إنريكو ليتا.. هل يعيد «المرح» للإيطاليين؟

رئيس وزراء إيطاليا الجديد أعاد الشباب للسلطة السياسية

TT

إنريكو ليتا الباحث الاقتصادي الكفء الذي اختاره رئيس الجمهورية من كل الفئات جورجيو نابوليتانو ظهر على المسرح السياسي، لتشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع بين الحزبين الرئيسين في اليسار واليمين اللذين كانا يتعاركان باستمرار ودون هوادة. وتعيين ليتا، البالغ من العمر 46 عاما، رئيسا لوزراء إيطاليا، يجلب روح الشباب إلى قمة السلطة، في بلد اعتاد أن يكون قادته من المتقدمين في العمر.

* لا يعرفه غالبية الشعب... وعلى الرغم من ذلك باتوا الآن يعولون عليه كثيرا للخروج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة وتفاقم أحوال المعيشية منذ ما يزيد على عامين. هو رئيس الوزراء الجديد الشاب إنريكو ليتا من الحزب الديمقراطي اليساري.

ويلخص سائق تاكسي إيطالي بلهجة أهل نابولي الوضع السياسي، في طريقنا إلى مجلس النواب بوسط العاصمة روما، وكأنه محلل سياسي من الطراز الأول «لم نسمع به من قبل.. ولكننا سمعنا باسم عمه جاني ليتا اليد اليمنى لزعيم حزب شعب الحرية اليميني سيلفيو برلسكوني صاحب الفضائح المعروفة، فكل الطبقة السياسية في إيطاليا على شاكلته، فالفساد ونهب الشعب يطالهم جميعا.. ولكنهم متفقون فيما بينهم على حصانة طبقتهم الاجتماعية، فقد خربوا البلد وأوقعونا في أزمة سياسية وأزمة اقتصادية وجففوا مرح الإيطاليين وما زالوا يسدون لنا النصائح».

ويتميز رئيس وزراء إيطاليا الجديد، وهو عضو قيادي في الفصيل المعتدل في «الحزب الديمقراطي» (يسار الوسط)، بخبرة واسعة في الشؤون الاقتصادية والأوروبية، فضلا عن تاريخه الأكاديمي. ويسعى حاليا لوقف التدهور الاقتصادي ثم التقشف الذي فرضته حكومة البروفسور ماريو مونتي في العام الماضي، وملاحقة المتهربين من دفع الضرائب لمنع إيطاليا من اللحاق باليونان، مما أثر سلبا على الطبقات الفقيرة والمتوسطة دون المساس فعلا بالطبقة الغنية التي حولت استثماراتها إلى الخارج أو لجأت إلى الإنتاج في الصين أو رومانيا أو بولندا لرخص تكلفة الإنتاج هناك وقلة إضرابات العمال، مما أفرز حركة احتجاجية كبيرة تسمى «خمس نجوم» فازت بأصوات 8 ملايين من الناخبين الغاضبين من كثرة التقشف بقيادة الممثل الهزلي طويل اللسان بيبي غريللو (ينعته خصومه بالمهرج)، الذي يصف ساسة إيطاليا بالجيل الهرم المشابه لآثار الرومان، وبأنهم غدوا طائفة فوق الشعب لا يمكن المساس بها مهما ارتكبت من فساد؛ فليس لأفرادها حساب أو سجن بل إنها تعيد طرح نفسها في الانتخابات، حيث تداخلت شعارات أحزاب اليسار واليمين وتفوز بمقاعد البرلمان وتعاود الكرة مجددا.

ظهر الآن على المسرح السياسي إنريكو ليتا الباحث الاقتصادي الكفء، الذي اختاره رئيس الجمهورية العجوز والمحترم من كل الفئات جورجيو نابوليتانو، لتشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع بين الحزبين الرئيسين في اليسار واليمين اللذين كانا يتعاركان باستمرار ودون هوادة.

