فرنسا ـ حزب الله.. علاقات معقدة

أبعاد داخلية لبنانية وإقليمية وتاريخية تتحكم فيها

TT

يروي إيلي برنابي، سفير إسرائيل السابق في باريس أنه ذهب لمقابلة الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك ليقنعه بضرورة النظر إلى حزب الله اللبناني على أنه «منظمة إرهابية مسؤول منذ ولادته في عام 1982 عن عمليات خطف وقتل واعتداءات إرهابية وخطف طائرات وقصف إن على الأراضي اللبنانية أو في الخارج والتي أسفرت عن مقتل مئات الأشخاص...».

وبحسب السفير الإسرائيلي السابق، فإن شيراك رفض الإصغاء بل رد عليه قائلا: «حزب الله حزب سياسي لبناني، وهو جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي في هذا البلد، وجزء من توازنه الطائفي». وكان رد برنابي عليه: «لماذا تعتبرون حركة حماس منظمة إرهابية وترفضون الحكم عينه على نظيرتها اللبنانية؟». ومجددا، بحسب برنابي، فإن النظرة الفرنسية لم تتغير رغم لائحة طويلة من الأعمال الإرهابية أو مشاريع الاعتداءات التي ينسبها لحزب الله في الأرجنتين والهند وتايلاند وجورجيا وكينيا وقبرص، ناهيك من عملية الاعتداء على سياح إسرائيليين في مطار بورغاس في بلغاريا التي أوقعت ستة قتلى بينهم خمسة إسرائيليين وسائق بلغاري وعشرات الجرحى. وفي 5 فبراير (شباط) الماضي، أعلن وزير الداخلية البلغاري تسفيتان تسفيتانوف رسميا أن حزب الله هو المسؤول عن العملية الانتحارية وأن الشخصين المسؤولين عنها وهما يحملان الجنسيتين الكندية والأسترالية ينتميان إلى حزب الله. ويتساءل السفير الإسرائيلي السابق عن «مغزى» الممانعة الأوروبية حتى الآن في اعتبار حزب الله منظمة إرهابية «رغم الدلائل» والاستمرار في سياسة النعامة و«دفن الرأس في الرمال»؟

غير أن حزب الله يرد على ذلك بالتنديد بـ«حملة الافتراءات» ضده التي تقف وراءها إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وينفي كليا أي علاقة له بتفجير بورغاس.

والواقع أنه بعد سبعة أشهر على اعتداء بورغاس، ورغم الاتهامات البلغارية الرسمية والضغوط الإسرائيلية ــ الأميركية على الاتحاد الأوروبي لوضع حزب الله على لائحة الاتحاد الإرهابية، فإن الدول الأوروبية الـ27 رفضت حتى الآن بدفع من فرنسا وإيطاليا، بالدرجة الأولى، الخضوع للضغوط المذكورة. وفي سياق الضغوط الأميركية على الاتحاد الأوروبي، أعلن نائب الرئيس جو بايدن في كلمة له أخيرا أمام مؤتمر مجموعة الضغط الإسرائيلية ــ الأميركية «أيباك» أن حزب الله، حسب كلامه: «يطرح نفسه على أنه مجموعة رعائية سياسية واجتماعية بينما هو يتآمر ضد أبرياء من أوروبا الشرقية إلى شرق أفريقيا، من جنوب شرقي آسيا إلى أميركا الجنوبية». وأضاف بايدن: «نحن نعلم ما تعلمه إسرائيل: حزب الله منظمة إرهابية...نقطة على السطر. ونحن نحث كل بلد يتعامل مع حزب الله أن يبدأ معاملته على هذا النحو ويسميه منظمة إرهابية»، مشيرا إلى الجهود التي تبذلها واشنطن من أجل إقناع الأوروبيين بوضع حزب الله على لائحة المنظمات الإرهابية وفرض عقوبات عليه إذ «علينا معا أن نعمل على مواجهة حزب الله أينما يزرع بذور الكراهية».

وقبل بايدن، كتب توماس دونيلون، مستشار مجلس الأمن القومي الأميركي، في صحيفة «نيويورك تايمز» مقالا حث فيه الأوروبيين على التحرك والتشدد في التعامل مع حزب الله مشيرا إلى أن واجب أوروبا هو «العمل الجماعي للرد بحزم على الهجوم الذي استهدف أرضا أوروبية بوضع حزب الله على لائحتها للمنظمات الإرهابية». ونبه دونيلون الأوروبيين إلى أنه «ما عاد بمقدورهم الاستمرار في تجاهل الخطر المتمثل بحزب الله على أوروبا والعالم، إذ من التوهم النظر إليه على أنه لاعب سياسي يتحلى بالمسؤولية في لبنان».

