من التاريخ: المحور المغولي الإيراني في التاريخ

TT

مما لا شك فيه أن «هولاكو» كان له أكبر الأثر على المسيرة السياسية للعالم الإسلامي ليس فقط لأنه قضى على الخلافة العباسية وبدأ حالة صراع مع مصر المملوكية، ولكن لأنه ترك خلفه إرثا تاريخيا مهمّا كثيرا ما تتناساه كتب التاريخ أو تسعى لتجاهله؛ وهو تثبيت دولة «الإلكخانة» أو «الإلهانة» التي أقامها على أجزاء كبيرة من دولة إيران اليوم عقب عودته لقيادة جيشه المغولي في منطقة ما بين النهرين.. فقد آثر الرجل تقوية حكمه في إيران جاعلا من مدينة تبريز مركزا مهمّا له، وآثر عدم الاشتباك ولو مؤقتا مع مصر لحين استتباب الأمور له هناك، وقد شدد هولاكو على مواقفه الرافضة للإسلام والمسلمين، فلقد كان تأثير زوجته المسيحية واضحا، ولكن حنقه على المسلمين كان له سببه السياسي، فلقد كان يرى في الإسلام عدوه اللدود الذي يقف حائلا أمام طموحاته التي تهدف للسيطرة على مصر درة التاج الإسلامي، ولكنه اضطر للاكتفاء بإيران مؤقتا، ولم يهنأ هولاكو كثيرا؛ إذ سرعان ما وافته المنية تاركا ابنه «أباكا» حاكما على البلاد.

حقيقة الأمر أن سياسات توازن القوى كان لها دورها المهم في صياغة السياسة الخارجية لأطراف المعادلة السياسية الدولية في ذلك الوقت، فلقد بات واضحا وجود تحالف يضم إيران المغولية والعديد من القبائل التركية في الأناضول وعددا من الممالك الصليبية في الشام فضلا عن اتصالات تهدف للتحالف مع ممالك غربية في أوروبا، وكان لبابا الفاتيكان دوره الكبير في هذا التوجه ليس فقط لأسباب متعلقة بموازنة النفوذ الإسلامي - المصري، ولكن لفتح بلاد فارس أمام التبشير المسيحي، خاصة أنه لم يكن سعيدا بوجود قاعدة كبيرة للمسيحيين من فرقة النساطرة هناك تعمل بلا رقيب أو حسيب، وكان هذا أمرا متوقعا؛ إذ أن المغول كانت غالبيتهم تدين بالديانة المعروفة «بالشامانية»، أما الدولة البيزنطية فقد سعت عند مرحلة محددة للانضمام للتحالف المغولي - الإيراني، ولكنها تراجعت بسبب ضغوط القبائل الذهبية المغولية عليها من الشمال.. في مقابل هذا التحالف ظهر تحالف مواز تترأسه مصر تحت حكم المماليك، وانضم لهذا التحالف القبائل الذهبية المغولية في الشمال وعدد من مراكز القوى الإسلامية التقليدية سواء في سوريا أو شبه الجزيرة العربية، ولعب التحالفان دورهما في صياغة توازن القوى في هذه المنطقة.

وفي هذا الإطار كان من المنتظر أن يبدأ الصراع بين المركزين الأساسيين في العالم الإسلامي ممثلين في مصر وإيران، فلقد توترت العلاقة مع مصر إلى أقصى حد، وبدأ الصراع المفتوح بين مصر المملوكية وإيران المغولية، خاصة حول منطقة العراق في الغرب وفي هضبة الأناضول في الشمال لا سيما حول إقليم «ملاطيا» الذي بدأ يشهد تحركا عسكريا مصريا لا سيما في عهد السلطان الظاهر بيبرس، وقد وصلت قمة النفاق والتآمر على العالم الإسلامي بين إيران المغولية والممالك الأوروبية عام 1269م عندما سعى المغول بالتحالف مع ممالك أوروبية لغزو شمال الشام غزوا مشتركا، ولكن هذا الغزو فشل تماما بسبب الصمود المصري، وقد ساعدت القبائل الذهبية في الشمال الجهد الحربي المملوكي من خلال المناوشات والحروب التي قام بها الخان «باراكا» حاكم هذه القبائل ضد شمال الإلكخانة، ورغم إخفاقه في تحقيق أي نصر يذكر، فإنه استطاع أن يُخدّم على المجهود الحربي المصري ضد المغول.

