من التاريخ : درع مصر في عين جالوت

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تابعنا في الأسبوعين الماضيين الفتوحات المغولية في العالمين العربي والإسلامي وفي الصين وأوروبا، وبات كما لو أنه لا يوجد من يقف أمام هذه القوات الهمجية التي كانت لها الغلبة في المعارك التي خاضوها، فسرعة حركتهم كانت الباعث الأساسي لانتصاراتهم، فلم تستطع القوات النظامية المختلفة أن تقف أمامهم، وبات كما لو أن سقوط العالم الإسلامي بات وشيكا، فها هي فارس تخضع لجبروت جنكيز خان وعنفوانه وقسوته، كما سقطت الخلافة العباسية على أيدي هولاكو الجبار الذي دمر المدينة لمدة ثمانية أيام بلا رحمة، ولم يبق أمامه سوى التحرك صوب بقية العالم العربي، فكانت الفرصة مواتية له، فبدأ جهده العسكري تجاه الغرب وبدأ حملته العسكرية الجديدة في سوريا.

لقد ظهرت جيوش هولاكو حفيد جنكيز خان خلال مرحلة صعبة للغاية بالنسبة للعالم الإسلامي، فلقد انهارت الخلافة العباسية، على الرغم من أنها كانت في حالة يرثى لها، ولكن اندثار الخلافة وضع العالم الإسلامي في حالة يُتْم سياسي، خاصة أن مركز الثقل التالي الذي تمثل في مصر كان يمر بظروف صعبة للغاية بسبب الصراع على السلطة واحتضار الدولة الأيوبية، وبالتالي، فإن آخر فرص الصمود أمام الغزو المغولي كانت بأيدي مجموعة من العبيد المعروفين في التاريخ المصري باسم «المماليك»، حيث كان يشتريهم رجال الدولة الأيوبية لحمايتهم وتكوين جيوشهم الخاصة أو ميليشياتهم، وبالتالي، فإن الحالة في مصر كانت حرجة للغاية، لا سيما بعد اندثار الدولة الأيوبية، وبات من الواضح أن مصر قد تدخل في حرب أهلية فتصبح فريسة سهلة في أيدي المغول.

وعلى الرغم من استعدادات هولاكو، فإنه اضطر لمغادرة سوريا صوب منغوليا على أثر سماعه بوفاة الخان الأعظم، مما دفعه للسعي إلى الحصول على نصيبه من الميراث السياسي، فترك الرجل شؤون الجيش المغولي إلى قائده «كتبغا» بعد أن أخذ نسبة لا بأس بها من جيشه معه، وعلى الفور بدأ «كتبغا» يطمع في مصر، فأرسل الرسل إليها، فكان رد المماليك قطع رؤوسهم إيذانا بالحرب، وبالفعل بدأ كتبغا يتحرك صوب مصر عبر فلسطين على رأس جيش تختلف حوله التقديرات، فترى بعض المصادر الغربية أن جيش المغول تراوح بين عشرين وثلاثين ألفا، ولكن في التقدير أن هذا الرقم أقل بكثير من الرقم الحقيقي، فلقد كان جيش هولاكو يقارب مائتي ألف مقاتل، وما كان له أن يترك جيشه يسيطر به على العراق والشام ويستعد لمنازلة مصر بثلاثين ألفا كما ورد في بعض الآراء، وبالتالي فإن التقدير المنطقي يكون في حدود ما بين الخمسين إلى السبعين ألف مقاتل.

