من التاريخ

أرسطو: مؤسس العلم والعلوم

TT

إذا كانت الثقافة اليونانية تعد بداية مرحلة التنوير الشامل للإنسانية، فإن الفيلسوف أرسطو يعد بكل المقاييس إحدى أهم الشخصيات العلمية على الإطلاق في التاريخ اليوناني أو الإنساني على حد سواء، ليس لأنه أول الفلاسفة اليونانيين، فهو لم يكن كذلك، بل إنه ثالث العظماء بعد سقراط وأفلاطون، ولكن قيمته تنبع من كونه المؤسس الحقيقي لعدد من العلوم الإنسانية والطبيعية، فهو مؤسس علم المنطق والعلوم السياسية والأخلاق والزراعة إلخ.. ولو طالعنا أي كتاب حول المسيرة البشرية لوجدنا أرسطو يتصدر المقدمة فيها بلا منازع، فقيمة أرسطو الفكرية والعلمية تعد أعمق وأكثر أثرا من أي فيلسوف آخر حتى يومنا هذا، وكثير من المفاهيم أو الكلمات المستخدمة اليوم ترجع إليه، وهذا ليس على سبيل المبالغة، ولكن لأنه صاحب علم مؤسسي وفكر ممتد إلى يومنا هذا. وتشير التقديرات إلى أن الإنتاج الفكري لأرسطو بلغ أكثر من مائة وخمسين منتجا ما بين الكتاب والمخطوط على حد سواء، ونظرا لأنه كان مقدونيا فإنه سريعا ما استخدم لدى البلاط الملكي من أجل الإشراف على تعليم الإسكندر الأكبر، فغرس فيه حب العلم والمعرفة وتقديس الفكر اليوناني واعتبار الثقافة اليونانية هي مركز الكون.

ولد أرسطو في مقدونيا عام 361 قبل الميلاد لأب يعمل بمهنة الطب، حيث أخذ منه حب المعرفة والمنهج المبني على الملاحظة واستخدام الحواس في فهم المسائل الطبية والطبيعية، وكان لهذا أكبر الأثر في تطوير فكره الشخصي. وقد تدرب أرسطو في كنف أستاذه أفلاطون، وتعلم على يديه كل أفكاره التي ارتكزت على مفاهيم ما وراء الطبيعية، لكنه لم يسلك الدرب الفكري نفسه، بل إنه وضع لنفسه منهجا مختلفا مبنيا على فكرة الطبيعة ودراسة الظاهرة وليس افتراض وجود المثل الأعلى لمفهومها في مكان بعيد عن متناول فكرنا، بالتالي لجأ لاستخدام الحواس في فهم الأمور وهو ما كان له أكبر الأثر في ميلاد مفهوم المنهج التجريبي الذي أصبح هو أساس دراسة العلوم الإنسانية وغير الإنسانية على حد سواء.

تعد الزراعة والسياسة والأخلاق من أهم ما اعتنى به أرسطو، وقد استنبط الرجل وجود الإله الواحد الأحد فاطر العالم من خلال الممارسة العقلية بنظريته المعروفة بالمحرك الأول. والثابت أن أرسطو كان مؤسس علم المنطق الذي نعرفه اليوم والذي تم بناؤه على الفرضيات الثلاث الأساسية للمنطق، كما أنه صاحب فكرة القياس المنطقي الأرسطي والمعروفة لدينا بالـ«Aristotelian Syllogism»، والتي تعد أساس علم الاستنباط.

وعلى الرغم من أننا كثيرا ما نؤمن بأن المصدر الوحيد للأخلاق هو الأديان السماوية أو الوضعية، فإن هذا ليس بالضرورة صحيحا، فهناك مصادر أخرى للأخلاق ومفاهيمها، فأرسطو هو أبو علم الأخلاق، وفكره في هذا الصدد جاءنا من خلال كتابه الشهيرة «أخلاقيات نيكومانشيان» (نسبة إلى ابنه)، وقد وصل الرجل إلى قناعة بأن سعادة البشر تتأتي بالأخلاق من خلال التوازن بين ثلاثة أنواع من السعادة، أولها حياة المتعة والسعادة، وثانيها حياة المواطن والمسؤول، وثالثها حياة المفكر والفيلسوف. فالتوازن بين هذه الأركان الثلاثة هو مبتغى أي إنسان عادي، كما أنه صاحب فكرة التوازن في الفضائل وبينها، وهو ما جسدته الحكمة العربية القائلة بأن الفضيلة هي وسط الرذيلتين، وإليه ترجع أهمية التفرقة الشديدة بين الأخلاق من ناحية والسياسة من ناحية أخرى.

