جانيت يلين.. المرأة التي ينتظرها الاقتصاد العالمي

المرشحة لرئاسة الاتحادي الفيدرالي ستتربع على أحد أهم مناصب الولايات المتحدة

TT

جانيت يلين، امرأة بقيت لعقود بعيدة عن الأنظار، لكنها باتت اليوم على وشك أن تصبح من أقوى نساء العالم والأكثر نفوذا في صياغة السياسات الاقتصادية داخل أميركا وفي كل أنحاء العالم.

فقد جاء ترشيح الرئيس الأميركي باراك أوباما ليلين لتولي رئاسة بنك الاتحادي الفيدرالي ليدفع بها إلى أعلى مراتب القوة الاقتصادية، ويجعلها بين أقوى نساء العالم، لتتصدر قائمة النساء الأكثر نفوذا في العالم، ولتصبح قوتها أكبر من شخصيات مهمة في الوقت الحاضر، مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ووزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون ومديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد وديلما روسيف رئيسة البرازيل، صاحبة سادس أكبر اقتصاد في العالم.

وعند مصادقة الكونغرس على ترشيحها، ستصبح يلين أول امرأة تتولى قيادة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في التاريخ. ومنصب رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي هو منصب كبير التأثير في السياسات الاقتصادية، وسوف تقود يلين عمليات صياغة السياسات حول أسعار الفائدة وفي تنظيم الأداء المصرفي والتعامل مع الأزمات المالية. والأهم من ذلك أنها ستكون مسؤولة عن التواصل بين بنك الاتحادي الفيدرالي وتحركات الأسواق العالمية، بمعنى أن كل قرار تتخذه ستكون له أصداء في كل أنحاء العالم.

ورغم الملل الذي يشوب عمل بنك الاتحادي الفيدرالي (الذي تأسس في عام 1913) فإن عمله الأساسي هو التأكد من أن الاقتصاد الأميركي يبقى في مرحلة معتدلة، من دون أن ينمو بشكل سريع للغاية أو بطيء للغاية، بل يسير بشكل معتدل للحفاظ على أهم معدلين، وهما معدلات التضخم ومعدلات البطالة. ويرفع بنك الاتحادي الفيدرالي معدلات الفائدة عندما يشعر بأن معدلات النمو مرتفعة للغاية، ويخفض أسعار الفائدة عندما يرى أن معدلات النمو منخفضة للغاية. ويفعل ذلك من خلال التحكم في حجم الأموال الموجودة في الاقتصاد. وقرارات الاحتياطي الفيدرالي حول سعر الفائدة لا تؤثر فقط على الاقتصاد الأميركي، بل تؤثر قراراته على الاقتصاد العالمي، كون الدولار هو عملة الاحتياطي في العالم. وقد ربطت العديد من الأسواق النائية نفسها واقتصادها بالدولار، ولهذا السبب يطلق خبراء الاقتصاد على بنك الاحتياطي الفيدرالي لقب «القوة العظمى النقدية».

وستملك تلك السيدة القصيرة ذات الشعر الأبيض الفضي، عند توليها هذا المنصب، سلطات واسعة، فالقرارات التي يتخذها بنك الاحتياطي الفيدرالي لا تخضع لإشراف وموافقة أي شخص داخل السلطة التنفيذية. ويذكر أن الرئيس أوباما يملك سلطة ترشيح رئيس بنك الاحتياطي لكنه لا يملك سلطة مراجعة قراراته.

ويقود بنك الاتحادي الفيدرالي عملياته الخاصة للحصول على التمويل، ولا يطلب أموالا من الكونغرس لذا لا يخضع للقيود المعتادة لعمليات الاعتمادات المالية التي تقرها الكونغرس. ورئيس بنك الاتحادي الفيدرالي هو أيضا رئيس لجنة السوق المفتوحة الاتحادية (FOMC) وهو المفتاح الرئيس لصياغة السياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي. ونظريا يملك رئيس بنك الاتحادي صوته فقط، لكنه واقعيا يملك كل مفاتيح التأثير في تحديد السياسة النقدية في أكبر اقتصاد في العالم.

