«فرساي» ورجال السلام الثلاثة

TT

إن صناعة السلم هي بالتأكيد أصعب من صناعة الحرب، فالحرب لها شروطها وقوانينها، أما السلم فلا توجد له معادلات واضحة المعالم صريحة التضاريس، فهو صناعة أقرب ما تكون لصناعة الساعات، تحتاج إلى دقة ورؤية وقدرة على الربط مع الزمن، وهي عناصر كثيرة لم تكن متوفرة في صناع السلام والنظام الدولي الجديد عقب الحرب العالمية الأولى في باريس عندما افتتحت أعمال مؤتمر «فرساي» في 18 يناير (كانون الثاني) 1919، فقد كانت آمال الأوروبيين معقودة على رجال الدولة المشاركين في المؤتمر بعدما فقدت البشرية ما يقرب من سبعة عشر مليون نسمة، وما يقرب من عشرين مليون جريحا، كما وصل حجم الدمار الذي ألحقته هذه الحرب إلى قرابة 185 بليون دولار بالأسعار السائدة في ذلك الوقت.

وعلى عكس اتفاقية فيينا عام 1815، فإن «فرساي» افتقر لشخصية مثل المستشار النمساوي «مترنيخ» أو وزير الخارجية الإنجليزي «كاسلريه»، فلقد أعقب الجلسات العامة جلسات مغلقة «للكبار الخمس»، أي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا واليابان، والواقع أن الدول الثلاث الأول وقياداتها هي التي وقعت عليها مسؤولية صياغة السلام العالمي الجديد وكان على الباقي مجرد إقرار هذا السلام، حتى إن ممثل اليابان لم يكن مهتما إلا بحصول بلاده على المستعمرات الألمانية في المحيط الهادي بينما لم يستطع المفاوض الإيطالي الخروج بالمكاسب التي كانت تقع في بؤرة اهتمامه، وهو ما جعل القادة الثلاثة لفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا غير أهل لصياغة السلام، وذلك للأسباب التالية:

أولا: كان رئيس الوزراء الفرنسي «كليمنسيو Clemenceau» هو الشخصية المهيمنة على المؤتمر مثلما فعل مترنيخ في عام 1815 في فيينا، ولكنه لم يكن يتمتع برؤيته وقدراته السياسية وحنكته المهنية، فلقد عاصر «كليمنسيو» الحربين الرئيسيتين لبلاده مع ألمانيا وذاق مرارة الهزيمة عام 1871، كما أنه شاهد الدمار الذي لحق ببلاده جراء الحرب العالمية، وقد أثر ذلك على تركيبته التفاوضية أثناء صياغة السلام فكان هدفه القضاء على كل قدرات ألمانيا وتحجيمها وتكبيلها بمديونيات واسعة النطاق في شكل تعويضات حرب، وقد باءت كل محاولات المفاوضين الآخرين لإثنائه عن هدفه هذا بالفشل، فكانت روحه الانتقامية هي التي سيطرت عليه وجعلته يلهث وراء سلام في شكل سراب من صنعه مبني على دحض ألمانيا، غير عابئ بتجربة المستشار النمساوي «مترنيخ» والذي ذاق نفس مرارة الهزيمة على أيدي نابليون إمبراطور فرنسا في مطلع القرن الماضي، ومع ذلك فقد سعى لاستيعاب فرنسا في المنظومة الأوروبية بحيث تصبح هذه المنظومة هي خير ضامن لأمن بلاده، وهو الدرس الذي لم يستطع كليمنسيو تعلمه فهو لم يعبأ ببناء نظام دولي قادر على استيعاب ألمانيا وحماية أمن بلاده.

