من التاريخ

المكسيكية والاستعمار الإسباني

TT

تعد المكسيك دولة متميزة بحق في مجالات كثيرة، فجغرافية هذه الدولة خاصة، فبها الصحاري والوديان، والغابات والأراضي القاحلة، كما أن بها السهول والبراكين العملاقة مثل البركان «بوبوكاتبتل»، الذي يشعر الإنسان بضعف حجمه وهو بجوار هذا الصرح الجيولوجي العظيم الذي ظل يرمي حممه ونيرانه حتى سنوات معدودات، كذلك فهي من أغنى الثقافات اللاتينية على الإطلاق، خرج منها الأدباء ليفوزوا بجائزة نوبل، كما أن بها صناعة سينما وتلفزيون تتفوق بها على شقيقاتها بأميركا اللاتينية، حتى إن فرق كرة القدم المكسيكية بدأت تتنافس على القمم، ومع ذلك فإن المحيط الأطلسي أبعد المكسيك ودول أميركا اللاتينية الأخرى عن مرمى التاريخ والثقافة بالنسبة للعرب، وذلك على الرغم من أن الجيش المصري سبق له أن حارب في المكسيك بلواءين لمساندة حكم الإمبراطور المكسيكي «مكسيمليان» بدعم من الإمبراطور نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر.

إن تاريخ هذه الدولة العريقة يشتمل على مراحل تستحق منا الوقوف أمامها للتأمل والعظة، فالمكسيك شأنها شأن باقي الدول اللاتينية وقعت فريسة للاحتلال الإسباني التعس بعد أن جاءت عبر البحر الحملة العسكرية التي قادها العبقري المرتزق «إيرنان كورتيز» (Cortez) الذي استطاع بقرابة خمسمائة جندي فقط أن يسقط إمبراطورية «الأزتيك» (Aztec) بأكملها، تلك الإمبراطورية مترامية الأطراف والتي كانت تحكم البلاد لقرون قبل قدوم الإسبان، ولكن التحالفات مع أعدائها وعبقرية القائد الإسباني مضافا إليهما الضعف المعنوي الذي كان قد أصاب هذه الدولة خاصة بعدما بدا تحقق النبوءة التي قالت إن إمبراطوريتهم ستسقط بعد قدوم أنصاف الآلهة من البحر للتخلص منهم، فهكذا تهزم الدول في معنوياتها قبل جيوشها.

وقد خضعت المكسيك لحكم الإسبان منذ ذلك التاريخ وحتى عام 1821، ولكن حقيقة الأمر أن فتح القارتين الأميركيتين كان قد أصاب الدولة الإسبانية بحالة من الارتباك، فلقد ظنوا أن كولومبوس اكتشف الطريق إلى الصين، ولم يدركوا أنه اكتشف قارتين، وبالتالي فإن عملية الإدارة السياسية أخذت بعض الوقت من الدولة الإسبانية لتنظيمها فكانت تعتمد في البداية على المرتزقة القادرين على الفتوحات مع رجالهم مقابل منحهم حكم المناطق التي يفتحونها باسم أو نيابة عن ملك إسبانيا، وقد سمحت هذه السياسة للمرتزقة والعملاء وحقيري الشأن بالسيطرة على دفة الأمور في البلاد فأذاقوا السكان الأصليين الويلات من العذاب والمهانة ووضعوا نظام تفرقة عنصرية واضحا تسيد فيه الإسبان مقابل استعباد الشعب لمصالحهم المالية والاجتماعية، بل والجنسية أيضا، ولكن الدولة سرعان ما بدأت تضع نظامها الجديد وفي منتصف القرن السادس عشر بحيث آلت السلطة مرة أخرى إلى الوالي الإسباني الذي يجري تعيينه من مدريد ليحكم إسبانيا الجديدة كما أطلق عليها.

ولقد تعرض الشعب المكسيكي لموجات من تغيير الهوية الداخلية فيما أطلق عليه عملية «الاحتلال الثقافي»، أي العملية الممنهجة من قبل الإسبان بهدف «إسبنة» المكسيك وتنصيرها، فلقد كانت للشعوب الأصلية لغاتها الخاصة وعلى رأسها لغة «الناوتل» المتداولة بين الأزتيك، ولكن دور الحركات التبشيرية التي قادها الآباء الفرنسيسكان حسمت المعركة الثقافية بتغيير الديانة واللغة على حد سواء، فلقد بدأت الإسبانية تسود البلاد مع مرور الحقب، وخاصة أنها أصبحت لغة السادة والحكم، وقد بدأت هذه الظاهرة من خلال التعليم الأساسي، حيث سمح لأبناء الهنود بتعليم أساسي لتثبيت اللغة الإسبانية في الوجدان المكسيكي.