ويتحكم بنك الاتحادي الفيدرالي في ضخ الأموال في أكبر اقتصاد في العالم. وخلال الأزمات المالية يتحرك بنك الفيدرالي الأميركي مثل رجل الإطفاء لإطفاء حرائق النظام المالي. ولذلك اكتسب صلاحيات واسعة منذ مرحلة الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي.

باختصار كان ينظر إلى رئيس بنك الاتحادي الفيدرالي السابق آلان غرينسبان بأنه الشخص الثاني الأكثر نفوذا في واشنطن عندما كان يشغل مقاليد المنصب، والآن فإن مقاليد منصب رئيس بنك الاتحادي في يد امرأة.

وقد جاء اختيار الرئيس أوباما ليلين (67 سنة) الأسبوع الماضي في أعقاب عملية اختيار صعبة، فقد كان خياره الأول هو وزير الخزانة السابق لورنس سمرز، لكن هذا الخيار واجه معارضة شديدة من الديمقراطيين. وتحظى يلين بدعم قوي من الحزب الديمقراطي الذي انتقد اتجاه أوباما لترشيح سمرز المقرب من وول ستريت لاعتراضهم على سياساته غير القوية في مجال تنظيم العمل المصرفي.

وشنت صحيفة «نيويورك تايمز» المؤثرة انتقادات حادة ضد فكرة ترشيح سمرز لقيادة بنك الاتحادي الفيدرالي، فيما وجدت يلين دعما واستحسانا من عدد كبير من السياسيين والاقتصاديين ومن وسائل الإعلام. وقد قالت عنها صحيفة «وول ستريت جورنال» إنها المسؤول الأطول خدمة في بنك الاتحادي الفيدرالي بعد أن عملت لأكثر من أربعة عقود. وقالت الصحيفة إن يلين كانت من أكثر الذين تنبؤا بدقة في لجنة الأسواق المفتوحة على وضع بنك الاتحادي الفيدرالي، ونبهت إلى فقاعة أزمة الرهون العقارية في عام 2005.

واعتبر ترشيح يلين الأفضل خيارا بالنسبة لأوباما باعتبارها نائبة الرئيس الحالي لبنك الاحتياطي الفيدرالي بن برنانكي والقريبة في أفكارها وسياساتها منه. وأشاروا إلى أنها ستواجه معارضة أقل في مجلس الشيوخ الذي يتعين أن يوافق على ترشيحها للمنصب.

ويقول المحللون إن تولي يلين لهذا المنصب سيكون خطوة رمزية مهمة، وسيساعد في تحفيز الأجيال الشابة من النساء في اقتحام مزيد من المجالات والفوز بالمناصب العليا في مجالات المال والاقتصاد، خاصة عند المقارنة مع لجنة السياسات النقدية في بريطانيا التي لا توجد بها أي امرأة، أو في مجلس البنك المركزي الأوروبي. وقد أعلن البنك المركزي الأوروبي خطة لضمان تشجيع النساء لتولي واحد من أعلى ثلاثة مناصب في البنك بحلول نهاية العقد الحالي.

وتنتهي فترة رئاسة بن برنانكي لبنك الاتحادي الفيدرالي في 31 يناير (كانون الثاني) المقبل، وسيكون على اللجنة المصرفية بمجلس الشيوخ تقرير موقفها من ترشيح جانيت يلين قبل هذا التاريخ. ويؤكد المحللون أن يلين لا تواجه عقبات في الفوز بموافقة الكونغرس على ترشيحها خاصة أن أي معارضة من الجمهوريين لترشيحها ستكون مخاطرة كبيرة في ظهور الحزب بمظهر المعارض لأي إجراءات وظهوره بأنه ضد مبدأ تولي امرأة للمنصب.