لعل من أهم مرتكزات فكر أرسطو تعامله مع السياسة، فهو بكل تأكيد مؤسس علم السياسة كما نعرفه اليوم، وكتابه الشهير «حول السياسة» يعد أحد أهم مراجع دراسة العلوم السياسية، فانطلاقة أرسطو في هذا المجال كانت من خلال جملته الشهيرة «بأن الإنسان حيوان سياسي»، أي أن الإنسان يتعامل مع السياسة كما لو أنها كانت نزعة قوية بداخله لأن السياسة حتما تؤثر عليه، وقد أكد الرجل في أكثر من مرة في كتاباته «أن الدولة هي أعلى تعبير للتعاون البشري» ومن ثم جاء اهتمامه الخاص بوضع الأسس المهمة التي تمثل الأنظمة السياسية المختلفة لدى الدول، فقسم الأنظمة السياسية من خلال الدساتير الخاصة بها، وهو أمر غير معيب لأن اليونان في ذلك الوقت كانت مليئة بالمدن التي تكون كالدويلة (City States) لكل منها دستورها، وبناء عليه ركز أرسطو على ثلاثة أنواع أساسية وهي الملكية والديمقراطية والأرستقراطية، وقدم عرضا لشكل كل واحدة، وقدم لنا النماذج المختلفة لها شارحا كيف تتحول الملكية إلى حكم استبدادي فردي، وكيف يمكن أن تتحول الديمقراطية إلى حكم الغوغائية، وكيف يتحول النظام الأرستقراطي إلى نظام أوليجاركي بحيث تحكم الدولة عصابة مستفيدة، وكما لو أن الرجل كان يقرأ المستقبل، فكل نقطة خطر حذر منها أرسطو البشرية بشكل أو بآخر لا تزال تقع إلى اليوم، خاصة عند صياغة مفهوم الديمقراطية الذي لا يزال ينتظر التطبيق الوسطي السليم بعيدا عن طرفي الغوغائية والديكتاتورية.

إن كتابات أرسطو في السياسة كان محورها الأساسي معنيا بسؤال لا يزال يداهم البشرية حتى اليوم ويرافقنا عند صياغة أي دستور أو عند الوصول لمحور فارق يتعلق بالديمقراطية، وهو كيفية توحيد القوة الشعبية مع الإدارة الذكية خاصة في الدول الكبرى. ولعل إجابة أرسطو عن هذا السؤال يمكن أن تكون من أهم ما ورثناه عن هذا الفيلسوف العظيم، فمن خلال ملاحظاته حول النظم السياسية المختلفة توصل الرجل إلى ما يمكن أن نصفه اليوم بمفهوم السلطات الثلاث للدولة ممثلة في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فكان أول من ميز بينها وفصلها عن بعضها البعض، بل إن فكره السياسي الوسطي كان واضحا من خلال السعي لمحاولة إيجاد التوازن الطبيعي للأذرع المختلفة للدولة حتى يضمن نوعا من التوازن المرغوب لحماية الدولة ودستورها، ولا غرابة في أن يميل أرسطو بعض الشيء إلى حكم الأرستقراطية الوسطية المتوازنة سياسيا ببرلمان قوى من الطبقة المتوسطة، وذلك بهدف التوصل إلى وضع توازن بين السلطات والطبقات والذي اعتبره أعلى أنواع الفضيلة.

أذكر أنني استفسرت من أحد أستاذة العلوم السياسية عن أفضل دراسة قرأها في مجال السياسة، فذكر أنها كانت لأحد تلاميذه، والتي شدد فيها على أن أفلاطون وأرسطو قد تناولا كل محيط الأفكار السياسية كما نعرفها، فلم يتركا لنا شيئا جديدا نكتشفه في علم السياسة، فنظل نحن إلى يومنا هذا نجذب فكرة أو مفهوما تناولاه فنصبغه بزمننا أو تجربتنا الإنسانية، ومع ذلك فقد ظل يؤكد على أهمية الدولة في صياغة أهداف المجتمع، محذرا من انفراد الإنسان بالسلطة بجملته الشهيرة «إن الإنسان عند الاكتمال هو أفضل الحيوانات على الإطلاق، ولكن عند فصله عن القانون والعدالة فهو أسوأها على الإطلاق»، فما أشبه إنسان اليوم بحيوان الأمس!