من التاريخ

الحِكم التاريخية من التجربة الدستورية الأميركية

TT

تعطي تجربة كتابة الدستور وصناعة الدولة الأميركية دروسا مهمة يمكن أن تكون عبرة لنا، فالدستور الأميركي يحتوي على مفاهيم وتجارب نحن في أشد الحاجة إليها اليوم، وهنا أهم النقاط التي رأيت أنها كانت حاسمة في هذه التجربة السياسية المهمة:

أولا: إن نجاح الدستور الأميركي وضمانة استمراره إلى اليوم جاء بسبب صياغة توازناته المختلفة سواء على صعيد العلاقة بين المؤسسات الحاكمة بعضها ببعض، أو على صعيد العلاقة بين المؤسسات الفيدرالية والولايات المختلفة. كما أنه وفر للمواطن العادي شيئا قيما جعله يسعى لإقراره، فبالنسبة للمواطن الأميركي البسيط، فإنه ضمن له عدم تفرد أي شخص بالسلطة عليه، ومنح له حق اللجوء للقضاء بعيدا عن سلطوية الملوك أو الحكام كما كان شائعا في أوروبا في ذلك العصر، كما ضمنت العملية الدستورية إقرار مصوغ من مصوغات إقراره هي ما عُرفت في مرحلة لاحقة بـ«وثيقة الحقوق» أو «Bill of Rights» التي كانت شرطا لإقراره من قبل بعض الولايات وكبار الشخصيات السياسية والفكرية في البلاد، وهي مجموعة من الحقوق التي أقرها الكونغرس في أول دورة له؛ منها صيانة الحقوق الفردية وعلى رأسها حرية التعبير والعقيدة وحمل السلاح وحق الجميع في محاكمة عادلة على أيدي محلفين محايدين وغيرها من الحقوق الأساسية، وقد كفلت هذه التعديلات ضمان تصديق برلمانات ولايات مهمة مثل نيويورك وفيرجينيا على الدستور الجديد.

ثانيا: إن عبقرية هذا الدستور جاءت لمواءمة الظروف الغريبة التي نشأ فيها، فهو مجتمع خارج من عملية جراحية سياسية دقيقة للغاية تحمل خلالها الشعب الأميركي مهانة ملك ظالم وهزائم عسكرية أكثر بكثير من الانتصارات، حتى ينال استقلاله من أقوى الجيوش على الأرض، فكان الفرد على قوة وبأس عندما بدأت مرحلة صياغة الدولة الجديدة ومؤسساتها، وهي أصعب الأوضاع على الإطلاق، لأن المواطن غالبا ما يشعر في هذه الظروف بنشوة الانتصار على الدولة ومؤسساتها فيكون إرضاؤه أمرا صعبا للغاية، وهو ما خلق حالة من التربص لدى كثير من المواطنين واستعلائهم على مؤسسات الدولة مثلما حدث مع «تمرد شايس» على سبيل المثال عندما حمل البعض السلاح ضد الدولة لرفضهم التام سياستها النقدية، وقد عبر بعض الساسة الأميركيين عن هذه المخاوف من خلال ما وصفوه بـ«طغيان الجماعات» Tyranny of the Masses، وقد كان هذا واضحا في علاقة الكونغرس القاري ببعض القيادات والمجموعات التي أصبح هو فيها الطرف الأضعف، وهو أمر احتاج إلى معالجة سياسية دقيقة، فكيف تسحب السلطة المطلقة من المواطن الثوري لصالح الفكر الجماعي المتزن؟

ثالثا: وللإجابة عن هذا التساؤل، فقد جاءت من خلال التوازن الداخلي الذي وضعه الآباء المؤسسون للدستور، فعبقرية التوازن بين السلطات الثلاث كانت معجزة سياسية في ذلك الوقت نقبلها اليوم بعد مرور قرنين ونصف القرن من الزمان على أنها أمر طبيعي، ولكنها كانت ابتكارا سياسيا في حينه، ففكرة أن تُقيد السلطات الثلاث بعضها بعضا من خلال «مبدأ المراقبة والتوازنات» كانت فكرة عبقري بكل ما تعنيه الكلمة؛ ففكرة توازن السلطات بين الولايات والحكومة المركزية كانت ابتكارا عظيما لكل أطراف المعادلة، فعبقرية هذا التوازن شبه الهندسي جاءت من خلال صياغة العلاقة بين حجم الولاية وتمثيلها في الكونغرس، وضمان العلاقة المتوازنة بين المؤسسات الثلاث للحكم؛ فلا السلطة التشريعية قادرة على الانفراد بالحكم، ولا التنفيذية قادرة على التمتع بالاستقلالية، بينما السلطة القضائية مستقلة تحافظ على الهرم القانوني والتوازن السياسي بشكل غير مباشر للمعادلة السياسية بأكملها.

