على «هرمز» وأذرعها تداعب «باب المندب»

TT

خلال السنوات والأشهر القليلة الماضية، كثفت إيران من وجودها في المياه الدولية، وأرسلت سفنها إلى مناطق لم ترتدها من قبل، في خطوات أثارت مخاوف دولية من أهداف إيران بعيدة المدى.

ورغم أن طهران تقول إن انتشار سفنها وبوارجها في مياه المحيطات هو مجرد رسالة سلام، فإن مسؤولين وخبراء دوليين رأوا في الخطوة الإيرانية تهديدا للسلام العالمي.

وبعد انتشار سفنها المكثف في الخليج، غزت البوارج الحربية الإيرانية مياه المحيط الهادي للمرة الأولى منذ 3 عقود.. وأجرت خلال السنوات القليلة الماضية تدريبات عسكرية كثيرة لتحسين القدرات الدفاعية لقواتها البحرية لاختبار تكتيكاتها وأسلحتها العسكرية الحديثة.

ودأب القادة الإيرانيون على إطلاق تصريحات عن توسعات بحرية في مياه المحيطات، وبناء قواعد بحرية وأسلحة ذات تقنيات متطورة، وأن القوات البحرية الإيرانية أزاحت الستار عن عوامة مطورة وطوربيد جديد له القدرة على إطلاق صاروخ «سيناء 7».

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث أعلنت إيران نيتها صناعة غواصة نووية وطوربيد جديد له القدرة على إطلاق الصواريخ والتهرب من تقنيات الرادارات الغربية، كما أعلن قادة الجيش الإيراني أنهم سيقومون ببناء قواعد بحرية جديدة في أماكن، مثل ميناء جوادر على الحدود مع باكستان. وأعلن قائد القوة البحرية للجيش الإيراني تزويد قواته بطائرات من دون طيار، تنطلق من القواعد البحرية وتقوم بتنفيذ مهمات استطلاعية وهجومية ودفاعية، وأكد أن إيران سوف تستخدم تلك الطائرات من دون طيار عندما يقتضي الأمر.

وأيضا.. أجرت طهران الكثير من المناورات البحرية، تم خلالها اختبار تقنيات جديدة، وتزويد القوات البحرية بطائرات من دون طيار تنطلق من القواعد البحرية لتنفيذ مهمات استطلاعية ودفاعية. ومن أهم المناورات التي قامت بها قوات الحرس الثوري الإيراني، مناورات «الرسول الأعظم 8» في منطقة سركان جنوب شرقي إيران، وقبلها مناورات «فتح 91» في الخليج لاختبار وتقييم الخطط البحرية للوحدات البحرية والصاروخية، ومناورة بحرية مشتركة مع سلطنة عمان في يناير (كانون الثاني) بهدف الرقي باستعداد قوات الجانبين والتصدي للقرصنة البحرية، ومناورة رابعة قامت بها مؤخرا أطلقت خلالها صاروخ «كروز نصر» البحري وصاروخ رعد وصاروخ ميثاق.

وأعلن الأدميرال حبيب الله سياري، قائد القوات البحرية بالجيش الإيراني، الأسبوع الماضي، في تصريحات، دخول وحدة من الأسطول البحري الإيراني إلى مياه المحيط الهادي (لأول مرة منذ ثلاثة عقود) بعد مرورها من مضيق مالاكا في ماليزيا، الذي يعد من الممرات المائية المهمة في العالم. ويعد هذا هو أول وجود للقوات البحرية الإيرانية في خليج مالاكا منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979.

وقد أبحرت مجموعة السفن الـ24 (التي تضم حاملة المروحيات خارك والمدمرة سبلان) من ميناء بندر عباس جنوب إيران، وبعد أن مرت بخليج عدن وقرب مضيق باب المندب تحركت نحو شرق المحيط الهندي وعبرت من جنوب شبه القارة الهندية وسريلانكا وخليج البنغال ودخلت مضيق مالاكا، ورست في ميناء جانغ جيانغ الصيني قبل أن تعود أدراجها إلى إيران.