من جانب آخر، قامت حركات التبشير بالدور الأساسي في عملية تنصير السكان الأصليين أو «الهنود» كما يحلو للبعض تسميتهم، وفي كل الأحوال فإن المقاومة للمسيحية لم تكن على أشدها، وخاصة أن المنظومة الدينية للأزتيك لم تكن جذابة بأي حال من الأحوال، لا سيما مع وجود آلهة تحب الدماء وتطلب أضحية بشرية، كما أن هذه الديانات لم يكن لها العمق الفكري أو الإرث الثقافي والذي كان من شأنه أن يجعل انتشار المسيحية بالأمر الصعب، ولضمان السيطرة السياسية والعرقية الإسبانية فلقد منع أبناء الهنود المسيحيين من الانضمام للسلك الكنسي في محاولة للإبقاء على الهيمنة الإسبانية وضمان عدم تحول الكاثوليكية إلى أداة سياسية قد تعمل ضد الدولة الإسبانية، وهو ما حدث كما سنرى.

لم تختلف المكسيك عن النظام الاجتماعي الذي فرض على الممالك الإسبانية الأخرى في العالم الجديد، فلقد تسيد الإسبان المشهد السياسي والاجتماعي تماما كما تعكسه الروايات والأفلام السينمائية بلا مبالغة، وقد بلغ حجمهم وفقا لآخر التقديرات قبل الاستقلال قرابة العشرين ألفا، أي أقل من نصف في المائة، ونظرا لأن الدولة والكنيسة لم يستطيعا منع الاختلاط في هذه المقاطعات فإن الزيجات المختلطة أو علاقات السفاح مع النساء من الهنود أسفرت عن أجيال مختلطة صاعدة عرفوا باسم «Mestizos» مثلوا على الذين ولدوا قرابة عشرين في المائة من السكان، فلا هم إسبان متأصلون ولا هم هنود، كذلك وجدت طبقة الـ«Creollos»، وهي المكونة من الإسبان الذين ولدوا في المكسيك ولكنهم ظلوا أقل من طبقة الإسبان الأصليين القادمين من إسبانيا، وهؤلاء سمحت لهم بالكثير من الحقوق، ولكنهم لم يكونوا مثل الإسبان الخالصين، وفي قاع السلم الاجتماعي كان هناك «الهنود» الذين بلغوا قرابة سبعين في المائة ولم تكن لهم أي حقوق سياسية أو اجتماعية ولم يكن أتعس منهم حالا إلا طبقة العبيد التي كانت تشترى، والتي كانت ملكا للسادة الإسبان.

أما الأوضاع الاقتصادية في المكسيك فكانت في حالة يرثى لها، فالإسبان لم يكن معروفا عنهم الإدارة، فهي الدولة الوحيدة التي عندما انفتحت ثروات مستعمراتها عليها حدثت لها انتكاسة بسبب التضخم وسوء الإدارة والتوزيع مما عجل بضعف الدول دوليا، وقد تمثل هذا الضعف الإداري في حالة من ضعف الأداء الاقتصادي، فلقد قسمت البلاد على أسس شبه إقطاعية من خلال ما عرف بـ«الأسيندا» (Hacienda)، أي الضيعة أو العزبة المكبرة، والتي كانت تعمل في الزراعة والرعي، ونظرا لسيطرة الدولة على التجارة فقد انغلقت الأبواب أمام فرص التبادل التجاري الخارجي لهذه الإقطاعيات، ومن ثم حرمان المكسيك من التراكم الرأسمالي، فكانت «الأسيندا» تنتج من أجل العاملين بها والفائض الزراعي أو من المراعي يمثل قيمة مضافة للمالك الإسباني، وهو ما فرض حالة من شبه العزلة بين المناطق المنتجة في البلاد، وقد ربطت هذه المنظومة الفاسدة «الهندي» بـ«الأسيندا» لأن فرصه في العيش خارجها أصبحت شبه معدمة، ولمزيد من السيطرة حرمت إسبانيا مستعمراتها من الصناعات لضمان بقاء حالة التبعية على إسبانيا، وفرضت النظام الميركانتيلي (Mercantilism) على هذه الدولة بحيث منعت الدول من التجارة مع المكسيك، وفي حين انحسرت الطاقات الهائلة لهذه الدولة فإن خيراتها نهبت على أيدي الإسبان، فدولة بلغ حجمها مليونا ونصف المليون ميل مربع أخرجت خيراتها لغيرها، فلقد كانت المكسيك تنتج وحدها من الفضة ما ينتجه العالم أجمع، بينما كانت تنتج من الذهب أكثر من أي دولة أخرى في العالم، ولكن في عالم المستعمرات تكون خيرات الدول للمستعمر.

وإزاء هذه الظروف التعيسة كان من المتوقع أن تتكالب التطورات لتفرز ثورة شعبية عارمة، ولكنها لم تكن بالضرورة سهلة كما سنرى.

* كاتب مصري