غير أن كل الحجج والضغوط لم تفلح في حمل باريس على تغيير موقفها، الأمر الذي تبدى في اجتماعات الاتحاد الأوروبي ورفض فرنسا وضع حزب الله على لائحة الإرهاب الأوروبية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي المحددات التي تدفع فرنسا إلى الرفض؟ وهل الموقف الذي أعلنه الرئيس السابق شيراك والأسباب التي ذكرها ما زالت هي نفسها التي تتحكم بالسياسة الفرنسية؟ أم ثمة أبعادا أخرى إقليمية ودولية أو ذات علاقة بالمصالح الفرنسية في لبنان والمنطقة هي التي تحمل باريس على الثبات على نهج معتدل إزاء الحزب المذكور؟

خلال السنوات الأخيرة، خرج مسؤولان فقط عن الخط الرسمي الفرنسي التقليدي تجاه حزب الله بوصفهما إياه بالإرهابي أو الأعمال التي يقوم بها بـ«الإرهابية».

الأول، كان رئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان (1997ــ2002) خلال زيارة قام بها إلى إسرائيل وإلى أراضي السلطة الفلسطينية في شهر فبراير عام 2000. فقد قال جوسبان، بمناسبة محاضرة ألقاها في جامعة بيرزيت: «إن فرنسا تدين الهجمات التي يقوم بها حزب الله وكل الهجمات الإرهابية التي تحصل وتحديدا ضد الجنود والمدنيين الإسرائيليين». ولدى خروجه من الجامعة، تعرض جوسبان لرشق بالحجارة من عشرات الفلسطينيين لا بل إنه أصيب في رأسه. وأثارت تصريحاته شبه أزمة بينه وبين رئيس الجمهورية جاك شيراك. وأصدر الإليزيه بيانا ذكر فيه جوسبان بأن «المواقف التي تنقلب على حياد الدبلوماسية الفرنسية تطيح بمصداقية سياستنا الخارجية». بعدها وبالنظر إلى أولوية رئاسة الجمهورية على رئاسة الحكومة فيما يتعلق بالسياستين الخارجية والدفاعية، فقد عادت باريس إلى مواقفها التقليدية. وثمة من يعتقد أن جملة جوسبان ساهمت في خسارته الانتخابات الرئاسية التي خاضها بوجه شيراك في عام 2002. ودفعته هزيمته المرة حيث لم يتأهل للدورة الثانية إلى الخروج نهائيا من الحياة السياسية.

أما الشخصية الثانية التي لم تتردد في الربط بين حزب الله والإرهاب فهي الرئيس السابق نيكولا ساركوزي المعروف بصداقاته الإسرائيلية وتحديدا مع بنيامين نتنياهو. فخلال حرب إسرائيل على لبنان عام 2006. كان ساركوزي يشغل منصب وزير الداخلية ولم يتردد، في حديثه عن حزب الله، في الإشارة إلى أنه «يخاطر بأن يسلك سلوكا إرهابيا». وبعد انتخابه، في عام 2007 وبمناسبة زيارة رسمية قام بها لإسرائيل، دعا ساركوزي الحزب المذكور إلى «التخلي عن العمل الإرهابي». لكن رغم هذه المواقف، فإن سياسة فرنسا لم تتغير واستمرت على تواصل مع حزب الله الذي دعته للمشاركة في مؤتمر الحوار اللبناني في مدينة سيل سان كلو في عام 2008 الذي دعت إليه الخارجية الفرنسية عددا من الأفرقاء السياسيين اللبنانيين. ولم يتوقف نواب حزب الله ووزراؤه لاحقا عن المجيء إلى باريس كما أن السفارة الفرنسية في بيروت استمرت في التحاور مع الحزب خصوصا بعد قيام الفينول 2 التي لعبت فيها باريس دورا رياديا.

