صناعة فشل السلام في فرساي

TT

تناولنا في المقال السابق الشخصيات الثلاثة التي كفل القدر لها أن تتولى صياغة مستقبل العالم بعد الدمار الذي لحق به جراء الحرب العالمية الأولى؛ فلقد عكف الرئيس الأميركي ويلسون ورئيس الوزراء الفرنسي كليمانصو، ونظيره البريطاني لويد جورج على صياغة الاتفاقية الدولية التي من شأنها أن تحقن دماء أوروبا وتعيد لها الأمن والسلم المفقودين، ولكن كما رأينا، فإن رؤية كل سياسي منهم شابها القصور، فلقد كان الثلاثة المهيمنين على مؤتمر فرساي ينظرون برؤية غير واقعية لفلسفة السلام، فما كان منهم إلا أن تجاهلوا الأهداف والمصالح للاعبين الآخرين سواء في القارة الأوروبية أو خارجها، فخرج السلام مشوها والتوازن مكسورا.

في التقدير، فإن الملف الألماني كان أخطر ما تناوله المؤتمر، فلقد فشل الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء البريطاني في تحجيم كليمانصو بالشكل المناسب في هذا الملف، حيث أصر الرجل على تقليم أظافر الدولة الألمانية بحيث لا تقوم لها قائمة مرة أخرى في أوروبا، وعلى الرغم من جهود الدول الأخرى في موازنة هذه الأهداف، فإن الرجل كان له ما أراد، ففرض على الألمان قبول الشروط الفرنسية، فألمانيا لم تُستشر في صياغة المواد الخاصة بها في الاتفاقية، ولكن الصياغة قُدمت لها وتم إمهالها أسابيع قليلة لقبولها، فما كان منها إلا أن قدمت مذكرة مضادة تضمنت مقترحات محددة للتخفيف من الإجحاف الذي أصابها، فقام الحلفاء بالنظر فيها، واضطر كليمانصو لقبول بعض التعديلات القليلة، وتم إعادة الصياغة الجديدة بشروط فادحة، فلقد أصر الرجل على أن تتضمن اتفاقية السلام عددا من الشروط الأساسية وعلى رأسها:

أولا: تم تحميل ألمانيا مسؤولية اندلاع الحرب في إطار ما عرف بالمادة «231» وهو ما مهد لقيامها بتحمل تعويضات حرب بلغت ما يقرب من 130 مليار مارك من الذهب، وهو مبلغ كان كفيلا بأن يكسر الميزانية الألمانية لعقود مقبلة، وقد أصرت فرنسا على أن تدفع ألمانيا كل هذه التعويضات وكانت لها بالمرصاد، حتى إنه عندما لم تستطع ألمانيا دفع هذه المبالغ قامت فرنسا وبلجيكا باحتلال المنطقة الغربية الغنية بالموارد الطبيعية فيما عرف بحادثة «الروهر» Ruhrعام 1924.

ثانيا: تم وضع حد أقصى للقوات المسلحة الألمانية بلغ مائة ألف جندي، ولم يسمح لها بتخطي هذا الرقم تحت أي ظرف من الظروف، وهو ما اعتقد كليمانصو أن فيه أمن بلاده، فبهذا العدد لا تستطيع ألمانيا أن تحمي حدودها ناهيك بالقدرة على شن حرب؛ ويضاف إلى هذا أن الاتفاقية وضعت أيضا سقفا على حجم التسلح الألماني بما في ذلك تقويض البحرية الألمانية تماما لضمان عدم قيامها بتهديد المصالح الاستراتيجية البريطانية، كما تم نزع سلاح المنطقة الغربية بالكامل والمعروفة بـ«أرض الراين» Rhineland بحيث أصبح هذا الجزء من ألمانيا مجرد منطقة عازلة بين وسط وشرق ألمانيا من ناحية، وفرنسا من ناحية أخرى.