وعلى الرغم من الفرص السياسية والاقتصادية العظيمة التي أتيحت لدولة «الإلكخانة»، فإنها تأرجحت سياسيا ارتباطا بمدى حنكة وديناميكية الحاكم المغولي، فلقد كان الخان «أباكا» حكيما، ولكنه مات متأثرا بتسمم كحولي، فدخلت البلاد في حالة فوضى سياسية خاصة بعد تولي «نيكودار» البلاد، الذي أشهر إسلامه وسمى نفسه «أحمد»، وفتح قنوات التحاور مع المماليك في مصر على أمل أن يخلق تحالفا إسلاميا، ولكن المحادثات فشلت بسبب رفض القيادات المغولية الأخرى لهذا التغير الشديد وغير المبرر، كما أن الاضطرابات الداخلية منعته من استكمال مشروعه، لا سيما بعد أن ظهر «أرجون ابن أباكا» يطالب بحقه في الحكم، ولكنه مات بعد أن تولى الحكم بأقل من عامين، ولكن ليس قبل إذاقة المسلمين الويلات وفتح الباب على مصراعيه أمام جهود التبشير.

جاء «كيخاتو» للحكم بعد «أرجون»، فواجه أزمة اقتصادية طاحنة في البلاد، وسعى سعيا حثيثا لعبورها، فكان من أهم إنجازاته نشر العملة الورقية في البلاد مستعينا بالنموذج الصيني في هذا الصدد، ولكنها كانت تجربة محدودة النجاح، فازدادت الأزمات الاقتصادية سوءا، فثار عليه الناس، وخلفه خان آخر سمي «غازان» وقد أعلن الرجل إسلامه على الفور، وفي تاريخه تحولت هذه الدولة إلى الإسلام السني، ومع ذلك فقد عامل الشيعة بالحسنى، وفي عهده تحولت المعابد البوذية إلى جوامع، وقُضي في عهده تماما على أي نفوذ للبابا وفرقة النساطرة وأية فرق أخرى.. وبعد عقدين من الزمن أصبح الدين الأساسي في البلاد هو الإسلام السني، وأصبحت اللغة التركية الأكثر انتشارا في البلاد وليست العربية بسبب انتشار نفوذ القبائل التركية التي وردت عليها وساهمت في بناء جيش الإلكخانة، وقد أصبحت أذربيجان المركز الثقافي المهم في هذه المنطقة، وفي عهده أيضا انقطعت العلاقة بين «الإلكخانة» والخان المغولي الأعظم، فنالت استقلالها السياسي من الناحية القانونية على الرغم من أنها كانت مستقلة فعليا من الناحية السياسية.

تولى حكم الإلكخانة «أولجاتيو» الذي اعتنق المذهب السني في بداية عهده ثم تحول للمذهب الشيعي في 1310 تقريبا، ولكن ذلك لم يؤثر على استتباب الفكر السني في البلاد بشكل واضح، ولكنه فتح المجال أمام مزيد من النفوذ الشيعي، وبالتالي عند وفاة هذا الرجل أعلن ابنه الملقب بـ«أبي سعيد» اعتناقه المذهب السني وأعاد نفوذ أهل السنة والجماعة في البلاد إلى سابق عهده، وكان من أهم إنجازاته أنه وضع حدا للخلاف مع الدولة المصرية، خاصة ما يتعلق بالصراع مع سوريا في عام 1323، وهو ما هدأ من خطورة الوضع وسمح للمماليك فيما بعد بالقضاء على فلول الصليبيين في الشام تماما. لقد لعبت دولة الإلكخانة دورا مهمّا في مسيرة السياسية الدولية في ذلك الوقت، وكانت جزءا لا يتجزأ من نظام توازن القوى في هذه البؤرة الزمنية المهمة التي تعرض فيها العالمان العربي والإسلامي لمخاطر غزو المغول والصليبيين، وقد استمرت هذه الدولة في لعب هذا الدور لفترة غير طويلة؛ إذ سرعان ما أنهكتها الصراعات الداخلية في البلاد وبات سقوطها مسألة وقت قصير، وهو ما تم بالفعل في نهاية القرن الرابع عشر.

* كاتب مصري