وتعيين ليتا، البالغ من العمر 46 عاما، رئيسا لوزراء إيطاليا، يجلب روح الشباب إلى قمة السلطة في بلد اعتاد أن يكون قادته من المتقدمين في العمر. وقد ظهر في القصر الرئاسي إبان ترشيحه للمنصب وهو يقود سيارته الخاصة من طراز «فيات»، وهي سيارة شعبية. وفي إطار الشفافية، نشر ليتا إقراراته الضريبية على موقعه على الإنترنت، مظهرا أن أرباحه في عام 2011 كانت 142 ألفا و696 يورو، ما يعادل ‏185 ألفا و761 دولارا. وليتا متزوج بمحررة الشؤون السياسية بصحيفة «كورييري ديلا» سيرا جيانا فريجونارا ولديهما ثلاثة أطفال، وهي الزوجة الثانية له.

وإنريكو ليتا المولود في مدينة البرج التاريخي المائل بيزا بوسط إيطاليا، شاب لامع منذ تخرجه في جامعة بيزا في العلوم السياسية والاقتصاد، وكان أصغر شاب في تاريخ إيطاليا يعين وزيرا وعمره 32 سنة. وحسب مقربين منه، فإن ليتا يتميز بالذكاء الهادئ والفكر المنظم والاستقامة والسمعة النظيفة والتواضع والمرونة والكفاءة المهنية المميزة والتزامه بالوحدة الأوروبية، التي ألف حولها 10 كتب حتى الآن، أشهرها «نعم، لليورو».

كان نائبا للأمين العام للحزب الديمقراطي بيير لويجي برساني الذي استقال إثر فشله في التوفيق بين الآراء المتضاربة وتشكيل حكومة جديدة، وانسحب بعد إعادة انتخاب رئيس الجمهورية قبل أسبوعين، مع بلوغه 88 عاما لعدم توافق الأحزاب على خليفة له، ويمثل ليتا الجناح المعتدل في الحزب المقبل من بقايا حزب الديمقراطيين المسيحيين الذي حكم إيطاليا لـ4 عقود قبل انهياره في تسعينات القرن الماضي بسبب الفضائح حول تمويل الأحزاب. كان المخطط الاقتصادي لسياسة حزب اليسار الديمقراطي في السنوات الأخيرة، ويختلف تفكيره عن اتجاه عمه جاني ليتا المحافظ، وليس لديه إلمام كبير بالسياسة الخارجية أو المنطقة العربية، لكنه من مؤيدي التعاون الوثيق مع حلف الأطلسي والولايات المتحدة؛ فهو عضو في معهد اسبن الأميركي، وفي اللجنة الثلاثية التي تجمع كبار القادة السياسيين والاقتصاديين ورجال الأعمال في أميركا وأوروبا واليابان.

يتميز ليتا بحب المطالعة، ويقرأ كثيرا من الكتب، خاصة للكتاب الإيطاليين الجدد، أمثال سانتو بيازتيزي ومارتشيللو فوا، وهو من أنصار فريق ميلان لكرة القدم (ويملكه رئيس الوزراء الأسبق برلسكوني)، ويحب أغاني المغني الإيطالي المعروف زوكيرو.

يسكن إنريكو ليتا في حي شعبي بجنوب روما قرب منطقة الآثار الرومانية القديمة ومقر منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، ويسمى حي تستاشيو، ويوصف بعد إصلاحه منذ بضعة سنوات بالحي الراديكالي شيك، وكان من المألوف لسكان الحي رؤية ليتا وهو يوصل أولاده الثلاثة بسيارته إلى المدرسة كل يوم، لكن أحد جيرانه قال إنه لم يعد محبا للنكتة في الآونة الأخيرة، بسبب خوفه من تشرذم الحزب الديمقراطي مؤخرا لعدم انضباط بعض أعضائه في التصويت لمرشح الحزب في انتخابات الرئاسة، ومعارضة التيار المقبل من الاتجاه الشيوعي في الحزب للتعاون مع برلسكوني في تأليف الحكومة الجديدة، لأن ذلك يثبت للناخبين أنه لا فرق بين اليسار واليمين في هذه الأيام، لذا سيخسر الحزب من تعاونه مع برلسكوني. تقول سابرينا روزيتي بائعة تذاكر الحافلات العامة التي يستقلها ليتا في دكانها الصغير، حيث تباع السجائر: «إنريكو ليتا معروف لدى الجميع في الحي، لأنه شخص ودود، وهو يسكن في عمارة راقية تم ترميمها ويطلق عليها السكان اسم (الكرملين)، لأن أغلب من يقطنها يعمل في السياسة».

