ثورة مايو 1805

TT

تعرضنا في مقال الأسبوع الماضي إلى الثورات المصرية السبع في التاريخ الحديث، ودون الخوض في تفاصيلها، ولكننا سنقف اليوم أمام ثورة مايو (أيار) 1805، التي أعتقد أنها كانت من أهم الثورات المصرية على الإطلاق في التاريخ الحديث، وذلك رغم أنها كانت ثورة بدائية بالمفهوم التقليدي، ثورة لم تكن لها خلفية سياسية أو اجتماعية بالمفهوم التقليدي للثورات مثل الثورة الفرنسية على سبيل المثال، ولكن أهميتها تكمن في أنها كانت بداية تغيير النظام السياسي المصري ومثلت خلعا لعباءة شرعية وارتداء لعباءة أخرى، ولولا هذه الثورة لما رسم التاريخ المصري الحديث مجراه على النحو المعروف اليوم.

يتفق المؤرخون على أن التاريخ المصري الحديث بدأ مع الحملة الفرنسية على مصر في 1798 بقيادة الجنرال الفرنسي الطموح نابليون بونابرت، وقد خرجت هذه الحملة بضغط من القوات الإنجليزية، ولكن ليس قبل أن تغير مفاهيم كثيرة كان الشعب المصري يعيش بها، فلقد أدت مقاومة المحتل الجديد إلى الالتفاف حول الأزهر الشريف كمنبر للثورة ومركز لمقاومة الاحتلال، كما أنها فتحت المجال أمام ظهور طبقة التجار والأعيان كفاعل مؤثر على الرقعة السياسية في البلاد ومن وراءهم القدرة على حشد الجماهير المصرية، وعندما خرجت الحملة الفرنسية من مصر في 1801 بعد التدخل العسكري الإنجليزي المباشر بسبب فشل الجيوش العثمانية الواحد تلو الآخر في إجبار الفرنسيين على الجلاء، أصبح في مصر قوى كثيرة تتصارع على نظام الحكم، وعلى قمة السلطة في البلاد كان هناك من الناحية النظرية الوالي الذي يعينه الباب العالي، ولكن قوته كانت معلقة بحبل سري ضعيف متهالك، متمثل في الشرعية الدينية باعتباره ممثلا للحاكم الشرعي للبلاد متمثلا في السلطان العثماني.

لم يكن الوالي وحده على الساحة السياسية، بل إن طبقة المماليك التي كانت تحكم البلاد فعليا قبل قدوم الحملة عادت من جديد بعد أن أجبرتهم الهزائم المتتالية على أيدي الفرنسيين للهروب من مصر، ورغم أن الهزيمة والطرد من مصر كانا يجب أن يساهما في توحيد الصف المملوكي، فإن هذا لم يحدث، بل إن التشرذم كان السمة الأساسية الغالبة على وجودهم في البلاد، فكل قائد مملوكي كان له فريقه ومؤيدوه، وعلى رأسهم أشخاص؛ مثل: البرديسي بك، والألفي بك وغيرهما، وكانت القناصل الأوروبية، خاصة الإنجليز والفرنسيين منهم، يراهنون على القوى المملوكية لكي تحسم الأمور السياسية في البلاد فتعود إلى نفس أسلوب الحكم العقيم قبيل الحملة الفرنسية، فكان الفرنسيون مائلين للبرديسي، بينما الإنجليز يراهنون على الألفي بك الذي أخذوه خارج مصر، حيث تم تدريبه وشراء ولائه تمهيدا لإنزاله لمصر لتولي السلطة في البلاد في 1804.

أما من الناحية الأمنية، فإن البلاد كانت في حالة فوضى عارمة لأسباب متعلقة بوجود الجيش العثماني الذي تم تشكيله من أجل طرد الفرنسيين من البلاد، فالجيوش العثمانية، كما هو معروف، لم تكن متجانسة، حيث كان يطلب من الولايات المختلفة إرسال فصائل وألوية للمشاركة في تكوين الجيش الموحد، بالتالي فالمشهد الداخلي في مصر تضمن انتشار قوات من جنسيات مختلفة بعدما فقد الوالي العثماني القدرة على السيطرة عليهم، منهم اللواء الألباني، وفصائل المغاربة والدلاة إلخ...، كل له قيادته الخاصة، ومطلوب توفير مرتباتهم من خلال الضرائب المفروضة على المصريين، وكان من ضمن هذه القوات شاب يدعي محمد علي، وكان ثالث الضباط من حيث الأقدمية في اللواء الألباني الذي كان يرأسه طاهر باشا، ومع مرور الوقت آلت قيادة اللواء الألباني إلى محمد علي وهو شاب في العشرينات من عمره، وكان يتمتع بذكاء خارق وقوة وعزيمة وقدرة فائقة على المناورة والتحالف.

