أبو جعفر المنصور.. فراسة وحنكة ودهاء

TT

لا يمكن لأي قارئ في التاريخ الإسلامي أن يغض بصره السياسي عن حياة رجل مثل أبي جعفر المنصور، ثاني الخلفاء العباسيين وأمكرهم وأدهاهم بلا منازع، كما أنه كان أكثر الخلفاء بخلا وحرصا على المال، وأكثرهم فتكا بخصومه والمقربين إليه على حد سواء، فهو شخصية المتناقضات التي تميزت بحنكة وفراسة سياسية جعلته بالفعل المؤسس العملي للكيان العباسي، على الرغم من أن أخاه أبا العباس هو الذي وضع قواعد الصرح العباسي، لكن المنصور هو الذي شيد بناء دولة امتدت لقرون طويلة.

ولي أبو جعفر الخلافة بعد الموت المفاجئ لأخيه أبي العباس السفاح في غفلة من الزمن، وكان في ذلك الوقت يترأس بعثة الحج، وقد بلغه خبر الوفاة على أيدي عيسى بن موسى الذي بدأ يجمع بالفعل البيعة له باعتباره وليا للعهد، وقد أدرك المنصور أن الأمر صار له لكنه كان منزعجا انزعاجا شديدا، حيث كان مدركا أن أركان الدولة لم تكن ثابتة بعد، وكان يخشى على نفسه من قوة عمه عبد الله بن علي الذي كان واليا على الشام وله باع طويل وقوة لا يستهان بها، لأنه كان الرجل الذي هزم مروان بن محمد في معركة الزاب وكسر شوكة الأمويين، وقد تحرك عبد الله وأعلن نفسه خليفة، ورفض مبايعة المنصور، وأخذ البيعة لنفسه من الناس بالشام. وقد اضطر المنصور أن يضع رجله الأول أبا مسلم الخرساني للقضاء على عمه، وبالفعل استمرت الحرب بينهما لأشهر طويلة حتى انكسر عبد الله بن علي، وبذلك دانت البلاد للمنصور.

لقد بدأ المنصور ينظم شؤون البلاد بشكل مهني عال، فاستتب الأمن في عهده، ونظم شؤون الدواوين، وكان المنصور يختار وزراءه ومعاونيه بدقة متناهية، كما أنه كان يضمن ولاءهم تارة بالترهيب وتارة بالترغيب، لكنه لم يكن قادرا على استمالتهم بالمال مثلما كان يفعل أخوه السفاح لبخله، وقد التزم الرجل بمحاولة إرهاب الرعية في كثير من الأحيان لضمان ولائهم، وفي التقدير أن الرجل اتبع ذلك السبيل لظروف نشأة الدولة العباسية وحداثة عهدها، فلقد عانى الرجل كما عانى أخوه وأبوه وأعمامه ورجال الدولة الجديدة من بطش بني أمية، وهو ما خلق لديهم حالة من التوجس والتشكك في من حولهم خاصة المنصور الذي كان يعمل في السر لسنوات طويلة وسط مخاطر محدقة، وتورد بعض المصادر التاريخية أن الرجل كان يغير من سمات وجهه عندما كان يتعامل مع الرعية في محاولة لأن يبرز القوة والبطش حتى يهابوه، فالهيبة كانت مرفوعة عن محبة الرعية.

لكن الغدر كان السمة الأساسية في تعامل هذا الرجل، تماما مثلما كان سمة أخيه السفاح، فلقد أدرك الرجل أن الخطر الوحيد الباقي عليه هو سيف الدولة ومؤسس الملك العباسي الحقيقي أبو مسلم الخرساني قاهر الأمويين في خرسان وفارس والعراق، كما أنه كان أداة المنصور للتخلص من معارضيه، وقد لجأ الرجل للحيلة حتى يستدرج أبا مسلم الخرساني، فأمنه تأمينا كثيرا حتى يأتي به إلى بغداد، ووسط بينهما الكثير حتى أمنوه وأتوا به للمنصور الذي فتك به وأمر بقتله ولفه في السجاد، وبموت الخرساني استطاع المنصور أن يطمئن بعد ذلك ويشعر بأنه يحكم بلا أي معارضة حقيقية أو مكمن خطر.

لكن الخرساني لم يكن الأخير في قائمة من صفاهم المنصور من خصومه السياسيين، حتى من لم يمثلوا خطرا سياسيا عليه وعلى رأسهم الشاعر العظيم ابن المقفع، ويقال إن السبب الحقيقي وراء ذلك هو أن ابن المقفع كان قد كتب وثيقة أمان المنصور لعمه عبد الله بن علي، وكان شاهدا على غدره وخيانته لعمه، فأضمر له الخليفة الشر وتم ترتيب الفخ واستدراجه وقتله، وقد قيل إن آخر كلمات ابن المقفع لقاتله هما بيتان من الشعر قال فيهما:

«إذا ما مات مثلي مات شخص.. يموت بموته خلق كثير وأنت تموت وحدك ليس يدري.. بموتك لا الصغير ولا الكبير»..

لقد عزم المنصور منذ البداية على أن يؤمن ولاية العهد لابنه الأمين بعدما كانت معقودة لابن عمه عيسى بن موسى، فأصر على أن تكون ولاية العهد لابنه بعد عيسى، وكان يعتبر هذه هي الخطوة الأولى، فلم يكن الرجل على استعداد لأن يخسر ذراعه السياسية والعسكرية، وبمجرد أن استتبت الأمور له أجبر ابن عمه على التنازل للعهد لصالح ابنه، ومن نوادر المنصور أنه أراد أن يضمن محبة الرعية لولي عهده الأمين، وعندما شعر بدنو أجله قام بجمع المال من كبار الرعية ووضعه في أكياس عليها أسماء أصحابها، وطلب من ابنه بمجرد وفاته أن يقوم بإعادة توزيع هذا المال على أصحابه حتى يضمن حبهم وارتياحهم لحكمه فيشتري بذلك ولاء الرعية لابنه بأموالهم.

لعل بخل الخليفة المنصور كان مدار تندر في تراجم الساسة العرب، فالبخل المادي لم يكن بكل تأكيد إحدى سمات الشخصية العربية، ومع ذلك فإن الرجل كان ممسكا، فكان حديث القصر والرعية على حد سواء، ويورد المؤرخ ابن الأثير أن المنصور أراد أن يشيد سورا حول الكوفة والبصرة فعزم على جمع تكلفته من سكان المدينتين، فأوضح له عماله أنه سيصعب عليهم حصر أعداد المدينة، فبعث بمناد يجمع أهل المدينتين ليزف لهم خبر منح كل مواطن هبة قدرها خمسة دراهم من أمير المؤمنين، وبعد برهة زمنية قليلة قام بفرض ضريبة أربعين درهما على كل من تم إدراج اسمه على قوائم المنحة، فأنشد أحد الشعراء قائلا:

«يا لقوم ما لقينا.. من أمير المؤمنينا قسم الخمسة فينا.. فجبانا أربعينا»..

وقد استمر المنصور يحكم الدولة العباسية لمدة اثنين وعشرين عاما إلى أن مات وهو في سبيله لحج بيت الله في عام 158 هجريا، فآل الحكم لابنه الأمين بعدما ضمن له أبوه دولة مستقرة وممتدة وغنية وقوية.