تونس.. سيناريوهات للمستقبل

عيون المعارضة والائتلاف الحاكم على الشارع.. والانتخابات المقبلة

TT

تتعاقب الأحداث بسرعة غير معهودة في تونس، بعد استفحال الأزمة السياسية التي تواجه الائتلاف الحاكم والمعارضة، منذ انتخابات 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 التي أفرزت أغلبية نسبية لحزب النهضة الإسلامي وحلفائه العلمانيين بزعامة المعارضين السابقين للرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، الدكتور مصطفى بن جعفر زعيم حزب التكتل اليساري والدكتور منصف المرزوقي زعيم حزب المؤتمر القومي العربي.

وتبدو تونس بعد أكثر من شهرين من إزاحة الجيش المصري للرئيس محمد مرسي وقيادات حزبه وجماعة الإخوان المسلمين تحت ضغط سياسي غير مسبوق من قبل عدد من أبرز صناع القرار في الداخل والخارج بهدف حثها على إدخال تغييرات جذرية للمشهد السياسي على رأسها إقالة الحكومة الحالية، بزعامة المهندس علي العريض القيادي البارز في حزب النهضة.

فما السيناريوهات التي تواجه تونس بعد نحو ثلاثة أعوام من اندلاع انتفاضتها الاجتماعية والثورة التي أسفرت عن الإطاحة بحكم الرئيس بن علي؟ هل باتت مهددة بالسير على خطى ليبيا ومصر واليمن حيث يتغير المشهد السياسي بسرعة لصالح رموز نظام ما قبل اندلاع «الربيع العربي»؟ أم تلعب المستجدات الأمنية والسياسية في مصر ما بعد 30 يونيو (حزيران) و3 يوليو (تموز) دورا عكسيا في تونس لإقناع صناع القرار بضرورة حسم خلافاتهم سياسيا بعيدا عن تدخل المؤسستين الأمنية والعسكرية؟.

* حسب آخر تصريحات الأمين العام لقيادة اتحاد نقابات العمال حسين العباسي، ورئيسة نقابة رجال الأعمال وداد بوشماوي، فإن «كل القيادات السياسية الحكومية والمعارضة مطالبة بالقيام بتضحيات كبيرة وتنازلات مؤلمة»، بهدف إخراج البلاد من الأزمة السياسية الخانقة منذ اغتيال، المعارض اليساري القومي العربي محمد البراهمي يوم 25 يوليو الماضي. لكن بعض فصائل المعارضة قررت «إيقاف المفاوضات» ودعت أنصارها إلى «التصعيد مجددا حتى إسقاط الحكومة والمجلس الوطني التأسيسي»، بينما تعد قيادات الائتلاف الحاكم «محاولة الانقلاب على الشرعية والمؤسسات المنتخبة خطا أحمر» مثلما جاء على لسان رئيس الحكومة السابق حمادي الحبالي والشخصية الإسلامية المعرفة باعتداله عبد الفتاح مورو.

* البحث عن تطمينات وضمانات

* رغم بوادر «التصعيد» فإن تصريحات المولدي الرياحي، الناطق الرسمي باسم الائتلاف الحكومي الثلاثي والقيادي في حزب التكتل اليساري بزعامة مصطفى بن جعفر، لـ«الشرق الأوسط» جاءت متفائلة، وتكشف أن المفاوضات الماراثونية التي جرت طوال أسابيع بين قيادات من أحزاب المعارضة والائتلاف أسفرت «عن توافقات حول كل الملفات الخلافية بما في ذلك مبدأ استقالة الحكومة الحالية وتعويضها بحكومة كفاءات غير حزبية»، لكن الخلاف ظل قائما حول «مسائل ترتيبية»، حيث تشترط المعارضة استقالة الحكومة فورا قبل بدء الحوار الوطني حول خارطة الطريق القادمة، فيما يطلب الائتلاف الحاكم، بدء جلسات الحوار أولا والاتفاق على منهجية عمله وعلى اسم رئيس الحكومة القادم قبل إقالة الحكومة الحالية.

في الوقت نفسه، أورد رئيس الحكومة الحالية علي العريض مجددا في تصريح تلفزيوني أن حكومته مستعدة للقيام بكل التنازلات في سبيل تفادي الفوضى والفراغ السياسي، مستبعدا، استقالة حكومته قبل بدء الحوار الوطني والتوافق على خارطة طريق جديدة. أي قبل توصل زعامات المعارضة والائتلاف الحاكم والنقابات إلى توافق سياسي وطني جديد يسمح للبلاد بالمضي بنسق أسرع في المصادقة على الدستور وعلى البدء في إنجاز الانتخابات البرلمانية والرئاسية المؤجلة.

