من التاريخ : مترنيخ وصناعة السياسة والسلام

د. محمد عبد الستار البدري

TT

هل السياسة الخارجية حرفة؟ سؤال يعرف إجابته كل دبلوماسي ويدرسه كل المشتغلين بعلم العلاقات الدولية، والجميع يصلون لنفس الإجابة وهي أن رجل السياسة الخارجية هو بالفعل صاحب صنعة يقيم من خلالها، وفي أغلب الأوقات يكون رجل السياسة الخارجية المتميز رجل دولة ذا قيمة وقامة عاليتين، ولكن ليس العكس بالضرورة صحيحا، فرجل السياسة الخارجية ينطلق في الأساس من منطلقات وطنية، منبعها سياسة دولته الداخلية لتكييف شكل وطبيعة سياستها الخارجية، ولعل أبرز مثال على ذلك كان السياسي القدير «كليمنز لوثر فون مترنيخ» (Metternich)، الذي كان وزيرا لخارجية الإمبراطورية النمساوية - المجرية في 1809 ثم أصبح مستشارا (رئيسا للوزراء) خلال فترة وجيزة للغاية، وقد تناولته في بعض المقالات السابقة في نفس هذا الباب، فهو الرجل الذي كتب عليه أن يدير ثلاث معارك سياسية دولية كبيرة في حياته، انتصر في اثنتين منهما وخسر الأخيرة منها. فلقد كتب عليه أن يشيد التحالف تلو الآخر لمواجهة التوسعات الثورية لفرنسا التي أدت إلى هزيمة بلاده هزيمة ساحقة في ديسمبر (كانون الأول) 1805 في معركة «أوسترلتز» الشهيرة على أيدي نابليون بونابرت، وقد نجح الرجل في جمع الشمل الأوروبي بالتعاون مع نظيره البريطاني كاستلرى Castlereagh. أما معركته الثانية التي أحرز فيها نصرا غير مسبوق في تقديري، فكانت معركة صناعة السلام في أوروبا من خلال المؤتمر الدولي الذي عقد في فيينا عام 1815 تحت رعايته السياسية، واستطاع خلاله أن يسيطر على مجريات الأمور ويعيد ترسيم أوروبا بعد الحرب، وخلق توازن جديد للقوى في القارة كفل لها السلام النسبي لمدة مائة عام تقريبا، ولكن مما لا شك فيه فإنه لم يستطع أن يغير مسار التاريخ، فلقد هزم ومعه فكره المحافظ هزيمة نكراء أثناء الربيع الأوروبي الذي اقتلع الفكر المحافظ من أجزاء كثيرة في القارة الأوروبية في 1848 وفتح المجال أمام المد الليبرالي بصفة عامة والمد الثوري في بعض المناسبات.

إن المتأمل لصفات وقدرات «مترنيخ»، سيجد فيه رجل الدولة القوي الذي استطاع أن ينقذ بلاده بقوة، فلقد كان مدركا خطورة المد العسكري الفرنسي خاصة على بلاده، وبالتالي فإنه في الوقت الذي كان يسعى فيه لتكوين التحالف الجديد ضد فرنسا بالتعاون مع بريطانيا وبروسيا، فإنه آثر أيضا أن يلعب ببراعة لضمان تحالف يتقي من خلاله شر نابليون، فما كان منه إلا أن سعى لعقد قرانه على ماري لويز الابنة الكبرى للإمبراطور النمساوي فرانسيس الأول، وهو ما ضمن له السيطرة على السيف بيد والدبلوماسية بيد أخرى.

ولعل دوره السياسي في إقامة التحالف الأخير ضد فرنسا كان محوريا، وكعادة السياسة الدولية، فإن نهاية الحرب تكون بداية التفاوض، وبالتالي حرص «مترنيخ» على أن تكون بلاده هي صاحبة الدعوة الكريمة لاستضافة كل قيادات أوروبا في هذا المحفل لوضع السياسية الجديدة للقارة وتنظيم العلاقات بين الدول الكبرى فيها، وقد سعى بشكل كبير لاستيعاب كل الأطراف للخروج باتفاق يمنح بلاده أغلبية ما كانت تسعى إليه، وذلك في الوقت الذي لم تكن فيه هذه الدولة صاحبة قيمة عسكرية موازية، ولكن براعة رجل في السياسة الخارجية جعلته يستطيع توحيد كل أوروبا على أهداف بلاده ويضمن رفض الفكر الثوري، من خلال صناعة تحالف دولي كبير ضد هذا التيار، من خلال مجموعات من القمم الدورية لمراجعة التدخل الأوروبي لضرب كل الثورات والفكر الليبرالي لسنوات تالية، ولم يشذ عن هذا النظام سوى بريطانيا لأسباب مرتبطة بتوجهاتها الخارجية الرافضة للارتباط الممتد بالقارة الأوروبية.