وتصفه سيمونا ليناري بائعة الحلويات في الشارع الذي يسكنه ليتا بأنه «شخص مهذب عالي التربية، ويعامل أولاده بكل لطف»، وتضيف: «والآن سيصبح حينا مثل (داونينغ ستريت) في لندن».

* الحكومة الجديدة

* نجح إنريكو ليتا بدماثة خلقه وذكائه وطريقته الكتومة، وصلته بعمه جاني ليتا المحامي والصحافي المخضرم والمسؤول الثاني سابقا عن شركات الملياردير برلسكوني وأمين عام رئاسة الوزراء في عهد برلسكوني ومرشحه لخلافته أو لمنصب رئيس الجمهورية.

الظرف الحالي صعب، فهناك الاحتقان الداخلي، حيث مل الشعب من تخاصم الساسة، بينما توقفت عجلة الاقتصاد، مما ساهم في تيسير تشكيل حكومة من 21 وزيرا، ثلثهم من النساء، وكانت مفاجأة ليتا انتقاءه إيما بونينو وزيرة للخارجية، وهي المعروفة في الأوساط الدولية والمفوضة السابقة في الاتحاد الأوروبي، التي تتقن عدة لغات، من بينها العربية، حيث درستها في مصر، واختياره لأول مرة من أصل كونغولي سيسيل كيينغه لشؤون اندماج المهاجرين الجدد، في حين وصفتها رابطة الشمال الانفصالية بأنها غير إيطالية، لأنها سوداء وتجنست بالجنسية الإيطالية.

أغلب الوزراء من الوجوه الشابة الجديدة في السياسة، وأهمهم أنجلينو ألفانو نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية والأمين العام لحزب شعب الحرية، الذي أصر برلسكوني على وجوده لإتمام الصفقة، وكان وزيرا للعدل حين تولى برلسكوني رئاسة مجلس الوزراء.

هناك أيضا أصحاب الكفاءات والخبراء، مثل فابريتزيو ساكوماني وزير المال والخزانة والمدير العام السابق للبنك المركزي بنك إيطاليا. تجمع الحكومة بين ممثلي الحزب الديمقراطي وحزب شعب الحرية والمستقلين، وتعارضها حركة «خمس نجوم»، واصفة إياها بأنها تجاهلت رأي ناخبي الحركة، «واعتبرتهم مثل الكلاب».

تم تشكيل الحكومة وحلفها اليمين بسرعة خلال عطلة الأسبوع، حين أطلق النار عاطل عن العمل خارج مقر رئاسة الحكومة، أدى إلى جرح اثنين من رجال الدرك (كارابنيري)، وإحدى المارات، لكن ينتظر أن تحوز على الثقة في البرلمان وتبدأ عملها فورا، وأول المشكلات التي ستواجهها هي العودة إلى تنشيط الاقتصاد بعد جموده، واتباع سياسة النمو مع التخفيف من التقشف وتخفيض الضرائب والنفقات وإلغاء أو خفض ضريبة التملك السنوية على المنزل الأول، وثاني المشكلات العويصة ستتمحور حول تعديل قانون الانتخاب الحالي، مما أدى إلى النتيجة الراهنة التي لم تسفر عن فوز واضح لأي طرف، فتعذر تشكيل حكومة من اتجاه معين دون التوصل إلى ائتلاف مع الاتجاهات الأخرى.

والأهم من ذلك إعادة الثقة بين المواطنين للمؤسسات السياسية والأحزاب، فالإيطالي العادي أصبح مضطرا في السنوات الأخيرة للجوء إلى أساليب الدهاء، وربما المكر، لتأمين حاجياته وسلامته، ويدل استطلاع الرأي الأخير أن ربع الناخبين يشعرون بالاستياء من السياسة، و22 في المائة يشعرون بالغضب، و13 في المائة بعدم المبالاة، و8 في المائة بالضجر.