تقوم سياسة باريس الثابتة تجاه لبنان التي أكدتها أعلى المراجع الفرنسية وفي كل مناسبة ومهما يكن لون الحكومة يمينية أم يسارية، على الإعلان عن التمسك بسيادته واستقلاله السياسي وسلامة أراضيه وبأولوية المؤسسات الدستورية والديمقراطية وبوحدانية السلاح الشرعي. وتضاف إلى ذلك دعوة باريس الدائمة إلى توافق اللبنانيين فيما بينهم وتعايش مكونات الكيان على تنوعه الذي كانت لفرنسا اليد الطولى في إنشائه مع نهاية الحرب العالمية الأولى وانتدابها على لبنان من قبل عصبة الأمم. وتتمسك باريس بالتعايش باعتباره الضمانة الأولى للاستقرار السياسي والأمني. وفي الموضوع السوري، تدعم فرنسا سياسة «النأي بالنفس» التي اختطها لبنان الرسمي وتحفز اللبنانيين على التمسك بما يسمى «وثيقة بعبدا» التي تؤكد على هذا التوجه. وأكثر ما يقلق باريس، وفق ما يكرره مسؤولوها منذ بداية الأزمة السورية هو أن تتمدد إلى لبنان الذي تعتبره «الحلقة الأضعف» والأكثر تعرضا لانعكاساتها من بين كل بلدان الجوار. وعلى «الجبهة» اللبنانية ــ الإسرائيلية، تتمسك باريس بتنفيذ الطرفين اللبناني والإسرائيلي القرار الدولي رقم 1701 الذي وضع حدا للحرب الإسرائيلية على لبنان صيف عام 2006. وترى المصادر الفرنسية أن أبرز دليل على نجاعة القرار المذكور أن الحدود اللبنانية ــ الإسرائيلية ما زالت هادئة منذ سبع سنوات رغم استمرار الطلعات الجوية الإسرائيلية فوق لبنان وصعوبة إيجاد حل لقرية الغجر واستمرار الخلاف على تحديد هوية مزارع شبعا... ولم تخل السنوات المنقضية من أحداث توتر بين اليونيفيل وتحديدا القوة الفرنسية التي تتكون في الوقت الحاضر من 850 رجلا و«جمهور» حزب الله في الجنوب وفي مناطق انتشار القوات الدولية. كذلك عرفت الحدود بعض التوتر الذي بقي ضمن الحدود التي يمكن التحكم بها.

وقالت الخارجية الفرنسية الجمعة الماضي إن باريس «مستمرة في لعب دورها في إطار القوات الدولية في جنوب لبنان (اليونيفيل) نظرا للدور المحوري الذي تلعبه في المحافظة على استقرار جنوب لبنان» مضيفة أن دورها «أصبح أكثر محورية مع تزايد التوترات الإقليمية». وككل مرة، تؤكد باريس «تمسكها بأن تلعب اليونيفيل دورها الكامل وتنفذ كامل المهمة التي أوكلها إليها مجلس الأمن الدولي».

كل هذه المواقف «الرسمية» تصب كلها في اتجاه واحد هو المحافظة على استقرار لبنان وتنوعه الثقافي والبشري والديني. ولذا، فإن نوعية العلاقة الفرنسية مع حزب الله تطوع من أجل هذا الهدف الأعلى بانتظار أن تنضج الظروف الإقليمية يوما حتى يعود حزب الله يوما ما حزبا مدنيا من غير جناح عسكري.

ولكن إذا كانت هذه عناصر الموقف الفرنسي الرسمي، فكيف يقومه الخبراء وأهل السياسة؟

«الشرق الأوسط» اختارت طرح هذه الأسئلة على دوني بوشار، الدبلوماسي السابق مستشار المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية الخبير في شؤون الشرق الأوسط وعلى النائب في البرلمان الفرنسي جيرار بابت، الذي رأس سابقا مجموعة الصداقة الفرنسية ــ اللبنانية في البرلمان.

يقول دوني بوشار إن باريس تنظر إلى حزب الله على أنه «حزب سياسي له نواب في البرلمان ووزراء في الحكومة وبالتالي يتمتع بالشرعية المتأتية عن العملية الانتخابية». وبنتيجة ذلك، فإن باريس «تقيم معه علاقات ثنائية جيدة عبر سفارتها في بيروت مع وزراء ونواب الحزب وعلى كل المستويات»، فضلا عن ذلك، تسعى فرنسا لإقامة «علاقات جيدة ومتوازنة مع كل الطوائف اللبنانية ومنها الطائفة الشيعية» التي تعتبرها من الطوائف «المهمة» في لبنان والتي «من الصعب الالتفاف عليها». ولذا، فإنها «شريك» تتعامل معه فرنسا من خلال علاقاتها مع رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري ومن خلال حزب الله.

