الإبراهيمي.. «الحكيم» في المستنقع السوري

تاريخه ومستقبله باتا على المحك

TT

رأى بعينيه فشل كوفي أنان سلفه في إدارة ملف الأزمة السورية، لكنه قبل المنصب وهو يدرك صعوبة المهمة.. وصرح بعد اختياره مبعوثا للأمم المتحدة والجامعة العربية إلى سوريا بأن مهمته شبه مستحيلة. فلماذا خاطر هذا الدبلوماسي الجزائري المخضرم، الأخضر الإبراهيمي، بتاريخه السياسي، ومستقبله وقبل بهذه المهمة العسيرة؟.. هل كان يأمل وهو العضو في لجنة «حكماء العالم» في أن يحقق اختراقا ولو بصيصا في الأزمة المستعصية، أم كما تقول روايات، إنه مجرد بحث عن مهمة أو وظيفة من الوظائف والمهام التي توزع في أروقة الأمم المتحدة.

دخل الحكيم الإبراهيمي، 79 عاما، صراعا مع الخيوط المتشابكة داخل الأزمة السورية معتقدا أنه سينجح في فك التشابكات وصياغة نسيج جديد لسوريا، لكنه بعد أقل من عام وجد نفسه عاجزا عن إيجاد حل سياسي للأزمة، وأصبح الإبراهيمي بكل تاريخه السياسي مهددا بالفشل في هذا الملف، فهل يطيح هذا الفشل بتاريخه ويلصق وصمة الفشل والإخفاق باسمه، أم سيراه التاريخ مقاتلا شرسا حاول بأقصى طاقاته إيجاد حل للأزمة السورية وما على المرء إلا شرف المحاولة.

عندما تم اختيار الإبراهيمي لمنصب المبعوث الأممي إلى سوريا خلفا لكوفي أنان في أغسطس (آب) 2012، رحب المجتمع الدولي به، وأبدى قادة بعض الدول بعض الإشفاق عليه لتحمله مهمة شاقة، من هنا، جاءت نقطة انطلاق الإبراهيمي أقل طموحا من انطلاقة كوفي أنان، كما عبرت عنها تصريحات الإبراهيمي غير المتفائلة في بداية عمله. وقد كانت هذه التصريحات كفيلة بأن تشي باعتماد الإبراهيمي خطوات يمكن وصفها بالحذرة والبطيئة في التعاطي مع الأزمة، رغم تصاعد التكلفة البشرية لكل يوم يمر، ونظام الأسد يعتلي سدة الحكم.

وخلال مباحثاته وجولاته بين الدول العربية والغربية ولقاءاته بالرئيس الأسد وحكومته واجتماعات برموز المعارضة السورية لم يجد الرجل سوى الانتقادات اللاذعة من طرفي الأزمة السورية فلا الحكومة السورية رضيت بجهوده ولا استمعت لكلامه بل واتهمته بعدم الحيادية والتدخل في الشؤون الداخلية لسوريا، ولا المعارضة السورية وجدت فيه النصير والمعين، بل نظرت بريبة إلى مواقفه واعتبرت سلوكه معرقلا لتقدم الحل في مجلس الأمن وطالبت باستقالته.

وفي مقابلة مع «هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)» قال الإبراهيمي: «ربما أفشل ولكن أحيانا يسعفنا الحظ ونتقدم». وفي تصريح لصحيفة «النهار» اللبنانية، قال الإبراهيمي، الذي كان مبعوثا للجنة الثلاثية العربية إلى لبنان في أواخر فترة الحرب الأهلية (1975 - 1990) «عندما كنت وسيطا لإنهاء الحرب في لبنان، لم تكن إمكانات النجاح فيه آنذاك أكبر مما هي الآن في سوريا. وإذا كان مكتوبا لي الفشل فليأت غيري من بعدي وينجح إن شاء الله»، مؤكدا أنه «متسلح بالأمل» على رغم من كل شيء.

وشدد فرحان الحاج المتحدث باسم الأخضر الإبراهيمي لـ « الشرق الأوسط» على أن الإبراهيمي أعلن قبل بضعة أسابيع نيته تقديم استقالته لكنه مستمر في عمله حتى يقرر خلاف ذلك. ويؤكد الحاج إحباط الإبراهيمي من فشل الحكومات في المنطقة العربية وفشل المجتمع الدولي في التوحد لإيجاد حل للازمة، وقال: «لقد اعتذر الإبراهيمي للشعب السوري للفشل الجماعي في مساعدتهم، ومع ذلك فهو حتى الآن يواصل العمل للتوصل إلى حل دبلوماسي».

ونفي الحاج أن يكون للأزمة السورية تأثير على سجل وتاريخ الإبراهيمي وقال: «كما يظهر في سجل تاريخه فهو رجل لديه إيمان راسخ بالدبلوماسية والحلول التفاوضية للأزمات وأظهر قدرا كبيرا من المثابرة والصبر لتحقيق النتائج المرجوة».