وعلى غرار ما ورد على لسان الخبير السياسي والناشط الحقوقي المستقل صلاح الدين الجورشي في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، فإن «جل الأطراف متخوفة من المستقبل، وتريد ضمانات سياسية، تحسبا لدخول البلاد مرحلة محاسبات وإقصاءات وإقصاءات متبادلة».

* تغيير الواقع داخليا وإقليميا

* لكن الزعيمين اليساريين حمة الهمامي وسمير الطيب وبقية رموز المعارضة «الراديكالية» يعدون أن «الأوضاع تغيرت ميدانيا في تونس وإقليميا ودوليا خلال الأسابيع والأشهر الماضية» وأن «شعبية الحكومة الحالية وحركة النهضة وتيارات الإسلام السياسي تراجعت كثيرا، ولم يعد مقبولا أن تتمسك قيادات الائتلاف الحاكم عامة وحركة النهضة خاصة بورقة الشرعية الانتخابية»، لأن نزول مئات الآلاف من التونسيات والتونسيين إلى الشارع بعد اغتيال محمد البراهمي كان رسالة سياسية واضحة عن تضاعف نسبة المطالبين بإسقاط الحكومة وحل المجلس الوطني التأسيسي، على حد تعبير حمه الهمامي زعيم الحزب العمالي الشيوعي.

ويذهب بعض النواب اليساريين المستقيلين من المجلس التأسيسي ورفاقهم في عدد من النقابات العمالية والأحزاب اليسارية مثل النائب اليساري منجي الرحوي، عضو حزب الفقيد شكري بلعيد، إلى أبعد من ذلك إذ يدعون إلى «الإطاحة بالحكومة فورا وإلى استبعاد كل الإسلاميين نهائيا من اللعبة السياسية». ويحمل هؤلاء رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي شخصيا ورفاقه في قيادة حزبه «المسؤولية السياسية عن الحوادث الإرهابية التي أسفرت عن اغتيال عدد من العسكريين والأمنيين والمعارضين مثل شكري بلعيد ومحمد البراهمي»، بسبب ما وصفوه بـ«تسامحهم خلال العامين الماضيين مع السلفيين المتشددين».

* تغيير الواقع على الأرض أولا

* الدكتور عبد اللطيف المكي الوزير في حكومة الائتلاف الحالية وأحد أبرز قيادات حركة النهضة في المفاوضات مع المعارضة واتحاد الشغل، نفى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن تكون حركته وحكومته تعملان على «ربح الوقت وتغيير الوضع على الأرض قبل تقديم الاستقالة المبدئية»، على الرغم من الاتهامات التي توجهها لها شخصيات بارزة في المعارضة مثل أحمد نجيب الشابي زعيم الحزب الجمهوري وعبد الرزاق الهمامي الأمين العام لحزب العمل الوطني الديمقراطي وكلاهما انخرط في ائتلاف «الاتحاد من أجل تونس» الذي يتزعمه الباجي قائد السبسي رئيس الحكومة الأسبق ووزير الخارجية والداخلية في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة.

وترى قيادات من المعارضة القريبة من أحزاب اليسار الاشتراكي أن «النهضة وحلفاءها يحاولون تمديد مرحلة حكومة علي العريض مع توظيف الأحداث الدامية في مصر وتعاقب الهجمات الإرهابية على عسكريين تونسيين على حدود تونس مع الجزائر لوضع التونسيين أمام الأمر الواقع من جهة.. وليتابعوا تحسين مواقعهم على الأرض وخصوصا في الإدارة ووسائل الإعلام.. استعدادا للمعركة الانتخابية القادمة».

* تحديات أمنية واقتصادية

* لكن لئن نجحت الحكومتان اللتان تداولتا على السلطة منذ عامين في الرد على كثير من التحديات الأمنية فإن التحديات الاقتصادية تتراكم وتوشك أن تتسبب في انفجارات اجتماعية عنيفة تسقط حسابات الحكومة والمعارضة في نفس الوقت.