بدأ محمد علي بمناورة المماليك، سواء من خلال التحالف معهم أو ضدهم وفق الظروف السياسية، خاصة أن قواته لم تكن كافية لبسط سيطرتها على البلاد، وكان الرجل على دراية كاملة بأن الباب العالي لم يكن على استعداد لدعمه كوال على مصر التي تعد من أهم الولايات في الدولة العثمانية فلا يحكمها إلا من يضمن ولاؤهم، وبالتالي أرسلت الوالي تلو الآخر ليواجه مصيرا محتوما، حيث استطاع المماليك والقوات المختلفة خلعهم الواحد تلو الآخر.

لم يتوقع أحد أن يكون محمد علي هو صاحب الحظ الأوفر، فلقد كتب القنصل الفرنسي لدى مصر ليؤكد لباريس أن محمد علي غير قادر على أن يكون لاعبا فاعلا على الساحة المصرية، مشيرا إلى أنه لا يملك أي مشروعات كبرى... «ولو سلمنا جدلا بأنه فكر فيه، فليس لديه من الوسائل ما يمكنه من تنفيذ ما يفكر فيه»، ولكن هذا الشاب كان له فكر آخر، فلقد أدرك محمد علي بفراسته السياسية أن رهانه يجب أن يكون على الطبقة الوطنية الصاعدة ممثلة في التجار والأعيان والمدعومة من قيادات الأزهر الشريف والشعب، فبدأ يفتح قنوات الاتصال معهم ويستميلهم تدريجيا ويؤلبهم ضد الوالي تارة وضد قادة المماليك مثل البرديسي ويحثهم على الثورة عليه تارة أخرى، فتخرج جموع الشعب بعد زيادة عبء الضرائب لتهتف «يا برديسي يا برديسي أيش تاخد من تفليسي»، واستمر محمد علي في مناوراته حتى جاءت لحظة الحسم في مايو 1805 عندما أعلن خورشيد باشا قرار السلطان العثماني تولية محمد علي ولاية جدة بالحجاز.

لم يعلق محمد علي على القرار وترك نفسه لرحمة وحب القيادات الشعبية المصرية التي كانت ترى فيه الشخصية المناسبة لتولي الحكم في مصر، فعقد المصريون الاتفاق مع محمد علي لمساندته على حكم مصر مقابل الاتفاق على خروج عساكر القوى المختلفة من القاهرة وعدم فرض ضرائب إلا بإذنهم واستشارتهم في الأمور المهمة التي تؤثر على الشعب مباشرة، وعندما قبل محمد علي ثارت البلاد ثورة عارمة في وجه خورشيد باشا وحاصروه في القلعة إلى أن فر منها، وطالبوا بتولية محمد علي على مصر، وإزاء الضغوط الشعبية القوية والثورة الجماهيرية أذعن السلطان واستجاب على الفور فخلع خورشيد باشا من الحكم وتمت تولية محمد علي قائمقام في مصر بفضل الشعب، وباءت كل محاولات السلطان العثماني لعزل محمد علي بالفشل بعد ذلك، حيث ظل الرجل متمسكا بعلاقته القوية بالزعماء المصريين إلى أن غدر بهم بمجرد أن استتب له الأمر في مصر. ورغم أن محمد علي نقض عهده نقضا تاما وشتت أواصر الطبقة الوطنية المصرية الصاعدة وآخرها من خلال نفي قائدها عمر مكرم بعد عامين من توليه الحكم، فإن هذه الثورة تعد بكل المعايير ثورة فريدة من نوعها للأسباب التالية: أولا: أن هذه الثورة تمثل في حقيقة الأمر خطوة غير مسبوقة في المنطقة العربية والإسلامية بصفة عامة، فالعرف السائد في ذلك الوقت كان الولاء التام للسلطان العثماني وأن أي خروج عليه يمثل خروجا على الشرعية والدين، وبالتالي فإن هذه الثورة تعد أول حركة ثورية من نوعها تخرج عن عباءة القومية الدينية وتدفع نحو شرعية جديدة لم تكتمل أركانها بعد.

ثانيا: لقد فتحت هذه الثورة الطريق لأول مرة أمام فكرة مؤداها اختيار الشعب لحكامه، وبالتالي فرض الشعب حقه في الاختيار، ومن ثم فهذه تعد بداية لمفهوم القومية المصرية أو الوطنية المصرية، أي أحقية المصريين في اختيار حكامهم وعدم خضوعهم لرغبة السلطان العثماني الذي تحللت البلاد عن سلطانه وعباءته السياسية على مدار قرون ممتدة، فكانت هذه الثورة بمثابة اللبنة الأولى لفكرة الديمقراطية في السياسة الداخلية المصرية.

ثالثا: فتحت هذه الثورة الطريق أمام بناء أول دولة مدنية في التاريخ المصري الحديث، والمقصود بالمدنية هنا هي الدولة التي تحكم على الأسس السياسية المبنية على الشرعية والمؤسسية الوطنية، فكان الجيش المصري أول هذه المؤسسية، وبالتالي ولد الفكر الوطني المصري المستقل من تبعات هذه الثورة. لكل هذه الأسباب، فإن ثورة مايو 1805 تعد في التقدير من أهم الحركات الثورية، ليس فقط في مصر ولكن في الوطن العربي ككل، فهي تعبير عن بداية ظهور الدولة الوطنية أو القومية في هذه المنطقة.

* كـــاتب مصري