ويقول أحد الدبلوماسيين البارزين في البعثة البريطانية للأمم المتحدة لـ « الشرق الأوسط» (رفض نشر اسمه)، «عندما تم اختيار الإبراهيمي كنت متشككا من فرص نجاحه بشدة، وهذا ليس شيئا ضد قدرات الإبراهيمي فهو رجل له نجاحات كدبلوماسي وصانع سلام في بعض من أصعب القضايا لكني تشككت في قدراته على النجاح في الأزمة السورية لأن المشكلة هنا هيكلية فالإبراهيمي لا توجد لديه سلطة، وقدرته على إحكام الخناق على الحكومة السورية وإجبار الرئيس بشار الأسد على الجلوس على مائدة المفاوضات مرتبطة بدعم مجلس الأمن والمجلس منقسم لذا فإن مهمة الإبراهيمي كانت أمرا مستحيلا من البداية».

ويضيف الدبلوماسي البريطاني، أعلن الإبراهيمي عن تفكيره في الاستقالة والسؤال ما الذي يجب أن يفعله بان كي مون والجامعة العربية، هل يعينون بديلا جديدا؟ لست متأكدا من أنها خطوة جيدة يمكن اتخاذها في الوقت الحاضر، لأن العملية السياسية ستبقى متوقفة طالما ظل مجلس الأمن منقسما، وأي مبعوث جديد لن يتمكن من تحقيق أي إنجاز».

وأشار الدبلوماسي ضرورة توحد أعضاء مجلس الأمن على نفس الصفحة خاصة روسيا والصين وقال: «إذا ما قررت روسيا أن الوقت قد حان للتخلي عن الأسد فإنه قد تكون هناك مساحة للمبعوث الدولي للعمل لكن لا يبدو أن ذلك سيحدث في وقت قريب».

ويحظى الإبراهيمي باحترام واسع بين الدبلوماسيين في الأمم المتحدة، وله مكانة خاصة لدى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الذي يشيد به وبتحمله للمسؤولية عند الرد على الأسئلة الخاصة بمهمة الإبراهيمي في سوريا، والشائعات بتفكيره في الاستقالة من منصبه. ويصفه مون بكلمات إطراء كثيرة ويشيد بتواضعه. وقد وصفته مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة سوزان رايس، أنه شخص مقاتل وليس انهزاميا وأن لديه إصرارا على الاستمرار في تأدية مهمته. فيما وصفته كاترين آشتون وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي بأنه دبلوماسي محنك يملك فهما عميقا للمنطقة.

وقلل الدكتور ناصر القدوة نائب المبعوث المشترك للجامعة العربية والأمم المتحدة في تصريحات صحافية من الانتقادات الموجهة للدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي مشيرا إلى أن الحل السياسي يتطلب توافقا بين كل من الولايات المتحدة وروسيا. وقال القدوة، إن الانتقادات التي توجه للإبراهيمي وجهت من قبل للمبعوث المشترك الأولي كوفي أنان، وهي ليس لها أساس من الصحة وتلك الانتقادات تأتي من أشخاص ترى في التدخل العسكري حلا لوقف سفك الدماء في سوريا، لكن من يريد مصلحة السوريين وتسوية سلمية لهذا النوع عليه دعم الجهود السياسية والدبلوماسية التي يبذلها السيد الأخضر الإبراهيمي.

وشدد القدوة على أن الانتقادات التي توجهها كل من الحكومة والمعارضة للإبراهيمي هي أمر غير مستغرب في حالات الصراع، والنزاعات حيث تقوم الأطراف بالهجوم على الوسيط. وحول تقييمه لنجاح أو فشل الإبراهيمي قال القدوة: «الوضع في سوريا سيئ للغاية، ونحن نحاول بكل ما لدينا من إمكانات وقدرات لكن الأمر في النهاية متروك للشعب السوري، وهو الذي سيفرض موقفه على كل الأطراف في النهاية. وقد قال الإبراهيمي، إن الحل في سوريا لن يكون إلا بتوافق أميركي روسي يليه تفاهمات بين الدول الإقليمية والأطراف السورية التي يجب أن تتفاوض وتتباحث في كل التفاصيل التي يشملها الحل السياسي.

وأبدى القدوة تفاؤله بإمكانية الوصول إلى حل سياسي رغم الوضع القائم.

ويشيد بيتر هورسفيل - أحد الدبلوماسيين بالأمم المتحدة الذي عمل مع الإبراهيمي لعدة سنوات لـ « الشرق الأوسط», بخبرة الإبراهيمي وتاريخه الطويل ومواقفه التي أكسبته احترام الكثير من قادة الدول، ويقول، إن «تاريخه يشهد بتوليه ملفات دولية مهمة ونجاحه في تحقيق نتائج إيجابية فقد قاد الإبراهيمي بعثة المراقبين في الأمم المتحدة خلال الانتخابات في جنوب أفريقيا عام 1994 حيث تم التصويت لصالح نيلسون مانديلا كأول رئيس لجنوب أفريقيا وشارك أيضا في المفاوضات التي ساعدت في إنهاء الحرب الأهلية بين شمال وجنوب اليمن». ويضيف: «إذا نظرنا إلى عمله في الأمم المتحدة وتوليه وظيفتين الأولى كمبعوث خاص للأمين العام (عين من 1997 إلى 1999) والثانية الممثل الخاص للأمين العام من (2001 إلى 2004) تولى مسؤولية أنشطة الأمم المتحدة في أفغانستان وكان أمامه تحد كبير لإعادة بناء أفغانستان ورغم الصعاب نحج في تلك المهمة».