من ناحية أخرى، استطاع مترنيخ، من خلال المفاوضات الجانبية والخوض في المفاوضات الوعرة، أن يصل إلى النتائج التي ابتغاها، فلقد وقى أوروبا حربا بدأت بالفعل بين روسيا وبروسيا أثناء المؤتمر، كما أنه استطاع أن يوحد الصف الأوروبي من خلال التعامل مع شخصيات مثل القيصر الروسي الإسكندر الثاني الذي كان مثالا للاختلال النفسي والاختلاف الفكري، خاصة عندما أصر على أن يطوع السياسة الأوروبية وفقا لمبادئ الديانة المسيحية، فما كان من «مترنيخ» إلا أن استوعب الرجل بقدرات فائقة من خلال إقناع الدول بالتوقيع على وثيقة «التحالف المقدس» وهو على قناعة تامة بأن الوثيقة لن تمثل أي قيمة سياسية ولكنها كانت ثمنا لضمان دخول المارد الروسي لتوافق الآراء، كذلك تلاحظ قدرة الرجل الفائقة على استخدام كل دولة لموازنة الدولة الأخرى، حتى إن أغلبية من المؤرخين أكدوا أن التوازن السياسي الذي صنعه الرجل استطاع أن يحفظ الأمن الأوروبي النسبي لقرابة مائة عام.

إن القدرات الأساسية لمترنيخ كانت محل دراسات تاريخية موثقة، فالرجل كانت لديه متناقضات كثيرة، فلقد كان خجولا وجريئا في آن واحد، كما كان هادئا وحادا عندما دعت الحاجة، كان صريحا وقت الحاجة وكتوما في مناسبات كثيرة، ومما يذكره التاريخ أن الكثير من السفراء كانوا يهابون التعامل مع الرجل لقدراته الدبلوماسية الفائقة، فقدرته على الإقناع كانت فائقة، وقدرته على قيادة المجموعات السياسية كانت من أهم ما ميزته وجعلته بالفعل من أهم أمثلة الدبلوماسية على مر التاريخ، فالرجل كانت له قدرات كبيرة على التنسيق بين معتقداته الشخصية من ناحية ومتطلبات بلاده من ناحية أخرى، فضلا عن قدرته على تطويع النظام الإقليمي لخدمة أهداف بلاده من خلال الدبلوماسية متعددة الأطراف، والثابت تاريخيا أن الرجل لم يكن من الداعين للحرب، بل إنه صاحب مقولة شهيرة بأن «الإنسان لا يستطيع أن يغطي الأرض بالأنقاض دون دفن الإنسان تحتها»، فالحرب له تمثل أداة لتحقيق الهدف السياسي فقط، ومن ثم قوله المأثور «يجب أن نكون دائما حاملين للسيف في إحدى اليدين وغصن الزيتون في اليد الأخرى».

أيا كانت رؤيتنا لمعتقدات مترنيخ السياسية، اتفقنا معها أم اختلفنا، ولكننا لا نستطيع أن نغفل أنه من أعظم الشخصيات التي أثرت في السياسة الأوروبية والدولية خلال فترة وجوده على المسرح السياسي، وقد استفسر بعض المؤرخين عن سبب عدم قدرة هذا الرجل على استشفاف مجرى التاريخ وأنه حتما كان سيخسر معركة كبت الفكر القومي وفرض الفكر المحافظ في قارة ذاقت نسيم الليبرالية، والإجابة عن هذا السؤال قد تكمن في أن هناك سياسيين لكل عصر، ولكنه لا يوجد عصر لكل السياسيين لأن هذا معناه ثبات التاريخ، فلقد انتهي عصر الفكر المحافظ في أوروبا ومعه خسفت شمس هذا الرجل لأنه لم يستطع أن يساير الزمن.