من التاريخ: المكسيك من «حرب الحلوى» إلى خسارة الأراضي

TT

تابعنا عبر المقالين الماضيين المخاض الصعب الذي مرت به المكسيك لنيل الاستقلال، من صرخة الاستقلال التي أطلقها الأب الوطني «إيدالغو» حتى استقلت المكسيك على يد الجنرال إيتوربيدى بالتعاون مع الحركة الثورية التي كان عاقدا العزم على تصفيتها لولا ظروف الثورة الإسبانية عام 1821، وكيف أن هذا الرجل تم تعيينه إمبراطورا على البلاد لأشهر قليلة ليجري عزله بعد اتفاق بين جيشه والجيش الثوري بقيادة الجنرال «سانتانا» الذي كتب القدر على المكسيك أن تعاني على يديه الانتكاسة تلو الأخرى إما بسبب جهله السياسي أو ضيق أفقه، ولكن في كل الأحوال، فإن المستعمر الإسباني ترك المكسيك لأبناء البلد وهي في حالة يرثى لها ومطمعا لمستعمرين جدد.

واقع الأمر أن المكسيك شهدت انهيارا على كل المستويات عشية الاستقلال، فالاقتصاد كان في حالة يرثى لها بعدما انخفض المنتج الزراعي للنصف بسبب حرب الاستقلال، في حين ارتفع عجز الموازنة لقرابة 40 في المائة، إضافة إلى عبء دين خارجي كبير، فضلا عن فشل شبه تام في تنفيذ القوانين الإصلاحية، إضافة إلى مشكلات حدودية في الشمال والجنوب، وصراعات طبقية بين الإسبان الباقين والمكسيكان من أصول إسبانية والمخلطين والهنود والعبيد، ناهيك بصراع اقتصادي واضح مرتبط بهذا الصراع الاجتماعي، ويضاف إلى كل ذلك وجود نزعات استقلالية لدى أقاليم كبيرة، ومطامع أميركية في الأراضي المكسيكية، ويضاف لكل هذه المصائب النفوذ الخارجي الممتد، خاصة الحركات الماسونية التي بدأت تنتشر في المكسيك بشكل مخيف وتخفي خلفها مصالح ومطامع خارجية عظيمة. وحقيقة الأمر أن الصورة المكسيكية كانت قاتمة، وأصبح على أبناء البلد القيام بدورهم الوطني للسيطرة على الأوضاع ودفع البلاد للأمام، وهو ما فشلوا فيه جميعا لقرابة أربع حقب تالية.

لعل الشخصية المركزية ذات أكبر أثر في البلاد كانت للجنرال سانتانا Santanna، هذا الجنرال الذي دفع به الحظ ليكون رئيسا للمكسيك لإحدى عشرة مرة خلال هذه الحقب، فضلا عن مساهماته في ترجيح كفة الرؤساء الآخرين عند اختيارهم، فلقد كان الرجل ينتمي لأسرة من «الكريوييوس» أو الإسبان الأصليين المولودين في المكسيك، حيث انضم للعسكرية وهو في سن مبكرة، وحارب على عدة جبهات، وبعدما كان مناصرا لبقاء الحكم الإسباني، فقد حول ولاءه لصالح التيار الثوري، وهي خصلة وضيعة لازمته طيلة عمره بجانب بعض السمات الشخصية البذيئة؛ وعلى رأسها القمار والحفلات الماجنة.. ومع ذلك، فالحظ لعب دوره في تصعيد هذه الشخصية على الساحة السياسة المكسيكية على ضوء افتقار البلاد للشخصية الكاريزمية الوطنية، فكانت بدايته عندما ساهم من خلال جيشه في وضع الجنرال «فيتوريا» على كرسي الرئاسة المكسيكية، وعندما تعرضت البلاد لمحاولة إسبانية لاستعادتها مرة أخرى كان لسانتانا دوره المهم في هزيمة الجيش الغازي الذي كان يعاني الأمراض ولم يكن في حقيقة الأمر ندا حتى للجيش المكسيكي الضعيف، فهكذا يلعب الحظ أحيانا لصالح من قد لا يستحق.

على ضوء هذه الحملة، استغل الجنرال بوستامانتي الظروف للقيام بانقلاب عسكري ضد الرئيس المنتخب عام 1829، مما دفع بالبلاد لحرب أهلية في صراع واضح على السلطة انتهى بظهور سانتانا وإعادة الرئيس بيدرازا، ولكن سرعان ما وثب سانتانا على كرسي القيادة بدعم شعبي واسع النطاق، ولكنه ترك لنائبه شؤون إدارة البلاد، فقام الأخير بعملية إصلاحات واسعة النطاق أدت لتأميم أموال الكنيسة والسيطرة على الجيش وإدخال الإصلاحات الضريبية، وهو ما خلق حالة من الكراهية حوله نظرا للقوة المركزية لمؤسستي الكنيسة والجيش، فعاد سانتانا للمشهد السياسي وعزل نائبه وتولى إدارة البلاد بنفسه، وهو ما كان له أطيب الأثر لدى الشعب المكسيكي، وذلك على الرغم من أن إدارة الرجل للبلاد لم تكن رمزا للرؤية الثاقبة، فلقد حكمها بشكل محافظ للغاية أرضى المؤسسات القوية لكنه استفز الشعب والتيار الليبرالي.