وأكد هورسفيل أن قبول الإبراهيمي لمنصب المبعوث الأممي لسوريا هي شجاعة كبيرة وأن الفترة الماضية بذل الإبراهيمي جهودا مضنية للتقريب بين النظام والمعارضة وحشد التأييد الدولي لمساعدة الشعب السوري موضحا أن الإخفاق هو صفة ستلصق بالمجتمع الدولي العاجز عن التوصل لحل وليس صفة تلصق بالأخضر الإبراهيمي.

وفي كتابه: «تدخلات حياة في الحرب والسلام» قال المبعوث السابق كوفي أنان، إن «الإبراهيمي لا يلقى الدعم الذي يحتاجه من المجتمع الدولي، وهناك أناس لا يؤمنون بالوساطة والعملية السياسية ويقولون، إن الوساطة مضيعة للوقت ولم يقدموا أي بديل ولم يتدخلوا لحل الأزمة السورية». وأكد أنان في كتابه أنه يشاطر الإبراهيمي رأيه بأنه لا يوجد حل عسكري للصراع ويقول: «سوريا ليست الحالة التي يكون فيها جانب واحد فائز والآخر ميتا إنه صراع ينذر بحرب طائفية قادمة».

ودعا عنان كل من يريد أن يرى نهاية لإراقة الدماء في سوريا لرفع صوته، مضيفا أن «هناك نقص في القيادة بخصوص المجتمع الدولي، نحن بحاجة إلى قيادة من أوباما وبوتين».

وأشار إلى أن «خطة النقاط الست التي عمل عليها كانت بداية جدية للحل، لكن دولا كثيرة في المنطقة لم تكن جدية وقد خذلتنا، فكانت تعطينا الدعم الكلامي من جهة وتبيع لسوريا السلاح من جهة أخرى»، مبينا أن «هذه الدول راهنت على أن المعارضة ستحسم المعارك عسكريا على الأرض خلال سنة، لكن مضت أكثر من سنة حتى الآن ولم تحسمها، وعندما تدخلنا بشكل جدي لم تتبن هذه الدول خطة الحل بشكل صادق، فأطالت أمد المعارك والصراع وغشت الشعب السوري والقوى المتصارعة».

ويصف أحد العاملين بمكتب الإبراهيمي بالقاهرة أسلوب عمله بأنه شخص هادئ يتجنب التصريحات الساخنة ويميل للدبلوماسية الهادئة والتحدث بهدوء مستخدما عبارات بلاغية عميقة وبعض الفكاهة، ويقول: «حاول الإبراهيمي البحث عن بدائل لخطة سلفه كوفي أنان ونجح جزئيا في التوصل مع الحكومة السورية على وقف إطلاق النار في أكتوبر (تشرين الأول) 2012 بحيث تليها محادثات، لكن وقف إطلاق النار فشل». وأشار إلى أن الإبراهيمي يعمل على استخدام شبكته من الاتصالات لعمل دبلوماسية منسقة لتجنب حرب أهلية تهدد سوريا وجيرانها، رافضا وصف مهمة الإبراهيمي بالفاشلة، وقال: «إعلان فشل مهمة الإبراهيمي في سوريا سيكون إعلانا بسقوط سوريا إلى حرب أهلية لا يعلم أحد مداها» لكن مسؤول دبلوماسي عربي بالأمم المتحدة يؤكد لـ « الشرق الأوسط» أن الإبراهيمي هو «دمية» في يد الغرب لإضفاء مظهر سلمي وشرعي لمطامحهم الإمبريالية، مشيرا إلى أن الإبراهيمي طلب منه توظيف موهبته وخبراته في الدفع بسوريا نحو انتقال سياسي يلبي الطموحات المشروعة للشعب السوري ولم يسند إليه تطبيق خطة كوفي أنان ذات النقاط الست.

وشكك الدبلوماسي العرب في قيام الإبراهيمي بتحقيق نجاحات في المهام التي أوكلت إليه، مؤكدا أن مشاركته في لجنة الأمم المتحدة لعلميات حفظ السلام ساعدت في فرض حلول سياسية ضد إرادة الأطراف المتحاربة بدلا من الإشراف على تنفيذ اتفاقات السلام المبرمة بصورة منصفة لهم، ولا يمكن إنكار دوره في إبطال نتائج الانتخابات التشريعية في الجزائر عام 1992 وإجبار الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة وتسهيل استيلاء قادة الجيش على السلطة مما أدى إلى اندلاع العنف بصورة كبيرة في الجزائر. ويبقى الآن.. السؤال القائم.. هل تطيح الأزمة السورية بتاريخ هذا الدبلوماسي المخضرم.. والإجابة لا تزال في رحم الغيب.