وخلال الشهرين الماضيين، رست بارجتان حربيتان إيرانيتان في ميناء بالسودان، حيث يرى البعض أن طهران تسعى لتأسيس مقر دائم في سواحل البحر الأحمر. وخلال الأسابيع الماضية، أزاحت القوات البحرية الستار عن عوامة مطورة وطوربيد جديد له القدرة على إطلاق صاروح «سينا 7»، وبث التلفزيون الإيراني خبرا عن تدشين غواصتين جديدتين.

ودأبت طهران على طمأنة الدول الأخرى، خصوصا جيرانها، بأن جيشها لا يشكل تهديدا لأي دولة، مؤكدة أن عقيدتها الدفاعية مبنية على الردع.

ويقول الأدميرال سياري، إن هدف التعزيزات البحرية الأخيرة هو تعزيز علاقات الصداقة والعلاقات التجارية بين إيران والصين. كما شدد على أهمية تأمين منطقة مثلث مضايق هرمز وباب المندب ومالاكا.

ويرى الخبير الاستراتيجي اليمني عمر عبد العزيز أنه من البديهي أن تفكر إيران بطرقها الخاصة للسيطرة على أوسع مناطق في البحار المحيطة بها في منطقة الخليج، وباب المندب، الذي بدأت تمد أذرعها إليه: «لأننا، وإن لم نكن في حالة حرب معلنة بين إيران ودول المنطقة، إلا أننا نعيش حربا جيوسياسية، تمثل حالة من الاشتباك المستمر بين إيران ودول المنطقة». وأضاف: «عندما نتكلم عن مضيق باب المندب، فنحن نتحدث عن ممر دولي شديد الأهمية يوازي مضيق هرمز من الجهة الثانية ويعتبر المدخل الجنوبي للبحر الأحمر الذي يؤدي إلى قناة السويس»، ويقول إن «مضيق باب المندب يمكن أن يعطل حركة الملاحة الدولية التي تتم حاليا عبر قناة السويس انطلاقا من البحر الأحمر».

ويرى الخبير الاستراتيجي أن «أهمية مضيق هرمز تكمن في الاقتصاد النفطي وعبوره لما يزيد على 40% من نفط العالم يوميا، أما مضيق باب المندب فهو أشمل من الناحية التجارة الدولية، لذلك نشاهد إيران تتبع سياسة تتمثل في الضغط العسكري من خلال مشاريع عسكرية معلنة ومناورات عسكرية، وتحركات قد لا يعلن عنها». ويخلص عبد العزيز للقول: «إن المضيق يمثل أهمية كبيرة للتجارة الدولية، وإيران في إطار صراعها مع الغرب تحاول أن تزيد أذرعها طولا في محيطها الجغرافي، تمكنها من المبادأة الاستراتيجية لاستباق أي هجوم عليها».

وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، قللت من أهمية تلك التحركات والمناورات الإيرانية، واعتبرتها مجرد مزاعم، وقللت من التصريحات والتقارير التي تشير إلى تطور القدرات العسكرية الإيرانية البحرية.

وقال الكولونيل جاك ميلر، المسؤول الصحافي لمنطقة الشرق الأوسط بمكتب وزير الدفاع الأميركي، في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، إن «الولايات المتحدة لا تشعر بالقلق من تحركات البحرية الإيرانية في منطقة المحيط الهادي»، مؤكدا استعداد القوات الأميركية في المنطقة للرد على أي تهديدات، بغض النظر عن الاستقطاعات المفروضة على الميزانية الأميركية التي تجبر «البنتاغون» الأميركي على تخفيض حجم القوات الأميركية في الخارج والحد من خطط التدريب ونشر القوات.

