نهاية الحرب العالمية الأولى

TT

تناولنا في مقال الأسبوع الماضي كيف أن التوترات والتحالفات أدت في نهاية المطاف إلى حالة من الاحتقان، التي تفجرت في أعقاب سلسلة من الأحداث المتوالية، والتي لم يستطع أحد منعها على الرغم من أن بعض ضبط النفس كان كفيلا بتفادي تفجرها، وبمجرد أن اندلعت الحرب لجأت ألمانيا لمحاولة حسم الأزمة على الجبهة الغربية من خلال تنفيذ خطة «فون شلايفن» (Von Schlieffen)، وكانت هذه الخطة التي وضعها رئيس الأركان الألماني الأسبق تتمحور حول القضاء السريع على القوة العسكرية الفرنسية واحتلال باريس، وذلك للسعي الفوري من أجل التفرغ للجبهة الشرقية ومواجهة روسيا، التي تعد ماردا عدديا يحد قدراته الكفاءة القتالية الضعيفة، فضلا عن التفرغ لمساعدة الدولة النمساوية المجرية، التي تعد الحليف الأكبر والأول لألمانيا.

بالفعل بدأت الحرب بتنفيذ دقيق للخطة الألمانية من خلال التعبئة العامة القوية بتسخير شبكة السكة الحديد والطرق للآلة العسكرية، التي كان يتوقع لها أن تعيد مجد حرب 1870 عندما دمرت القوات الفرنسية تماما، واحتلت باريس في أسابيع قليلة، ولكن المقاومة البلجيكية الشرسة لعبت دورا مهما في تعطيل الجيش الألماني خاصة في منطقة الأردين، وهو ما أكسب وقتا ثمينا للجيوش الفرنسية للسيطرة على الموقف والتعبئة بالشكل الذي يسمح لها بالصمود أمام المارد العسكري الألماني، وعندما وصلت القوات الألمانية بالقرب من باريس كان الجنرال «جوفر» (Joffre) قد أتم استعداداته بالكامل بوضع كل الفرنسيين على أتم الاستعداد، بما في ذلك سائقو المواصلات العامة والعمال، وعند هذا الحد بدأت معركة «المارن» (Marne) الشهيرة، التي استمرت لفترة طويلة ولم تستطع خلالها الآلة العسكرية الألمانية كسر القوات الفرنسية التي صمدت بكل قوة.

أدى فشل الهجوم الألماني إلى حالة من التوازن العسكري على الجبهة الغربية، فلم يستطع الجيش الألماني دخول باريس، كما أن القوات الفرنسية لم تستطع طرد الجيوش الألمانية من أراضيها، وهو ما أدخل الطرفين في معادلة عسكرية صعبة زاد من تعقيدها دخول الطرفين فيما عرف بـ«حروب الخنادق» (Trench Warfare)، ولكن الحالة على الجبهة الشرقية كانت مختلفة تماما، فقد أسندت قيادة الجيش الشرقي إلى الثعلب العسكري القديم «هندنبورغ» (الذي أصبح فيما بعد الرئيس الألماني، والذي سلم السلطة لهتلر)، وقد نصبا للجيش الروسي فخا عظيما، حيث استدرجوه وطبقوا عليه ما عُرف بالتطويق المزدوج، وألحقوا بالجيش الروسي هزيمة منكرة في معركة «تاننبرج» الشهيرة، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الجنود الروس في مذبحة بشرية مريعة.

لقد كان من المفترض أن تؤدي هذه المعركة لكسر الشوكة الروسية على الجبهة الغربية، ولكن الآلة العسكرية الروسية لم تفتقد أبدا للأعداد الضخمة، كما أن الجيوش النمساوية المجرية لم تكن بأي حال من الأحوال أحسن حالا من الجيوش الروسية، بل إن القيادة العسكرية الروسية حققت بعض الانتصارات الملحوظة ضد القوات النمساوية المجرية، وهو ما دفع ألمانيا لتعزيز وجودها في الشرق لمحاولة تدارك الفشل النمساوي، وهو ما كان له آثاره السلبية على دعم القدرات الألمانية لحسم الصراع على الساحة الغربية، وبناءً عليه استمر الوضع المعقد على هذه الساحة، ولكن الجيوش الفرنسية بالتعاون مع الجيوش الإنجليزية تحركت بقوة لمحاولة طرد الجيوش الألمانية فيما عرف بهجوم «السوم» (Somme). وعلى الرغم من النجاحات التي حققها هذا الهجوم، فإنه لم يستطع كسر القوات الألمانية بشكل يجعلها تضطر للانسحاب والتراجع من الأراضي الفرنسية، ولكنها بدأت تكسر العزيمة الألمانية للاستمرار في الحرب، وهو ما بدأ يضغط عليها من أجل حسم الأمر على الساحة الشرقية لمحاولة تكثيف وجودها العسكري في الغرب، الذي بدأت جبهته تشهد تطورا جديدا متمثلا في استخدام الأسلحة الكيميائية، فضلا عن مشاركة الدبابات بشكلها البدائي لأول مرة، وهو ما رفع حجم الخسائر البشرية بشكل مريع وبات ينذر بحالة حرب ممتدة لا نهاية لها في الأفق.