ويأتي ترشيح يلين في وقت يزداد فيه القلق مع استمرار الحكومة الفيدرالية والجدل السياسي الدائر بين إدارة أوباما والكونغرس حول رفع سقف الديون، مما أثر على الأسواق المالية وأدى إلى تراجعها. وفور إعلان ترشيح أوباما ليلين سادت الأسواق أجواء إيجابية، وتفاءلت الأسواق بهذا الاختيار. كما خرجت تصريحات مؤيدة من داخل الكونغرس، فقال رئيس اللجنة المصرفية بمجلس الشيوخ السيناتور الديمقراطي تيم جونسون «أنا اثني على اختيار الرئيس أوباما لجانيت يلين لتولى رئاسة بنك الاحتياطي الفيدرالي»، مضيفا «إنها لها عمق تجربه لا يعلى عليه، وليس لديّ أي شك في أنها ستقوم بعمل ممتاز». كما أشاد عدد من الديمقراطيين الليبراليين باختيارها، وقال السيناتور الديمقراطي شيرود براون «هذه لحظة تاريخية في مجلس الاحتياطي الفيدرالي وللنساء في كل العالم، وبالنسبة للذين يهتمون بخلق فرص عمل، وسوف تعمل يلين على منع الأزمات المالية وتخطط لتعزيز السوق وتعطي خطط خلق فرص عمل أقصى قدر من الاهتمام».

وينظر لجانيت يلين باعتبارها إحدى حمائم السياسات النقدية الأميركية، وتهتم أكثر بمخاطر ارتفاع معدلات البطالة أكثر من تفشي التضخم، وهو ما يعنى أنها ستكون أكثر شراسة من بن برنانكي في صنع سياسات من شأنها أن تحقق أقصى درجة من خلق فرص عمل في الولايات المتحدة، وأنها على استعداد لتحمل ارتفاع في الأسعار من أجل معالجة مشكلة البطالة. فيما يطالب العديد من المحافظين وصقور السياسة الأميركية بالسيطرة على التضخم والحفاظ على الأسعار منخفضة ليكون ذلك هو أولوية بنك الاتحادي الفيدرالي. ويتوقع البعض أنها ستميل إلى إبقاء سعر الفائدة منخفضة وستحافظ على تنفيذ السياسات الحالية المتعلقة بشراء الأصول لفترة طويلة من الزمن حتى تنخفض معدلات البطالة إلى أقل من مستواها الحالي المقدر بنحو 7.3 في المائة.

وقد أشار بنك الاحتياطي الفيدرالي برئاسة برنانكي مؤخرا إلى نيته التراجع عن شراء الأصول في خريف هذا العام، لكن علق تلك الخطط بعد الأزمة السياسية في واشنطن بين الإدارة والكونغرس، مع إشارات توضح أن الاقتصاد الأميركي لا ينمو حتى الآن بقوة كما كان بنك الاحتياطي يأمل.

وإذا حظيت يلين بموافقة الكونغرس على ترشيحها فإن مهمتها ستركز على توجيه بنك الاحتياطي ليخرج من برنامجه الاستثنائي لشراء الأصول والعمل على طمأنة المستثمرين في سوق الأوراق المالية بأن برامج التحفيز ستستمر على الأقل لبعض الوقت، وأن المعدلات الحالية ستستمر لعدة سنوات.

لكن الضجة واحتفاء الأسواق بأخبار ترشيح يلين لم يمنعا خروج كثير من الاعتراضات من جانب الجمهوريين في مجلس الشيوخ ضد ترشيحها للمنصب بسبب دعمها برنامج تحفيز ضخما قام من خلاله بنك الاحتياطي الفيدرالي بشراء مئات المليارات من سندات الخزانة وسندات الرهن العقاري في محاولة لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة وتعزيز الاقتصاد. ويعتقد كثير من الجمهوريين أن هذا الإجراء أدى إلى رفع معدلات التضخم، وأن بنك الاتحادي الفيدرالي استحوذ على سلطة التخطيط المالي الذي يجب أن يبقي في يد الكونغرس.