وقال الكولونيل ميلر: «لا نشعر بالقلق من تلك المزاعم الإيرانية، ونحافظ على وجود قوي للبحرية الأميركية في منطقة الخليج، إضافة إلى الحفاظ على شراكات قوية مع حلفائنا في الخليج ومنطقة آسيا والمحيط الهادي، والهدف من ذلك هو الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة، وسوف نستمر في الاستعداد للرد على أي تهديدات في المنطقة».

وأضاف الكولونيل ميلر: «إننا مستمرون في مراقبة الأنشطة الإيرانية في جميع أنحاء المنطقة، ومرتاحون جدا لوضعنا الخاص في المنطقة، أما أهداف البحرية الإيرانية من تلك التحركات، فنحن لن نتكهن بشأن دوافع أو الحقيقة وراء تلك التقارير والتصريحات الصادرة من البحرية الإيرانية».

وقلل الكولونيل ميلر من قدرة إيران على تصنيع غواصة نووية (التي تتطلب تخصيب اليورانيوم بنسبة 97%)، وقال: «في حال أرادت إيران تخصيب يورانيوم لإنتاج وقود نووي لاستخدامه في غواصات نووية، فإن ذلك يتطلب من إيران أن تخطر الوكالة الدولية للطاقة الذرية بخططها لتخصيب اليورانيوم، ونحن لسنا على علم بأي إخطارات إيرانية بهذا الشأن».

لكن التحركات الإيرانية في مياه الخليج أثارت مخاوف أعضاء الكونغرس الأميركي من أن تستغل إيران تقليل حجم القوات البحرية الأميركية في المنطقة. وقال الجنرال جيمس ماتيس، رئيس القيادة المركزية بالجيش الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، الأربعاء الماضي: «إن إيران هي التهديد الأكبر للرخاء والاستقرار في المنطقة، وأنه رغم العزلة الدولية والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها تواصل إيران تصدير عدم الاستقرار والعنف في المنطقة وما وراءها»، مشيرا إلى تهديداتها للممرات البحرية الإقليمية وامتلاكها لصواريخ باليستية قصيرة ومتوسطة المدى وشبكة من الأنشطة غير المشروعة والقرصنة الإلكترونية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

وأشار الجنرال ماتيس إلى أن مخاطر سوء التقدير الإيراني والدعم المستمر لنظام الأسد في سوريا، سيؤديان إلى صراع كارثي، وحذر ماتيس من محاولة إيران الاستفادة من تخفيض الوجود العسكري الأميركي، وقال: «ما زالت لدينا حاملة طائرات واحدة هناك، وأحذر أي عدو قد يعتقد أنها فرصة لاستغلال هذا الوضع»، في إشارة واضحة إلى إيران. وأوضح الجنرال ماتيس أن أي تحركات من العدو ستواجه برد أميركي قوي، محذرا من التقليل من القوة العسكرية الأميركية، وقال: «لدينا ما يلزم لجعل هذا اليوم أطول أيام العدو وأسوأها، وسنرسل حاملة الطائرات الثانية إلى هناك سريعا لتقديم الدعم»، مشيرا إلى إمكانية انطلاق السلاح الجوي والبحري خلال مهلة قصيرة، وإلى انطلاق حاملة الطائرات (يو إس إس هاري ترومان) والوصول إلى منطقة الخليج خلال أسبوعين.

وعلى خلاف تأكيدات الخارجية الأميركية والبيت الأبيض لشدة تأثير العقوبات الدولية على إيران وتفاؤلهما بأن تسفر المفاوضات الدبلوماسية مع إيران عن حل لقضية الملف النووي - قال الجنرال ماتيس إنه لا يعتقد أن إيران ستتنازل عن أنشطة تخصيب اليورانيوم، لكنه في الوقت نفسه أيد سياسة الرئيس أوباما في إعطاء الوقت للعقوبات لتأتي بتأثيرها.