وزير المالية إلياس فخفاخ توقف في تصريح لـ«الشرق الأوسط» عند «الضغوطات المالية والاقتصادية الهيكلية وتراكم العجز المالي في مستويات كثيرة». وحذر فخفاخ خاصة من استفحال المشكلات الموروثة عن العقود السابقة وعلى رأسها تراجع قيمة الدينار، وارتفاع عجز المؤسسات العمومية ماليا، وتضاعف أعباء صندوق التعويض والدعم للمواد الغذائية والمحروقات أربع مرات (من 1500 مليون دينار قبل الثورة إلى نحو 6 مليارات هذا العام رغم زيادات المحروقات العام الماضي)، إلى جانب ارتفاع عجز الصناديق الاجتماعية وتضخم الأعباء الاجتماعية ونسبة الأجور والمنح في ميزانية الدولة على حساب الاستثمار العمومي وبرامج التشغيل.

وقدر عجز المؤسسات العمومية الرئيسة قبل الثورة بنحو 18 مليارا لكن هذا العجز تضاعف أربع مرات ونصف، حسب وزير المالية التونسي الذي أورد أيضا أن «هذه المستجدات تسجل في وقت توشك فيه صناديق التقاعد والحيطة الاجتماعية والضمان الاجتماعي والتأمين على المرض، أن تعلن عجزا رسميا عن الإيفاء بتعهداتها لملايين المنخرطين، لا سيما في القطاع العام». ويشير إلى أن الأخطر مع هذا التطور هو تراجع قدرات الدولة على «ضخ مزيد من الأموال» لفائدة المؤسسات العمومية والصناديق الاجتماعية، «لأن الأعباء الجديدة فاقت الـ7 مليارات منذ 2010 (ثلاثة مليارات لزيادات الأجور وأربعة لصندوق الدعم)».

ما المخرج إذن من هذه الأزمة السياسية التي تتزامن مع أزمة اقتصادية اجتماعية؟!

* الحوار المقبل.. والمواجهة المؤجلة

* في ظل هذا الوضع يؤكد معارضون ونقابيون وقياديون من «جبهة الإنقاذ الوطني» على خيار المواجهة.. عبر تنظيم سلسلة من التحركات والمظاهرات تحت يافطة «ارحل».. وإلى العودة إلى تنظيم مجموعة جديدة من «اعتصامات الرحيل». لكن ضعف الإقبال شعبيا على غالبية تحركات «ارحل» خلال الأسابيع الماضية، ثم بروز انقسامات بين المعارضين.. أقنع غالبية الساسة التونسيين بضرورة العودة إلى مائدة الحوار والتفاوض.

ورغم الإعلان عن فشل حوارات الأسابيع الماضية عاد الحسين العباسي أمين عام اتحاد الشغل ليعلن عن مبادرة جديدة للحوار والتفاوض باسم المنظمات الحقوقية والنقابية ورجال الأعمال.. واعتبر العميد الصادق بلعيد في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن نتائج جلسات الحوار بين حسين العباسي وراشد الغنوشي عن قيادتي اتحاد الشغل والنهضة تؤكد أن «أغلب الأطراف السياسية اقتنعت بأنه لا يمكن لأي جهة أن تحكم تونس لوحدها وأن التوافق السياسي ضروري جدا لإخراج البلاد من أزمتها، لا سيما بين الأطراف الرئيسة أي نقابات العمال ورجال الأعمال من جهة وحزبي نداء تونس والنهضة من جهة ثانية، مع تفعيل دور ممثلي التيارات اليسارية والاشتراكية التي يمكنها أن تساهم في إعادة ترتيب الأوراق وفي تغيير حقيقي للمشهد السياسي».

وأبدى العميد الصادق بلعيد تفاؤلا كبيرا بالدور الذي يمكن أن يلعبه المستقلون والنقابيون في المرحلة الانتقالية الجديدة، وفي إنجاح الحوار الوطني الذي أعلن حسين العباسي وبقية قادة المعارضة والائتلاف الحكومي المراهنة على نتائجه.

* إكمال الحوار قبل 23 أكتوبر

* لكن العميد والخبير السياسي والقانوني الصادق بلعيد حذر من «مخاطر تمديد جلسات الحوار والتفاوض حول مبادرة الاتحاد وحول مقترحات الأطراف السياسية الكبرى، وخصوصا نداء تونس والنهضة إلى أجل غير محدود». واعتبر أن الأجل الأقصى لإنهاء الحوارات والمشاورات ينبغي ألا يتجاوز 23 أكتوبر القادم، على أن يعلن بالمناسبة عن استكمال صياغة الدستور وتحديد تاريخ الانتخابات القادمة التي يمكن تنظيمها في أجل لا يتجاوز منتصف الثلاثية الأولى من عام 2014. إذا لم تنجح ظروف تنظيمها في ديسمبر (كانون الأول) أو يناير (كانون الثاني) القادمين في ذكرى الثورة». واعتبر بلعيد أن الأسابيع التي تفصل عن موعد 23 أكتوبر تكفي لاستكمال المشاورات الماراثونية التي من المتوقع أن تجري تحضيرا لتشكيل حكومة انتقالية جديدة ترأسها شخصية مستقلة لا تترشح للانتخابات القادمة.