وعلى الفور استعد قائد المماليك المظفر قطز فجمع الجيش المصري الذي تكون في ذلك الوقت من المماليك وبعض البدو وقبائل الهوارة والأعراب والمصريين، لمواجهة المغول في أول حرب مفتوحة بين الطرفين. وتشير بعض المصادر الغربية إلى أن الجيش المملوكي بلغ أكثر من مائتين وعشرين ألفا، ولكن في التقدير أن هذا الرقم مبالغ فيه بشكل كبير للغاية، فالمماليك لا يتوقع أن يزيد عددهم على مائة ألف على أقصى تقدير بما في ذلك القبائل والقوات غير النظامية. لم يضع قطز الوقت فاتجه إلى فلسطين بعد أن أمن خطوط إمداده من خلال الحامية الصليبية التي كانت موجودة في عكا، وهو ما سمح له بالتوجه مباشرة إلى عين جالوت لملاقاة المغول، وقد اختار الظاهر بيبرس موقع المعركة بعناية، فلقد كانت له خبرة في التعامل مع المغول، خاصة أن بعض المصادر التاريخية تشير إلى أنه كان عبدا مملوكا لأحد القادة المغول، فكان على دراية كاملة بفنون القتال لديهم، فاختار الرجل موقع المعركة بعناية فائقة بحيث وضع جزءا كبيرا من جيشه خلف الجبال المحيطة بسهل عين جالوت تاركا المشاة يواجهون الهجوم المغولي وحدهم، وقد صدق حدس الرجل، فسرعان ما بدأت ميسرة الجيش المصري تنكسر أمام ضغوط فرسان المغول المدربين تدريبا على أعلى مستوى، وبالفعل تراجع المماليك بقوة جاذبين الميمنة المغولية إلى فخ منمق، فما كان من بيبرس إلا أن التف حول الميمنة من خلال هجمة شرسة أحاطت بالجيش من الخلف وطوقته، وقد أتقن المماليك الفخ وفرضوا حصارا على المغول انتهى بهزيمة ساحقة لهم أغلب الظن أنها أدت لقتل أغلبية الجيش المغولي.

لقد مثل انتصار المصريين في معركة عين جالوت تغيرا نوعيا في الخريطة السياسية والعسكرية لمنطقة الشرق الأوسط، كما كانت لهذا النصر آثاره المباشرة في تغيير منحي السياسة الدولية، وذلك من خلال ما يلي:

أولا: لقد مثلت هذه أول هزيمة ساحقة للمغول في المنطقة العربية والإسلامية، وهو ما كان له أكبر الأثر في كسر هيبة هذا الجيش الذي لا يقهر، خاصة بعد ما فعله عقب تدمير بغداد، وهو ما جرأ العالم الإسلامي على مواجهة هذا الخطر المحدق.

ثانيا: إن الانتصار المملوكي ما كان ليتم لولا وجود تحالف مهم تغفله كثير من كتب التاريخ بين دولة المماليك في مصر من ناحية و«القبائل الذهبية» Golden Horde وهي فصيل من القبائل المغولية التي كانت تقطن روسيا، فلقد دخلت هذه القبائل في الإسلام ورفضت التعاون مع قوات هولاكو؛ بل أصر أميرها المعروف باسم «بيركاي» على أن يساند مصر والمسلمين في مواجهة هولاكو.

ثالثا: اتصالا بما سبق، بدأت دولة المماليك تستعد لمواجهة المغول مرة أخرى، فقام بيبرس الذي تربع على عرش مصر بعد قتله لقطز، بتحصين سوريا واتباع سياسة الأرض المحروقة من أجل تجويع خيل المغول، وبالتالي عندما عاود المغول حربهم ضد المماليك، فإن مصر كانت مستعدة، وعلى الرغم من تحقيق المغول بعض الانتصارات، فإن المحصلة النهائية كانت هزيمتهم خاصة بعد موت هولاكو في عام 1264م.

رابعا: وضعت هذه الانتصارات حد التماس الفاصل بين الدولة المملوكية والمغول الذين آثروا البقاء في فارس وإقامة الدولة الإلخانية، كما سنرى، مكتفيين بهذا القدر من الدولة الإسلامية خاصة بعدما باءت آخر محاولات المغول للسيطرة على مصر بالفشل عندما هزم السلطان الناصر بن قلاوون «اباكا» ابن هولاكو وآخر الجنرالات المغول.

إن معركة عين جالوت تعد بالفعل إحدى أهم المعارك على مر التاريخ، وهي بالفعل نموذج للمعارك الفيصلية التي تغير وجه السياسة والتاريخ.. من ناحية أخرى؛ فقد وقى هذا الانتصار مصر والعالمين العربي والإسلامي خطر المغول، وسمح بأن يكون لها أكبر الأثر في تشكيل النظام السياسي الدولي، ووضعت الدولة المملوكية وقاعدتها مصر في مصاف القوى العظمى على المستوى الدولي.

* كاتب مصري