وقال مصدر مسؤول بالإدارة الأميركية لـ«الشرق الأوسط»: «يجب أن يدرك الإيرانيون أن قوة النيران الموجودة على حاملة طائرات أميركية واحدة كافية لردع إيران عن القيام بأي شيء»، مؤكدا قوة الجيش الأميركي وأسلحته الجوية والبحرية وامتلاكه أعلى تكنولوجيا عسكرية في العالم بما يمكنه من الرد القوي والردع الحاسم.

وتنشر الولايات المتحدة حاملة الطائرات «يو إس إس جون ستينيس) في منطقة الخليج إلى جانب عدد من السفن العسكرية الأخرى التي تقوم بدوريات في مناطق استراتيجية بالخليج قبالة المياه الدولية لإيران، كما توجد حاملة الطائرات (يو إس إس دوايت أيزنهاور) في البحر المتوسط.

لكن المحللين الغربيين يحذرون من التطور السريع في قدرات القوات البحرية الإيرانية وحرس الثورة الإسلامية. وينظر المحللون إلى الدوريات التي يقوم بها الأسطول الإيراني في شمال المحيط الهندي وخليج عدن وفي مضيق باب المندب والبحر الأحمر عند قناة السويس، على أنها تحركات تقوم بها إيران لتعزيز وجودها في تلك المناطق بما يمكنها من مواجهة تعطيل محتمل للممرات الملاحية الحيوية مثل مضيق هرمز، كما يمكنها من تهريب الأسلحة للمجموعات الإرهابية في دول بالقارة الأفريقية.

ويقول مايكل روبين بمعهد أميركان إنتربرايز، إن أنظار العالم تتركز على البرامج النووية والصاروخية الإيرانية، في حين أن طهران تركز على تطوير القوات البحرية للجيش وحرس الثورة. ويدلل روبين على ذلك بمحاولات الجمهورية الإسلامية خلال السنوات الماضية تعزيز وجودها في المياه الدولية وبحر عمان والمحيط الهندي، وتأسيس مقر عسكري في ميناء جاسك الصغير الواقع في بحر عمان خارج مضيق هرمز، مشيرا إلى التصريحات الكثيرة من قادة الجيش والبحرية عن تصنيع حاملات طائرات وغواصة نووية وطائرات من دون طيار.

ويضيف روبين، «في خضم هذه التصريحات، فإن القوات البحرية الإيرانية التابعة للجيش ولحرس الثورة قد شهدت تطورا ملحوظا»، ومنذ انتصار الثورة الإسلامية في عام 1979، قامت السفن البحرية الإيرانية في الأشهر الماضية بعبور قناة السويس لأول مرة، وكذلك فإن القوات البحرية الإيرانية تتصدى للقراصنة خارج منطقة القرن الأفريقي.

ويؤكد الباحث الأميركي أن إيران لديها طموحات لتعزيز نفوذها في بحر عمان وشمال المحيط الهادي، وهو علامة على سعي إيران لإغلاق مضيق هرمز إذا اقتضت الضرورة، وأن الأهداف الإيرانية قد تؤدي إلى انتهاء عهد الملاحة الآمنة في شمال المحيط الهندي سريعا. ويحذر روبين قائلا: «كلما زاد نشاط البحرية الإيرانية، زاد قلق الدول العربية من استراتيجية الولايات المتحدة لإضعاف التهديدات الإيرانية».

ويؤكد فيكتور ديفيز هانسون، المؤرخ بمعهد هوفر بجامعة ستانفورد، أن الولايات المتحدة تتراجع عن دورها في ريادة العالم وفي الحفاظ على السلام الدولي، ويقول: «هذه السياسة الأميركية للقيادة من الخلف، التي ظهرت في ليبيا ومالي، تدفعنا لنعترف بحقيقة أن العالم كان مكانا أفضل بكثير بعد عام 1945 بسبب وجود الولايات المتحدة كقوة عالمية، وسيصبح العالم مكانا أسوأ بسبب تغيب الولايات المتحدة على نحو متزايد».