وتوقع بلعيد أن يغادر أغلب النشطاء اليساريين والاشتراكيين حزب الباجي قائد السبسي «نداء تونس» والتحالف الذي يقوده والذي تزايد فيه جهويا ووطنيا دور الدستوريين، إلى حزب اشتراكي عمالي يساري جديد، قد يضم جل رموز أحزاب الجمهوري والمسار وقطب الحداثة، مثل السادة أحمد نجيب الشابي وسميرة الطيب وأحمد إبراهيم والفاضل موسى ورياض بن فضل، فضلا عن قياديين ونشطاء من الجبهة الشعبية.

واعتبر بلعيد أن بقية السياسيين ونشطاء الأحزاب الـ180 سيشكلون أساسا قطبا للمحافظين، قد يكون حول «الاتحاد من أجل تونس» الذي يمكن أن يتطور إلى «قطب سياسي حزبي يوحد غالبية النشطاء الإسلاميين في حركة النهضة وحزب نداء تونس حاليا.. لأنه لا توجد تناقضات جوهرية بين غالبية الدستوريين والنهضويين، ويمكن أن يشكلوا معا حزبا محافظا منافسا للحزب اليساري العمالي».

* تطهير المناخ السياسي

* الحقوقي والوزير الأسبق الدكتور حمودة بن سلامة يعتبر أن من بين معضلات الطبقة السياسية انشغالها المبالغ فيه بالمبادرات «السياسية» على حساب الملفات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية، الأمر الذي تسبب في توتر المناخ الاجتماعي والأمني وتعقيد الوضع العام في البلاد. ويرى أنه بات من المؤكد الأولويات في نظر كثير من النشطاء والخبراء المستقلين، مثل السيد صلاح الدين الجورشي، تطهير المناخ العام في البلاد عبر حوار وطني حقيقي.. يمهد لتشكيل حكومة تكنوقراط وكفاءات وطنية، تقوم بتسيير البلاد وتصريف الأعمال ما بين 23 أكتوبر القادم (كحد أقصى) وموعد الانتخابات الذي لا ينبغي أن يتأخر أكثر لأن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية تضغط على الجميع. واعتبر يساريون وحقوقيون قريبون من الائتلاف الحاكم ومن جبهة الدفاع عن استكمال المسار السياسي الانتقالي ورفض الانقلاب، مثل بلقاسم حسن الأمين العام لحزب الثقافة والعمل ومحمد القوماني أمين عام حزب الإصلاح والتنمية، أن إكمال صياغة الدستور قبل 23 أكتوبر ممكن جدا إذا تحقق شرط الحوار والتوافق السياسي، وإذا لم تقدم قيادات الأحزاب الاعتبارات الانتخابية الخاصة بها في ظل استطلاعات الرأي التي تؤكد تراجع شعبيتها جميعا، سواء كانت في الحكم أو في المعارضة.

* دور النقابات.. وحسابات السياسيين

* في هذا السياق تبقى الأنظار متجهة إلى سلوكيات النقابات العمالية والطلابية خلال الأسابيع القادمة، وإن كانت ستنحاز إلى «المعارضة اليسارية الراديكالية» ودعاة الإضرابات والاعتصامات إلى أنصار «الحلول الوسطى» وبدء «الاستعدادات للانتخابات القادمة»، خصوصا بعد لقاءات زعيم المعارضة الباجي قائد السبسي بزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في تونس وفرنسا، وما تردد عن وجود «مشاريع صفقات» تلتزم فيها حركة النهضة بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة على أن تقتصر مشاركتها على الانتخابات البلدية والبرلمانية.

لكن في الوقت الذي تبدو فيه الأنظار والحسابات في صالونات السياسيين مركزة على الأجندات، والتحالفات الانتخابية القادمة، فإن كل طرف سيواصل استخدام أوراقه «المحلية والإقليمية والدولية.. في محاولة لتغيير موازين القوى على الأرض قبل الموافقة على تاريخ قريب لتنظيم الانتخابات».