من التاريخ

المغول وبغداد والعالم

المغول في بغداد
TT

تناولنا في مقال الأسبوع الماضي حياة جنكيز خان وتأسيسه الإمبراطورية الكبيرة من العدم بعد توحيد القبائل المغولية تحت قيادته، وقد مات الرجل في عام 1227 دون أن يحقق حلمه باحتلال العالم، خاصة الصين وأوروبا والعالم الإسلامي، وقد كانت وصية الرجل هو توزيع الإمبراطورية على أولاده الأربعة، فنال تولوي ابنه الأصغر منطقة منغوليا نفسها، ونال «أوجتاي» أقصى الشرق، ونال «جوجي» المنطقة الغربية جنوب روسيا، بينما نال ابنه الرابع منطقة شمال نهر جيحون، وقد توج مجلس المغول الابن «أوجتاي» الخان الأعظم على هذه الكونفدرالية مع بقاء السلطات في هذه المناطق مع حكامها.

وعلى الرغم من هذا التقسيم السياسي، فإن التوسع المغولي لم يتأخر كثيرا، فلقد سعى كل خان أو ملك لتوسيع ممالكه المختلفة على حساب الدول التي لم تفتح على أيدي القبائل المغولية بعد، وكانت منطقة روسيا وشرق أوروبا أكثر الدول التي تعرضت لعمليات الغزو الممنهج من قبل المغول، خاصة أن كثيرا من المناطق بها كانت تحتوى على أراض شاسعة من المراعي التي رأى فيها المغول أنها تشابه مراعي «الاستبي»Steppe الشهيرة بوسط آسيا، وقد وصل المغول حتى كييف عاصمة أوكرانيا الحالية.

بحلول عام 1251 مات «أوجتاي» وبات على المجلس الأعلى للمغول أن يعين خانا جديدا، فاستقر الرأي على اختيار «مونجو» حفيد جنكيز خان من ابنه جوجي، فكان رجلا قويا وشجاعا ومتسامحا خاصة في مجال الدين، حيث سمح بعمليات التبشير في الإمبراطورية فانتشرت المساجد والكنائس وبدأ الكثير من المغول يعتنقون الإسلام والمسيحية، وفي عهده بدأ المغول أيضا موجة أخرى من التوسع الغربي؛ وهذه المرة كانت صوب العالم الإسلامي، وكان قائد هذه الجيوش التي تقدر بمائة وخمسين ألفا هو «هولاكو» الذي يمثل أكثر الشخصيات بغضا للمسلمين ومن أكثرها مقتا في التاريخ.

لقد كان قرار الخليفة العباسي حاسما بمواجهة المغول وتفريق شملهم، ولكن حقيقة الأمر أن الخلافة العباسية كانت ترزح تحت حكم فاسد وضعيف منذ انتهاء العصر العباسي الأول وعلى مدار قرون ممتدة، فلقد خضعت هذه الدولة لتيارات من النفوذ الأجنبي للوصول لسدة الحكم سواء كانوا فرسا أو أتراكا أو غيرهم، مما أسفر عن إضعاف هذه الدولة، وبالتالي فهي لم تكن في حقيقة الأمر جاهزة لمثل هذه المواجهة. وقد ظهر المغول على أبواب بغداد وفرضوا الحصار عليها عام 1258 وجاءت الخيانة هذه المرة من بعض القبائل التركية التي كانت في خدمة الخليفة والتي آثرت الانضمام لمثيلاتها في جيش «هولاكو»، وهو ما أسفر عن سقوط مدو للعاصمة الروحية للخلافة الإسلامية، خاصة بعدما تم قتل الخليفة المستعصم بالله بغير إراقة دم نظرا لوجود نبوءة تؤكد خطورة إراقة الدماء الملكية للشعوب التي يحتلها المغول. وبسقوط بغداد تيتم العالم الإسلامي بعدما أصبحت بغداد مرتعا للعبث والسلب والنهب المغولي الذي أودى بازدهارها السياسي والثقافي والروحي بشكل لم يكن متوقعا.

بدأ المغول يوجهون أعينهم صوب سوريا ومصر، فبدأ هولاكو يسعى لمد جسور الود مع المجتمعات المسيحية في هذه المناطق، وقد ساعد على ذلك أن الرجل كانت له ميوله للمسيحية بسبب اعتناق زوجته «دوكوز خاتون» الديانة المسيحية، وبالفعل استطاع الرجل أن يحتل الشام فسقطت المدينة تلو الأخرى مستغلا حالة الفراغ السياسي الناجمة عن الصراع السياسي في مصر، ولكن المماليك استطاعوا أن يجمعوا عزيمتهم وأن يوحدوا صفوفهم بقوة فتمت المواجهة في معركة «عين جالوت» الشهيرة التي سنخصص لها مقالا، وانتهت بهزيمة ساحقة للمغول هي الأولى من نوعها في تاريخهم.