ثالثا: وإمعانا في إحكام السيطرة على ألمانيا، تقرر أيضا أن يتم إنشاء دولة «تشيكوسلوفاكيا» جنوب ألمانيا لتمثل إطارا عازلا، وتم ضم أجزاء من جنوب ألمانيا لهذا الكيان الجديد بحيث أصبح ما يزيد على ثلاثة ملايين ألماني يعيشون تحت رحمة حكومة غريبة عنهم فيما عرف بـ«الإقليم الجنوبي» أو الـ«Sudetenland»، وهو الإقليم الذي طالب به هتلر فيما بعد، واضطر رئيس الوزراء البريطاني تشيمبرلين ومعه الساسة الفرنسيون لقبوله وتم تدوينه في معاهدة ميونيخ الشهيرة عام 1938.

رابعا: واتباعا للسياسة نفسها تقرر تقليم أظافر ألمانيا شرقا من خلال تقوية دولة بولندا على حساب ألمانيا، فتم شطر ولاية بروسيا التي تعد مهد القومية الألمانية من خلال منحها ما يسمى «الممر البولندي» Polish Corridor الذي عزل شرق بروسيا عن ألمانيا الوطن الأم ومنح بولندا السيطرة على هذا الممر لمزيد من الإضعاف لألمانيا وشطر وحدتها الإقليمية، وهو مقترح كان له أسوأ الأثر بالنسبة له.

لم يكن التعامل مع ألمانيا هو وحده الخطر الداهم الذي بات يهدد القارة الأوروبية، فأخطر ما أسفر عنه مؤتمر السلام في فرساي هو التجاهل الكامل لمفاهيم القومية أو حق تقرير المصير، اللذين كان الرئيس الأميركي ويلسون قد طرحهما في نقاطه الأربع عشرة، ففي سبيل التحصين أمام ألمانيا قام الحلفاء بتفصيل دول حولها لاحتواء أية محاولات توسعية مستقبلية، فما كان منهم إلا أن جمعوا التشيك مع السلوفاك في دولة اسمها تشيكوسلوفاكيا لا رابط لها من حيث القومية أو الأسس السياسية، فكان الهدف منها هو تكتيل قوميتين لأهداف سياسية، وهو ما حدث نفسه مع جزء كبير من البلقان من خلال تفصيل دولة سميت يوغوسلافيا ضمت عرقيات مختلفة تماما مثل الكروات والصرب والبوسنيين والسلوفينيين، وذلك على الرغم من عدم وجود أي شيء يربطهم بعضهم ببعض، فالعرقيات لم تكن وحدها العامل المفرق بينهم ولكن الديانة كذلك؛ فلقد شملت مسيحيين أرثوذكسا وكاثوليكا ومسلمين، وهو الزواج السياسي الذي استيقظ العالم على طلاقه في تسعينات القرن الماضي بحرب ضروس وجرائم ضد الإنسانية أودت بحياة الآلاف.

وعلى خلفية هذه الظروف اضطرت ألمانيا لقبول الاتفاقية، فقام رئيس الوزراء الألماني جوستاف باور بإعلان موقف بلاده في خطبته الشهيرة في البرلمان في 22 يونيو (حزيران) التي برر فيها أسبابه للتوقيع بتأكيد «أن لحظة الحياة أو الموت تحت تهديد الاحتلال قد جاءت، وأنا الآن أُعلن اعتراضي على اتفاقية العنف والدمار.. أنا أعترض على استعباد الشعب الألماني وعلى تهديد السلام العالمي في شكل اتفاقية سلام»، وعلى الرغم من ذلك، فإنه البرلمان الألماني قد أقر هذه الاتفاقية تحت وطأة التهديد بالغزو بأغلبية 227 صوتا مقابل 138.

ولعل أهم درس خرج به العالم من هذه الاتفاقية هو أن صناعة السلام غالبا ما تكون أصعب من صناعة الحرب، فأغلب المؤرخين يشيرون إلى أن هذا السلام الهش كان مجرد هدنة بين حربين عالميتين، وقد دفعت فرنسا ثمنا باهظا لضعف رؤية كليمانصو، بينما دفعت بريطانيا ثمن عدم قدرتها على إثناء فرنسا عن عزمها على تدمير ألمانيا سياسيا، على حين دفع الشعب الأميركي ثمن عزلته السياسية التي تلت الحرب بالدخول في حرب عالمية جديدة.

وحقيقة الأمر أن هذه الاتفاقية تعد نموذجا دوليا للخسارة الجماعية؛ فالقوة غير دائمة، والأمن يحفظه التوازن وليس القضاء على مقدرات وقوة الدول.

* كاتب مصري