ثانيا: كان الرئيس الأميركي «وودرو ويلسون Wilson» هو الشخصية التي كانت كل أوروبا تنظر لها بعين الفخر والاعتزاز الممزوجة بالخلاص، فلقد تصور الجميع بعد حجم الدمار الذي لحق بهم أن «ويلسون» هو المخلص الذي أتي بفكر جديد من شأنه أن يغير من أنماط السياسة الأوروبية بعيدا عن الحروب وما يترتب عليها من دمار وخراب، وعندما أقلع الرجل على ظهر السفينة «جورج واشنطن» متوجها إلى أوروبا للمشاركة في صناعة السلم والنظام الأوروبي والدولي الجديد كانت نشوة الفكر الليبرالي الذي بشر به الرجل تملؤه، فلقد أطلق الرجل مبادئه الأربعة عشر قبل أيام من بدء مؤتمر السلام في فرساي، وكانت تتضمن عددا من المبادئ الرئيسية التي يجب أن تسير عليها العلاقات الدولية وعلى رأسها حق تقرير المصير أي حقوق القوميات والشعوب المحتلة في إقامة دولها المستقلة، كما تضمنت أيضا ضرورة إلغاء الدبلوماسية السرية والتي كانت السبب من وجهة نظره في إشعال الحرب، إضافة إلى مبادئ حرية التجارة وحرية الملاحة الدولية خارج المياه الإقليمية وإنشاء منظمة دولية متعددة الأطراف تكون مهمتها حفظ السلام العالمي.

حقيقة الأمر أن الآمال المعقودة على الرئيس ويلسون كانت أكبر من حجمه السياسي، فلقد كان الرجل أستاذا جامعيا بدأ تيار الفكر الليبرالي الحر في نظريات العلاقات الدولية، ولكنه لم يكن سياسيا متمرسا في السياسة الدولية، كما أن بلاده لم تكن مستعدة بعد للانخراط في السياسة الدولية ومشكلاتها، فكفاها المشاركة في حرب ليس لها فيها ناقة ولا جمل، وبالتالي فإن الساحة الداخلية الأميركية لم تكن مواتية بالقدر الكافي، كما أن الساحة الدولية لم تكن مستعدة لقبول أفكاره والتي كان ينظر لها على اعتبارها مثالية ستنكسر حتما على واقع السياسة الدولية وفكرة المصلحة التي تدار بها، ومع ذلك فإن الاستقبال الحافل الذي لاقاه «ويلسون» لدى الشعوب الأوروبية جعله يتخيل أنه سيكون قادرا على تطبيق مفاهيمه السياسية بدعم من فكرة الدولة الأميركية الفتية في زمن شاخت فيه الدول وعجز فيه الساسة عن إدارة العلاقات الأوروبية فدمروها، ولكن فكر هذا الرجل اصطدم بواقع لم يكن الرجل قادرا على استيعابه، فالسياسة الخارجية لا تصنع على أكتاف الشعوب أو هتافات الجماهير.

ثالثا: كان الطرف الأخير في المعادلة السياسة هو السياسي البريطاني لويد جورج، وقد مثل الرجل السياسة العملية لبلاده والتي كانت تقليدا راسخا على مدار القرون الثلاثة السابقة، فلقد اتبعت بريطانيا سياسة توازن القوى وكان هدفها الأساسي هو ألا تتوحد القارة الأوروبية تحت أي ظرف من الظروف سواء تحت لواء دولة واحدة أو تحالف عدد من الدول، وقد سعى «لويد جورج» لتفعيل نفس هذا المبدأ، فكان يهدف لمحاولة كبح جماح فرنسا على المستوى القاري، فلم يكن راغبا في أن تصبح فرنسا هي صاحبة الكلمة العليا في القارة، بالتالي فإنه كان يسعى لموازنة أطماعها من خلال الاعتراض المستمر على تقليص أية فرص أمام النمو الألماني، ولكنه في نفس الوقت كان على دراية كاملة أن الفرصة لو سنحت، فإن ألمانيا ستعود أقوى من قبل، بالتالي فإنه كان يتأرجح بين قلقه من فرنسا وبريطانيا، فكان تارة يساند فرنسا وأخرى يساند المطالب الألمانية المشروعة، ولكن التوازن العام للاتفاقية جعله يميل لصالح الحليف الفرنسي التقليدي.

لقد لعبت الشخصيات الثلاث دورا حاسما في خروج صلح فرساي على النحو الذي خرجت به، ففكرة «السلام العادل والدائم» التي أطلقها ويلسون واحتضنها ظاهريا كل من «لويد جورج» و«كليمنسيو» لم يكتب لها الحياة، فالصراعات والمصالح بين الدول والممزوجة بقصر النظر السياسي أسهمت في خلق سلام مشوه كما سنرى أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن صناعة السلام غالبا ما تكون أصعب من صناعة الحرب، فالتدمير سهل لضعيفي الرؤية، والبناء أصعب لمن لهم جلد أما السلام الممتد فيحتاج لرؤية وبعد نظر كثيرا ما يضن الزمان بساسة يمتلكون هذه الصفات.