الدولة الأميركية وميلاد الدستور الجديد

TT

تناولنا في مقال الأسبوع الماضي الظروف المحيطة باستقلال الولايات الثلاث عشرة والمشاكل الأساسية التي واجهتها بسبب سوء الأحوال الاقتصادية، ومشكلة عدم وجود عملة مركزية موحدة ذات قيمة، وأزمة الدين العام للكونغرس، والمشاكل الخاصة بالتجارة والعمالة، وتقنين ملكية الأراضي، وغيرها من الأمور المعلقة. وقد تيقن قادة الفكر والسياسة في الولايات المختلفة أن الحل يكمن في مجموعة من الخطوات، وعلى رأسها إيجاد حكومة مركزية قوية وقادرة على لم الشمل ووضع آليات العمل المشترك بين الولايات المختلفة، بعد أن ثبت ضعف الكونغرس القاري الذي كان يتولى هذا الدور، فضلا عن عدم المساس بالخصوصية المنفردة لكل ولاية وحقها في ما يشبه الحكم الذاتي، وكذلك مراعاة الحفاظ على الحريات والحقوق العامة.

ولتحقيق كل هذه المطالب أضطر الكونغرس القاري في عام 1787 لقبول فكرة إعادة النظر في الشرعية التي كان وجوده مبنيا عليها والمعروفة بـ«مواد الكونفيدرالية» (Article of Confederation)، والتي كانت تعطيه شرعيته، لذلك قرر الكونغرس الدعوة لعقد جمعية أو مؤتمر بغرض كتابة دستور جديد، ودعا ممثلين عن الولايات إليه وذلك على الرغم من تحفظ بعضها مثل «رود آيلاند» التي خشيت من استئثار الولايات الكبرى بنصيب الأسد من السلطات. وعلى الرغم من ذلك فقد انعقد المؤتمر بالفعل في 25 مايو (أيار) من العام نفسه.

لعل أهم ما ميز هذا المؤتمر أو الجمعية كان تكوينها والذي يكاد يكون فريدا في كتابته وصناعة الدساتير على مستوى العالم في ذلك الوقت لأسباب عديدة، منها:

أولا: تم اختيار ثلاثة وسبعين رجلا لهذه المهمة من كل الولايات، وعلى الرغم من ذلك فإن أعلى عدد حضور في أي جلسة لم يتخط تسعة وخمسين ممثلا، بينما تم إقرار المسودة النهائية للدستور في الجمعية بإجماع تسعة وثلاثين عضوا فقط.

ثانيا: كان متوسط أعمار كاتبي الدستور اثنين وأربعين عاما، وهو ما يعكس قوة وحيوية، وذلك إلى جانب بعض الخبرات، بل ويقال إن رئيس المؤتمر وهو البطل الجنرال جورج واشنطن كان قليل الكلام ولم يخرج بآراء إلا في ما يتعلق بالمسائل الإجرائية حتى لا يفرض وصيته على المشاركين ولا يفقد وضعيته المتوازنة لدى كل الولايات، والشيء نفسه اتبعه الثعلب العجوز «بنجامين فرانكلين» والذي لوحظ قلة تفاعله تاركا للشباب دورهم.

ثالثا: لقد تمتعت أغلبية من المشاركين في الجمعية بالعضوية في الكونغرس القاري، وكان من المشاركين ما يقرب من واحد وعشرين ممن أسهموا في الجهد الحربي للتخلص من الحكم الإنجليزي ونيل الاستقلال، كما كان منهم سبعة حكام لولايات مختلفة، لكن الأغلبية الكبرى كانت من طبقة التجار وملاك الأراضي والسياسيين وبعض المفكرين.

ثالثا: واتساقا مع القاعدة الاجتماعية الأساسية بأن أي تجمع لا بد أن يتبعه ظهور فرد أو مجموعة قليلة تقوده، فإن هذه الجمعية لم تشذ عن هذه القاعدة، فقد فرضت شخصية «جيمس ماديسون» «وجورج ميسون» نفسها على هذا الجمع، خاصة الأول الذي كان يعد بكل المقاييس المفكر السياسي الأميركي الأول والذي جاء بخلفية سياسية وتاريخية وقانونية قوية للغاية، فكان مركز الجذب في المناقشات، وقد ساعدته على ذلك شخصيته المتواضعة والتي لم ترتح للوجود في المجموعات، مما أضفى عليه مزيدا من المصداقية أمام المشاركين لتجرده وعدم سعيه للأضواء.