رابعا: لعل أهم درس مستفاد من التجربة الأميركية كانت ضرورة النظر إلى الدستور على اعتباره وثيقة مرنة غير صارمة، فالمرونة أمر حتمي لاستمرارية ونجاح مثل هذه المواثيق، فلقد منح الدستور للشعب الحق في تعديله، وهو ما كفل له الاستمرارية بعد 27 تعديلا كان الأول يتعلق بحرية التعبير والعقيدة، وكان ذلك في عام 1791، بينما كان آخر تعديل للدستور في عام 1992 الخاص بتنظيم تمويل الانتخابات لأعضاء الكونغرس. كذلك فإن كتابة الدستور لم تأت على جثة «مواد الكونفدرالية» التي سبقتها، بل إنه اقتبس منها ما كان ضروريا ولا يضر بشكل أو مضمون الدولة الجديدة أو بعض الحريات الأساسية، فالدساتير لا تكتب على جثث الوثائق القانونية والحقوقية التي سبقتها، ففكر الجمع البشري يمثل امتدادا للفكر الذي سبقه وأساسا للفكر الذي سيليه.

خامسا: إن الدستور الجديد لم يتضمن في طياته أية أدوات من شأنها تقليص الحقوق الجماعية أو الفردية للمواطن، فلو أنه لم يضف كل الحقوق فيه؛ وهو ما أتي في مرحلة تالية بوثيقة الحقوق كما ذكرنا آنفا، فإن العكس هو الصحيح، فالدستور الجديد حمى كل أبناء الوطن ولم يحارب أو يعزل أي طرف، فضمن على الأقل عدم تكتل المعارضين ضده، واستطاع أن ينجح حتى مع وجود المتشككين فيه، فخلق الأعداء وسلب الحقوق وتقليص الحريات كان كفيلا بالقضاء على هذا الدستور، ولكن واضعي الدستور كانوا أذكى من الوقوع في هذا الخطأ.

سادسا: إن الولايات المتحدة شأنها شأن كثير من الدول التي سبقتها، فقد اضطرت لمعالجة بعض الأخطاء الأساسية في وثيقة الدستور من خلال أسوأ ما يمكن أن تمر به الدول، وهو استخدام القوة أداة للتغير، ويأخذ في مناسبات عديدة شكل الحرب الأهلية، وهو ما حدث خلال الفترة من 1861 - 1865 بعد كتابة الدستور الأميركي، لمعالجة عدد من النقاط الجوهرية التي لم تحسم خلال كتابة الدستور؛ وعلى رأسها مسألة العبيد، واختلاف المصالح الاقتصادية بين الشمال والجنوب.

سابعا: من العجيب أن ندرك أن هذا الدستور المعقد جاء لينظم الحياة لأربعة ملايين نسمة كانوا هم تعداد سكان الولايات الـ13 في أميركا عند الاستقلال، والعجيب أن هذا الدستور أصبح أساسا يرتكز عليه الأميركيون اليوم بعد مرور أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمان وزيادة عدد السكان ليصبح قرابة 85 ضعفا، كما أنه كان من المرونة بأن يضمن حقوقا لمجموعات مهمشة وخارج الرادار السياسي والاجتماعي والاقتصادي مع مرور الوقت. هذه بعض الأطروحات حول وثيقة الدستور الأميركي بعد أن تناولنا ميلاده على مدار أربعة أسابيع، وهنا تجدر الإشارة لأهمية الثورة الأميركية التي سبقت الثورة الفرنسية فوضعت أسس استقرار الولايات المتحدة في العام نفسه لاندلاع الثورة في فرنسا، وذلك بفضل مجموعة من المؤسسين والمفكرين والوطنيين الذين استطاعوا صياغة وثيقة الدستور التي هي في التقدير من أعظم الوثائق البشرية على الإطلاق، وهو ما يدفعنا للاعتقاد بأن هذه التجربة تحتاج إلى دراسة متأنية لنتعلم الدروس المستفادة منها حتى لا يُكتب علينا أن نعيد أخطاء السابقين بسبب جهل الحاضرين.

* كاتب مصري