هل ستصمد الحكومة الجديدة طويلا في وجه التحديات الكبيرة أم ستفشل قريبا لأنها مزيج من كل الاتجاهات ويعود الناخبون إلى صناديق الاقتراع، أم سيطول عمرها حسب نجاحها كل مرة في حل المشكلات المعقدة ووضع الاقتصاد الإيطالي على طريق الشفاء من الركود، أم ستعمر طويلا لأنها الخيار الوحيد في الظروف الداخلية والدولية الراهنة حسب النظام البرلماني الإيطالي؟

يقول مراقبون في الشأن السياسي إن إيطاليا في حاجة إلى تغيير جذري بطريقة سلمية، وهذا ما يدركه إنريكو ليتا، فالجيل القديم قد استنفد وجوده وخبرته.. وإيطاليا لم تتأقلم على العولمة بعد فأوقفت إنتاجها الصناعي تقريبا ما عدا الصناعات الحربية والغذائية وبعض الصناعات المترفة، وباعت كثيرا من دررها للدول الأوروبية القادرة أو الآسيوية الناهضة، وأسعارها باهظة في المأكل والمشرب والملبس، ولم يبقَ لها سوى السياحة والطعام اللذيذ والتراث الثقافي الوافر والذوق الرفيع وذكاء أهلها الفطري وروحهم البهيجة.

لكن السؤال: هل ينجح ليتا في إطلاق عملية التغيير الجدي أم أن «سلطة» الحكومة ستكون خلطة تنازلات ذات طعم مر، وأنها ليست سوى «حكومة الديمقراطيين المسيحيين بواجهة شابة حديثة» ونعود إلى دائرة فارغة من جديد؟

الجو الحالي يدعو إلى التفاؤل على الرغم من الانتقادات المعروفة التي تذكر ليتا بعدائه السابق للتعاون مع برلسكوني والوقوع في حبائل ألاعيبه السياسية، ويبدو أن أوروبا والمستثمرين يثقون بقدرة إيطاليا على تجاوز العقبات، فهي شهيرة في ابتكار حلول مقبولة في اللحظة الأخيرة، والمؤشرات الاقتصادية ما زالت على حالها، على الرغم من استمرار الأزمة لعدة شهور؛ فإيطاليا مصنفة دولة من الدرجة الثانية منذ العام الماضي، وهي دولة هشة بالمقارنة مع غيرها، لكنها لم تستدِن من صندوق المساعدات الأوروبي حتى الآن بسبب نجاح ماريو مونتي رئيس الوزراء السابق في الابتعاد عن الهاوية. تاريخ ليتا ينبئ عن نجاحه في كل عمل أوكل إليه سابقا، ولعله ينجح هذه المرة، إلا إذا قرر برلسكوني سحب الكرسي من تحته، حسب توقيت معين، حين يحس برلسكوني بأنه سيتمكن من تحسين وضعه الانتخابي، فقد نجح برلسكوني حتى الآن في حماية نفسه من ملاحقة القضاء طالما أنه بقي لاعبا أساسيا في السياسة.

* محطات في حياته - باحث اقتصادي وسياسي معتدل من حزب اليسار الديمقراطي ولد في بيزا بمقاطعة توسكانا في 20 أغسطس (آب) 1966.

- درس العلوم السياسية والاقتصاد في جامعة بيزا وتعرف عام 1990 على بنيامينو أندرياتا من الحزب الديمقراطي المسيحي المختص بالاقتصاد، وأصبح مديرا لمكتبه حين عين أندريانا وزيرا للخارجية في حكومة تشامبي.

- عمل رئيسا لتنظيم الشباب في الحزب الديمقراطي المسيحي في عامي1990 - 1991.

- تم تعيينه في وزارة الخزانة عام 1996 أمينا عاما للجنة اليورو وساهم في دخول إيطاليا في العملة الأوروبية الموحدة.

- انتخب نائبا للرئيس في حزب صغير عام 1997 يسمى الحزب الشعبي الإيطالي.

- عين وزيرا لشؤون الاتحاد الأوروبي عام 1998 في حكومة داليما اليسارية الأولى وعمره 32 عاما ثم وزيرا للصناعة والتجارة في حكومة داليما الثانية.

- انتخب نائبا في مجلس النواب لأول مرة عن حزب مارغاريتا، برئاسة عمدة روما روتيللي عام 2001.

- عمل في حكومة برودي اليسارية أمينا عاما لشؤون رئاسة مجلس الوزراء.

- انضم عام 2007 للحزب الديمقراطي اليساري ثم انتخب نائبا للأمين العام للحزب.

- متزوج من الصحافية جانا فراغونارا (45 سنة) التي تعمل في إحدى أهم الصحف الإيطالية «كورببري ديللا سيرا»، وله ثلاثة أولاد ويتقن اللغات الإنجليزية والفرنسية بالإضافة إلى الإيطالية.