ولكن أخطر ما عانت منه المكسيك في هذه الفترة كانت التدخلات والضغوط الخارجية، خاصة من الولايات المتحدة التي كانت لها مطامعها الواسعة في الأراضي المكسيكية، فجاءت الأخبار بمسعى المستعمرين الأميركيين للاستقلال بولاية تكساس المكسيكية، فما كان من سانتانا إلا أن قاد جيشه في حملة ممتدة انتهت بهزيمة ساحقة له في معركة «سان خاسينتو» الشهيرة، وأسره واضطراره لقبول التنازل عن ولاية تكساس مقابل إطلاق سراحه، وهو الأمر الذي رفضه البرلمان المكسيكي، فجرت إقالة سانتانا، وحل محله عام 1837 بوستامانتي مرة أخرى، ولم يستمر حكم الرجل طويلا، حيث سرعان ما تعرضت البلاد لغزوة بحرية فرنسية ضد ميناء «فيرا كروز» بهدف تحصيل دين حكومي كان لصالح محل حلوى فرنسي فيما عرف في التاريخ بـ«حرب الحلويات» أو «Pastry War» التي أخفت في حقيقة الأمر النوايا الفرنسية السيئة للعب دور في السياسية المكسيكية مرة أخرى، وقد تصدى مرة أخرى الجنرال سانتانا للحملة مع آخرين ودافع عن مسقط رأسه بكل قوة، وهو ما رفع من شأنه مرة أخرى على الساحة السياسية وسمح له مع مجموعة من الجنرالات بعزل الرئيس بوستامانتي وتعيين رئيس آخر للبلاد. وقد استغلت الولايات المتحدة الظروف السياسية التي تمر بها المكسيك فضمت ولاية تكساس المكسيكية إليها في 1845، وأعقب ذلك اندلاع الحرب بين الدولتين فاحتلت القوات الأميركية كاليفورنيا الشمالية وأرسلت جيشا إلى مدينة سانتافيه، بينما رابط أسطولها في مدينة «فيرا كروز»، فكانت النتيجة هزيمة ساحقة للجيش المكسيكي الذي كان يقوده سانتانا بنفسه، فاستطاعت الجيوش الأميركية السيطرة على مدينة مكسيكو سيتي وفرضت على الدولة المكسيكية التوقيع على اتفاقية «جوادالوبي» التي أرغمت المكسيك على التنازل عما يقرب من 890 ألف ميل مربع من أراضيها لصالح الولايات المتحدة مقابل 15 مليون دولار أميركي، وهي المساحة التي ضمت ولايات نيومكسيكو وكاليفورنيا وتكساس.

وهكذا خرجت المكسيك من انتكاسة إلى أخرى منذ استقلالها وحتى عام 1850 فشهدت 50 حكومة مختلفة كلها تأتي بانقلابات عسكرية الواحد تلو الآخر، مما شجع ظهور تيار ليبرالي قوي كان هدفه تحويل المكسيك لدولة مثل الولايات المتحدة أو أية دولة أوروبية حديثة، وكان هذا التيار القوي يقوده مجموعة من الشباب على رأسهم الوطني بينيتو خوارس، ورأى هذا التيار ضرورة الانقضاض على أصول الكنيسة وفتح الحريات وإقامة نظام حكم فيدرالي على أساس أن الشعب هو مصدر السلطات. وفي المقابل، كان هناك فريق محافظ يرى ضرورة الإبقاء على كنيسة وجيش قويين، فتحالف مع الأرستقراطية والكنيسة المكسيكية، وكان سانتانا أحد الأضلع الأساسية لهذا التيار، وبمجرد اندلاع الحرب بين الطرفين، هُزم الأخير مرة أخرى وتولت الحكم حكومة ليبرالية بدأت تدخل الإصلاحات المطلوبة في البلاد مرة أخرى، وكان الزعيم خوارس هو القائد الوطني ضمن آخرين بدأوا في لم شمل الدولة مرة أخرى، ولكن سرعان ما تحالف المحافظون مع حكومات أوروبية من أجل استعادة الحكم مرة أخرى، فجرى ذلك بمقتضى اتفاقية لندن عام 1861 التي أبرمت لأسباب تتعلق بفشل الحكومة المكسيكية في دفع أقساط المديونية للأوروبيين، فتضمن الاتفاق إرسال قوات دولية للمكسيك وعرض عرش المكسيك على الأمير ماكسيمليان، أحد أفراد عائلة الهابسبورغ، فدخل الرجل المكسيك بالفعل واعتلى العرش مع زوجته البلجيكية بحماية قوات دولية عمودها الفقري الجيش الفرنسي الذي تضمن لواءين مصريين. وكما كان متوقعا فقد فشل ماكسيمليان في مهمته، وانتهى أمره سريعا بعدما اضطرت فرنسا لسحب قواتها بسبب التوترات الأوروبية على حدود الراين، فضلا عن الضغوط الأميركية لسحب قواتها الخارجية. وبالفعل جرى القبض على الإمبراطور وجرى إعدامه، وبعدها دخلت المكسيك في عملية إصلاح سياسي واسع النطاق على أيدي الليبراليين مرة أخرى، ولكنها مع ذلك لم تنتج النظام السياسي الذي كان الشعب ينشده، فكان من الطبيعي أن يسعى المكسيكيون للوصول إلى معادلة سياسية سليمة لإدارة البلاد بعدما فشل المحافظون والليبراليون على حد سواء. ولم يكن الجنرالات على قدر المسؤولية أو الكفاءة، بينما ظلت الولايات المتحدة تدفع نحو سلخ الأراضي المكسيكية وضمها، مما جعل قائد الثورة المكسيكية يقول بعد ذلك جملته الشهيرة التي عكست أحوال المكسيك؛ وهي: «مسكينة هي المكسيك.. بعيدة عن الله، وقريبة من الولايات المتحدة».

* كاتب مصري