بدأ السعي الألماني لمحاولة كسر الجبهة الروسية بأسرع وقت ممكن، فما كان منهم إلا أن استغلوا نشوب الثورة الروسية في مارس (آذار) 1917 لمحاولة التعجيل بسقوط الحكومة الانتقالية التي يرأسها «ألكسندر كارنسكي»، وبالتالي بدأت تتحرك من أجل تسهيل انتقال الزعيم الروسي «لينين» من سويسرا إلى بلاده بعدما وعد بالانسحاب من الحرب تماما، ونقل قواته من شرق أوروبا، وبمجرد أن استتب الأمر للبلاشفة، بدأ لينين يسعى لإخراج بلاده من دائرة الحرب، وأرسل وفدا للتفاوض مع الألمان، وتم التوقيع على اتفاقية «برستليتوفزك» (Brestlitovk) في مارس 1918، التي بمقتضاتها تنازلت روسيا عن كل ممتلكاتها في شرق أوروبا بلا مقابل، ومع ذلك فإن ألمانيا لم تكن قادرة على الصمود لمدة طويلة، فلقد جاء الانسحاب الروسي متأخرا متواكبا مع ظروف اقتصادية ألمانية قاسية للغاية وحالة من النقص الشديد في الغذاء والمواد الأولية، فضلا عن أن الاقتصاد الألماني كان محاصرا بشكل كبير بسبب الحرب، وقد زاد من الحسرة الألمانية انضمام الولايات المتحدة الأميركية إلى حلبة الصراع الدائر في أوروبا إثر إغراق الغواصات الألمانية بالخطأ للسفينة الأميركية «لوسيتانيا»، التي أعقبها إغراق سفينة «الألجونكوين»، وهو ما دفع الرئيس الأميركي «وودرو ويلسون» للسعي الفوري للانضمام للحرب إلى جانب الحلفاء، مما كان له أكبر الأثر في دعم القدرات العسكرية لدول التحالف من خلال جيش كبير بقيادة الجنرال «بيرشينج»، خاصة أن فرنسا كانت منهكة للغاية.

وعلى الرغم من أن ألمانيا سعت لاستغلال الهدوء على الجبهة الشرقية بسبب الثورة الروسية من خلال التجهيز لحملة قوية على فرنسا، فإنها لاقت ما حدث في معركة «المارن» نفسه، فلم تستطع ألمانيا أن تكسر الصمود الفرنسي، وعلى الرغم من استمرار الهجوم لأسابيع، فإنها فشلت تماما في كسر العزيمة الفرنسية، وهو ما أدى إلى تأكد الجانب الألماني من أنه غير قادر على كسب هذه الحرب، خاصة أن الظروف الاقتصادية باتت تنذر بخطر وشيك، ولم يستمر الوضع هكذا كثيرا، فسرعان ما اضطر القيصر «ويلهيلم الثاني» إلى التنازل عن العرش والهروب إلى هولندا إثر انتشار الثورات في ألمانيا ووقوف الجيش على جانب الشعب ضده، وهكذا اضطرت ألمانيا إلى وقف الحرب والسعي للهدنة الفورية.

ولعل أهم ما يمكن ملاحظته هو أن الحرب انتهت وألمانيا تحتل جزءا لا بأس به من الأراضي الفرنسية، ولكنها كانت مهزومة سياسيا، وكان على أوروبا أن تجتمع مثلما اجتمعت في فيينا عام 1815 وفي وستفاليا عام 1648 لإعادة صياغة النظام الأوروبي من جديد، ولكن حكمة الساسة الدوليين التي سيطرت على هذه المجالس كانت غائبة، فجاء النظام هشا، وأقرب ما يكون إلى هدنة لمدة 20 عاما.