غير أن هناك عوامل أخرى يشير إليها دوني بوشار وتتحكم بعلاقات باريس بالحزب المذكور وأولها وجود اليونيفيل في جنوب لبنان ومن ضمن صفوفها القوة الفرنسية الأمر الذي يدفع الباحث الفرنسي إلى وصف هذه العلاقة في الجنوب بأنها «بالغة الحساسية». ويرى بوشار أن ما يزيد في حساسيتها التوتر الإضافي المتأتي عن الوضع في سوريا وارتداداته لبنانيا ومواقف الأطراف اللبنانية منها ما يعني عمليا أن باريس مدعوة لأخذ هذا العامل بعين الاعتبار في رسم سياستها على المسرح اللبناني. غير أن بوشار الذي يرى أن «الوضع أصبح أكثر حساسية مما كان عليه من قبل» بسبب العوامل المشار إليها، يشير إلى «وجود توافق ضمني بين اليونيفيل وحزب الله لتحاشي قيام تصعيد خطير يفضي إلى أحداث لا تحمد عقباها» بين الجانبين.

وما يشير إليه بوشار تلميحا تقوله مصادر سياسية فرنسية صراحة وفحواه أن قبول فرنسا وضع حزب الله على لائحة الإرهاب «يرجح أن ينعكس توترا في العلاقة بين اليونيفيل وأنصار حزب الله» خصوصا أن باريس تتبع نهجا بالغ التشدد إزاء النظام السوري الذي يحظى بدعم الحزب غير المشروط. وتضيف المصادر الفرنسية أن «ما يصح على الملف السوري يصح أيضا على الملف النووي الإيراني» حيث تلتزم باريس أيضا إزاءه موقفا متشددا يتناقض تماما مع آيديولوجيا والتزامات وولاءات حزب الله.

ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن الباحث جوزيف بحوت وهو أستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس أن الرضوخ لمطلب إسرائيل وواشنطن «سيضع اليونيفيل في وضع لا يطاق» في جنوب لبنان لأن تقبل القوات الدولية في هذه المنطقة «يعود في جزء كبير منه لحسن العلاقات التي ما زالت قائمة بين الغرب وتحديدا فرنسا وحزب الله».

ومن جانبه يرى النائب جيرار بابت في موضوع اليونيفيل أن «مصلحة حزب الله أن يحافظ على الهدوء في جنوب لبنان ولا يفتعل المشاكل». وينفرد النائب الفرنسي بنظرة خاصة به إذ قال لـ«الشرق الأوسط» إن المخاطر بالنسبة لليونيفيل «يمكن أن تأتي من جانب السلفيين أكثر مما تأتي من جانب حزب الله». ويدعو بابت بلاده على أخذ هذه المخاطر بعين الاعتبار في موضوع اليونيفيل بالطبع ولكن على نطاق أوسع لجهة الدعم الذي تقدمه فرنسا للمعارضة السورية مع ما يحمل ذلك من مخاطر متأتية عن صعود التيارات السلفية وانعكاساتها على لبنان والمنطقة. ويشير بابت إلى أنه «حان الوقت» للحكومة الفرنسية أن تعيد تقويم موقفها خصوصا أن الجانبين الأميركي والروسي «يبحثان عن مخرج يجنب انحدار سوريا إلى وضع الفوضى الشاملة والاستفادة من التجربة الليبية وقبلها التجربة الأفغانية».

ويضع بابت علاقة باريس بحزب الله في إطار العلاقات العامة الفرنسية ــ اللبنانية. غير أنه يرى فيها «خروجا من الرؤية السابقة التي كانت تركز سابقا على العلاقة الفرنسية ــ المارونية» كأساس لما هو قائم بين بيروت وباريس. وبرأيه أن علاقة فرنسا بحزب الله «حيوية بالنظر للحقائق القائمة على الأرض». ولذا، فإنه يدعو لأن تكون «مصدرا لاستقرار الوضع الداخلي في لبنان».

ومن زاوية العلاقات المثلثة الفرنسية ــ الإيرانية ــ حزب الله، يرى بابت أن معاودة المحادثات بشأن الملف النووي الإيراني بين طهران ومجموعة الست لا بد أن ينعكس إيجابيا على هذه العلاقة في حال أفضت إلى نوع من التفاهم.

يبقى موضوع حزب الله على الأجندة الأوروبية. وبهذا السياق تقول المصادر الفرنسية إنه «يمكن تصور حلول وسطية» توفق بين التيارين الرئيسيين داخل مجموعة الـ27 ومنها على سبيل المثال استهداف الجناح العسكري لحزب الله أو وضع أسماء الأشخاص المعنيين بعملية بورغاس على «اللائحة السوداء» تماما كما حصل مع اسم عماد مغنية، القائد العسكري في حزب الله الذي بقي اسمه على اللائحة المذكورة حتى مقتله في تفجير سيارته في دمشق عام 2008.