وعلى الرغم من هذه الهزيمة، فإن حلقة الفتح والغزو المغولي استمرت بعض الشيء بفضل الاستراتيجية العسكرية العظيمة، ولكن ما حدث كان انتقال مركز وبؤر الغزو من العالم الإسلامي إلى المناطق الأخرى، ولكن الخلافات الداخلية بدأت تظهر أيضا، فكان أولها الخلاف الذي نشب بين أولاد «أوجتاي»، لا سيما العداء بين «كوبيلاي» و«إريك بوكي»، وهو السبب الذي دعا هولاكو لترك زحفه على العالم الإسلامي والتوجه إلى منغوليا للوقوف إلى جانب «كوبيلاي»، وامتدادا لهذا الصراع نشب خلاف جديد بين هولاكو والقبائل المغولية الذهبية Golden Horde لا سيما بعد اعتناق الأمير المغولي «بركا» الإسلام وتحمسه الشديد له، ولكن هذا لا يقلل من شأن الخلاف السياسي والاستراتيجي بين الطرفين الذي لم يكن الدافع الديني إلا جزءا ضئيلا منه، مما أدى إلى نشوب الخلافات والمناوشات بل والحروب بينهما. وفي تطبيق دقيق لآليات توازن القوى التي لا تعرف للدين أو للقومية نسبا، تحالف «بركا» مع المماليك في مصر، بينما تحالف هولاكو مع كثير من القبائل الصليبية التي كانت تحتل بؤرا مختلفة من الشام، وسرعان ما أعلن الرجل تضامنه الكامل مع الخليفة العباسي قاطعا بذلك كل العلاقات بين الطرفين.

هكذا انفرط العقد المغولي على مدار قرن ونصف القرن من وفاة جنكيز خان، وعلى الرغم من الكونفدرالية التي جمعت المغول ممثلة في قيادة الخان الأكبر، فإن الظروف السياسية والاقتصادية والعسكرية كانت تعمل ضد التوحيد السياسي لهذه الدولة مرة أخرى، فزالت الدولة وتفككت بأسرع مما توقعه الجميع، فبنهاية القرن الرابع عشر أعيدت الدولة المغولية إلى منغوليا في الشرق واستقلت الدويلات الأخرى وانتهت الإمبراطورية سياسيا. وفي التقدير أن الاندثار السريع نسبيا لهذه الإمبراطورية كانت له أسباب عديدة منها:

أولا: إن سنة السياسة هي اختلاف الورثة على جثة مؤسس الإمبراطورية المتوفى، والدولة المغولية لم تكن خارجة عن ناموس الحياة، فلقد تغلبت المصالح الشخصية والأهداف السياسية الضيفة لبعض القادة والأمراء على الباقين، بالتالي كانت النتيجة النهائية هي تفتت القوة المركزية للدولة، وهذه هي بداية النهاية لأية دولة ما لم تتجدد دماء وحدتها مرة أخرى بقيادة عظيمة ملهمة.

ثانيا: إن الامتداد الجغرافي الشاسع للدولة المغولية شأنها شأن أية إمبراطورية كبرى يؤدي إلى حالة من التراخي السياسي بعد فترة زمنية وجيزة، وهي الظاهرة التي يطلق عليها عملية الـOverstretching، فالقدرة على توحيد الصف والفكر تختفي بعد وفاة المؤسس وعدم وجود الرمز القومي للدولة، يضاف إلى ذلك أن فكرة المركزية أضعفت بعد تقسيم مملكة جنكيز خان بين أولاده.

ثالثا: إن أكثر العوامل التي أدت للتفتت المغولي في تقديري كانت تلك المرتبطة بالبعد الثقافي للدولة المغولية ذاتها، فالثقافة المغولية لم تكن مركز جذب لثقافات الدول والأراضي التي احتلوها، وذلك على عكس الدولة الإسلامية مثلا، فكانت النتيجة المتوقعة هي استيعاب المغول للثقافات المختلفة دونما القدرة على تصدير الثقافة المغولية البدوية والبدائية في الوقت نفسه، بالتالي نجد الأمير «كوبيلاي» يعتنق الثقافة الصينية تماما سواء في قصره أو إدارته للبلاد أو أي منحى آخر، بينما اعتنق آخرون الإسلام والمسيحية، كما تلون المغول بالثقافات الأخرى؛ الفارسية والإسلامية والأوروبية، كذلك فإن الدول ومن بعدها الدويلات المغولية لم يكن لديها أية فرصة للاستمرارية التاريخية بعدما بدأت تفقد الهوية تدريجيا، ولكن هذه سنة التاريخ لمن لا يقدم الكثير للدول التي يحتلها.

من المؤكد أن المغول أسسوا أكبر دولة عرفها التاريخ حتى ذلك التاريخ، وأقاموا أقوى الجيوش، وغزوا أكبر الدول، إلا أنه تم غزوهم ثقافيا، وعندما اندثرت الدولة المغولية، فإنها لم تترك للعالم إلا فنون القتال وبعض الاستراتيجيات العسكرية، بينما كان إرثها الحضاري والثقافي متواضعا للغاية، وهو ما يدفعنا للتأكيد على أن أقوى أنواع الغزو هو الغزو الثقافي، فالفكرة لا تضاهيها إلا الفكرة، والحضارة والثقافة هي التركة الحقيقية للشعوب والإمبراطوريات.

* كاتب مصري