رابعا: اتفق جميع الأعضاء بمجرد بدء الاجتماعات على مبدأ السرية التامة للمداولات ومنع أي تسريبات عن سير الجلسات حتى لا يُفتح المجال أمام المشاركين لمحاولة الكسب السياسي في دوائرهم على حساب العمل الجماعي والمصلحة الوطنية، وكذلك حتى يقي المجتمعون شر الهجمات السياسية الخارجية.

وبهذا التشكيل والفكر بدأ الأميركيون في كتابة دستورهم، فكان عليهم أن يراعوا عددا من المبادئ الأساسية وعلى رأسها وضع صياغة متوازنة تحافظ على سلطات الولايات الثلاث عشرة، ولكن بما يسمح بخلق قوة سياسية مركزية قادرة على قيادة هذه الولايات لمستقبل أفضل، وقد ظل المشاركون يتأرجحون في مداولات ممتدة ما بين فكرة كونفيدرالية قوية مقابل فيدرالية متوازنة، ولكن مناقشاتهم جرت على أساس خطتين هما خطة فرجينيا مقابل خطة نيوجيرسي، وعلى حين دعت الأولى لإنشاء السلطات الثلاث الأساسية، على أن تنقسم السلطة التشريعية أو الكونغرس إلى مجلسين فيُنتخب المجلس الأدنى بانتخابات حرة مباشرة، ثم يقوم هذا المجلس بعد تشكيله بانتخاب أعضاء المجلس الأعلى (مجلس الشيوخ) من خلال البرلمانيين الأعضاء في برلمانات الولايات الثلاث عشرة، كما تضمنت هذه الخطة أن يكون الكونغرس مُحصن القرارات والسلطات، أو بمقولة أخرى ما هو معروف عندنا في الثقافة العربية بأن يصبح البرلمان «سيد قراره».

في المقابل دعت خطة «نيوجيرسي» لتكوين كونغرس موحد تكون العضوية فيه موحدة لكل الولايات على أساس مبدأ المشاركة المتساوية للولايات (Equal Representation)، وذلك لحماية الولايات الصغيرة نسبيا، وتضمنت المقترحات أيضا أن يكون هذا الكونغرس هو صاحب اليد العليا أمام السلطتين التنفيذية والقانونية، وقد اتفقت الخطتان بصفة عامة على أن تشمل الكيانات المركزية أو الفيدرالية الجديدة سلطات سك عملة موحدة، وفرض ضرائب موحدة، وصياغة سياسية تجارية وجمركية موحدة.

وكما كان متوقعا فإن الخطتين تصارعتا على الرغم من وجود ميل واضح لدى النواب لتبني خطة فرجينيا والتي كانت أقرب إلى ميول المشاركين، وقد تم تضييق الفجوة من خلال ما عُرف بحل «كونيتيكت» (Connecticut Compromise)، وهو الحل الوسط الذي تضمن فكرة القبول ببرلمان مكون من مجلسين، الأول يتم اختياره على أساس تعداد الولايات، بينما الثاني يتم على أساس المساواة بين الولايات، وهو ما تمخض عنه ما هو معروف اليوم بمجلس النواب والذي يتم اختياره وفقا لتعداد الولايات، بينما يكون التمثيل موحدا في مجلس الشيوخ.

وقد كانت مشكلة العبيد إحدى المشاكل الأساسية التي واجهت صياغة الدستور الجديد، فهل سيتم اعتبارهم من تعداد السكان ولهم الحقوق السياسية نفسها مثل مُلاكهم؟.. فالواقع أن هذا الأمر غاية في الخطورة نظرا لأن الولايات كانت لها أولوياتها المختلفة، خاصة ولايات الجنوب والتي كان العبيد هم أساس القوة العاملة فيها، ولكن هذه الولايات كانت تهدف لإيجاد صيغة ليتم احتساب العبيد ضمن تعداد السكان حتى تكون لهم نسبة تمثيل في مجلس النواب، ولكن في الوقت نفسه لا تكون للعبيد الحقوق نفسها، فتحول الأمر إلى معضلة سياسية حقيقية، لكن الرأي استقر في النهاية على تفادي الإشارة للعبيد في الدستور والاكتفاء بعبارات غير واضحة حتى لا يُفتح المجال أمام الاختلاف، ومع ذلك فقد استقر الرأي على فرض ضريبة موحدة قدرها 10 دولارات على كل عبد يتم استقدامه، وقد دفعت الولايات المتحدة الأميركية ثمن هذا التردد والغموض غاليا، حيث اضطرت لحسم هذه المسألة من خلال حرب أهلية ضروس بعد سبعة عقود.

هكذا حسم «توافق كونيتيكت» مشكلة التمثيل وهيكل البرلمان، لكن كتابة الدستور تضمنت مشاكل أخرى استطاع نخبة العقل الأميركي ابتكار حلول لها كما سنرى في الأسبوع المقبل.