وقد أطلقت مجموعة من المحافظين حملة لوقف موافقة الكونغرس على تولي يلين منصب الرئيس القادم لبنك الاتحادي الفيدرالي، بحجة أن سياساتها في التوسع في السياسات النقدية المتساهلة من شأنها أن تتسبب في ارتفاع كبير في الأسعار، وأنشأت موقعا على الإنترنت تدعو فيه الأميركيين للاعتراض على ترشيح يلين.

وأشار السيناتور الجمهوري بوب كروكر إلى أنه عارض في السابق ترشيح يلين لتولي منصب نائب رئيس بنك الاتحادي الفيدرالي في عام 2010 بسبب آرائها حول السياسة النقدية، وأنه سينظر بتشكك حول ترشيحها لمنصب رئيس بنك الاتحادي. وقال «سندرس عن كثب سجلها منذ ذلك الوقت، لكني لست على علم بأي شيء يشير إلى تغير وجهات نظرها».

وتعتبر يلين جزءا من ثنائي اقتصادي أميركي مرموق، فقد حصل زوجها جورج اكيرلوف على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001، كما حصل على منح من مؤسسات دولية مثل غوغنهايم وفولبرايت والأكاديمية الأميركية للعلوم والفنون. ويقال إنها تعرفت على زوجها ووقعت في غرامه خلال محادثاتهما الاقتصادية عندما تزاملا في العمل في بنك الاتحادي الفيدرالي. وكشفت وكالة «بلومبيرغ» أن يلين وزوجها يملكان ثروة تتراوح ما بين 3.4 مليون و7.4 مليون دولار من الأصول.

وقد حصلت يلين على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد بامتياز من جامعة براون عام 1967، وحصلت على درجة الدكتوراه من جامعة ييل المرموقة عام 1971 وعلى درجة الأستاذية من جامعة كاليفورنيا عام 1985. كما أنها حصلت على درجة الدكتوراه الفخرية في القانون من جامعة براون عام 1998 والدكتوراه الفخرية في الآداب الإنسانية من كلية بارد عام 200. ولها كتابات كثيرة في قضايا الاقتصاد الكلي والآثار المترتبة على البطالة.

ويذكر أن يلين من مواليد 13 أغسطس (آب) 1946، وتربت في بروكلين بمدينة نيويورك، وهي ابنة يوليوس يلين، الطبيب اليهودي ودرست في مدرسة لندن للاقتصاد المرموقة في لندن. وقد عملت أستاذة مساعدة في جامعة هارفارد بين عامي 1971 و1976 ثم التحقت ببنك الاحتياطي الفيدرالي كخبيرة اقتصادية.

وقد تقلدت جانيت يلين منصب الرئيس التنفيذي لبنك الاحتياطي الفيدرالي بسان فرانسيسكو بين عامي 2004 و2010، وكانت عضوا بمجلس الاستشاريين الاقتصاديين للرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون بين عامي 1997 و1999، وعضو مجلس إدارة المحافظين ببنك الاتحادي الفيدرالي. وهي متزوجة ولديها ابن وحيد هو روبرت اكيرلوف الذي يعمل أستاذا جامعيا.

ورغم ازدحام برنامجها في العمل، لدى يلين هوايات عدة مثل القراءة والطبخ وممارسة رياضة المشي ولعب التنس مع زوجها. وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن يلين أثناء دراستها في المدرسة الثانوية في بروكلين كانت تحب السفر والذهاب إلى المسرح والعزف على البيانو، إضافة إلى هوايتها في جمع الطوابع، وهي هواية تقول إنها ورثتها من والدتها.