من التاريخ

همسات موسكوية

TT

«اتبع نهر الموسكوا حتى جوركي بارك.. واستمع إلى رياح التغيير.. في مساء صيف أغسطس يسير الجنود فيسمعون رياح التغيرات»، هكذا ذهبت الأغنية الشهيرة التي دوت عقب سقوط الاتحاد السوفياتي في ربوع أوروبا، فظن بعض حديثي العهد بالسياسة أن هذه كانت خطوة تعكس نهاية الدولة، ولكن سرعان ما عبرت هذه الدولة المرحلة الانتقالية مسرعة لتستعيد توازنها السياسي وتتبوأ مقعدها ضمن القوى العظمى مرة أخرى، وكما لو أن التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى معها، فمنذ أن بدأ «بطرس الكبير» إصلاحاته الشهيرة التي وضعت روسيا على طريق الحداثة وتبعته في ذلك «كاثرينا الكبرى» فإن روسيا ظلت قوة عظمى على الساحة الدولية والدور لم يخفت حتى اليوم.

لقد مر بي هذا الشريط التاريخي وأنا في الطائرة التي تستعد للهبوط في أول زيارة لي لمدينة موسكو إحدى أكبر وأجمل وأعرق المدن الأوروبية، تلك المدينة التي شهدت تجسيدا للتاريخ وإشعالا للحضارة وتأصيلا لشعب عريق هو الشعب الروسي، إنها المدينة التي يعرف قيمتها المؤرخ، ويقدرها المثقف ويثمنها السياسي ويحبها من له نزعة جمالية في الحياة، هي تلك المدينة التي شهدت اللبنة الأولى لبناء الدولة الروسية التي بدأت بـ«دوقية موسكو Duchy of Moscova» التي كانت تقطنها قبائل سلافية من أصول هندية - أوروبية تتحدث أحد مشتقات اللغات السلافية وتدين بالمسيحية الأرثوذكسية.

على الرغم من اشتراك الدوقية أو الدويلة الصغيرة مع باقي أوروبا في اعتناق المسيحية، فإن حقيقة الأمر أن هذه المنطقة ظلت بعيدة عن الحضن الأوروبي لقرون طويلة، فلقد كان هناك تباعد أو جفاء ثقافي واضح بين هذا الإقليم وباقي أوروبا ويرجع ذلك في التقدير لأسباب جيوسياسية واضحة، فلقد كانت هذه المنطقة بعيدة عن بؤرة الحركة التاريخية الأوروبية، فهي منطقة متطرفة جغرافيا بسبب البعد وعدم وجود أي نوع من أنواع التواصل بسبب اختفاء الطرق البرية الصالحة لتسيير التبادل التجاري أو الثقافي أو العرقي بسبب البرودة والتجمد أو محاصرة الثلوج لأي موانئ لفترات طويلة من العام، بالتالي كانت المنطقة العازلة بين أوروبا وروسيا هي الواقعة حول ما يعرف اليوم ببولندا وأوكرانيا، بل إن البولنديين كان لهم تداخل عسكري وسياسي كبير في الشؤون الروسية.

يضاف إلى ما سبق وجود مشكلة أخرى كان لها أكبر الأثر في الانفصال بين روسيا وباقي أوروبا، وهو أن منطقة التماس أو المنطقة العازلة كانت تدين بالديانة الكاثوليكية شأنها شأن وسط وغرب أوروبا في ذلك الوقت، وهو ما وضع حاجزا نفسيا ومعنويا فصل بين الطرفين بسبب الاختلافات في لب العقيدة المسيحية خاصة مع اعتبار الروس الأرثوذكس هم الأقدم والأحق من الكنيسة الكاثوليكية، وهو ما تسبب في استتباب العقيدة الأرثوذكسية بقوة في نفوس الروس بسبب العزلة عن باقي أوروبا وشعورهم بالاعتزاز أمام الكنائس الأخرى، وهو ما جعل الروس دائما يعتقدون أنهم ورثة الدولة البيزنطية، هذا الحلم الذي أخذ يكبر لدى ملوك هذه الدولة إلى أن أصبح هدفا سياسيا في حد ذاته لدى بعض القياصرة، والنتيجة الطبيعية لاختلاط كل هذه العوامل كان ميلاد عقيدة فكرية وسياسية وعسكرية مختلفة عن سائر أوروبا، ظلت في النفسية الروسية إلى يومنا هذا، خاصة في المجال العسكري ورغبتهم دائما في الحفاظ على منطقة التماس بعيدة عن متناول التهديد.

يبدأ التاريخ الروسي الحديث حول القرن الثالث والرابع عشر عندما كانت مجموعة من القبائل السلافية تقطن موسكو وحولها كجزء من ممتلكات «القبائل المغولية الذهبية The Golden Horde»، وقد كانت القبائل السلافية ترفض هذا الحكم ولكن قبضة المغول على موسكو والمناطق المحيطة بها ضعفت إلى حد كبير وهو ما سمح ببداية ظهور القوة المحلية الروسية، خاصة عندما فوض كبير المغول الإقطاعي السلافي «رورويك Rurwik» في إدارة موسكو والمنطقة التي حولها بكل السلطات والصلاحيات، وكان من الطبيعي أن تكون هذه الخطوة بداية لمزيد من التوسع في نفوذه السياسي مما دفعه للسعي للخروج من القبضة السياسية المغولية بتعظيم تفويضه ليصبح نوعا من الحكم الذاتي التدريجي خاصة بعدما بدأ يعمل على تجميع القبائل الروسية تحت لوائه مستغلا الهوية واللغة والديانة المشتركة لتحقيق أهدافه، وهو ما تحقق في نهاية القرن الخامس عشر عندما أعلن الرجل انسلاخه عن المغول ولقب نفسه ملكا تحت اسم «إيفان»، وقد ساعده على ذلك زواجه بإحدى أميرات إمبراطورية بيزنطة بعد سقوطها على أيدي العثمانيين، وهو ما منحه الشرعية الكافية ليطمح ليكون الشخص الذي يحيي الإمبراطورية البيزنطية من جديد ومواجهة الدولة العثمانية، ولعل هذه كانت بذرة الشجرة التي نمت وتحولت فيما بعد لعقيدة حماية المسيحيين الأرثوذكس في جنوب أوروبا خاصة السلافيين منهم وأيضا حول البحر المتوسط.

لقد بنيت الدولة الجديدة على أساس إقطاعي شأنها شأن باقي الدول أو الدويلات الأوروبية، حيث أعطى الإقطاعيون أو طبقة الـ«بويارز Boyars» ولاءهم للإمبراطور مساهمين في جيوشه ومدعمين حملاته العسكرية، ولكن كما يحدث عادة فإن الإقطاعيين سرعان ما بدأوا يسعون لخلخلة سلطانه لصالحهم، فما كان منه إلا أن ابتدع حيلة سياسية بارعة وهي الاعتماد على الطبقة الوسطى وبدأ يخلق قوة عسكرية كان من شأنها فصله عن ضغوط الإقطاعيين، وهي اللبنة الأولى التي تحولت فيما بعد للجيش الروسي القومي، وهنا فإن روسيا قد سبقت باقي الدول الأوروبية بالنسبة لتكوين الجيش القومي ويرجع ذلك لتغلغل النفوذ القومي في هذه الدولة الجديدة التي بنيت على أساسه.

لعل أهم القياصرة الذين تولوا عرش هذه الدولة الجديدة كان «إيفان الرهيب» عام 1584 عندما اختير إمبراطورا على البلاد، فكان رجل الدولة الذي أخذ يقوي دولته حتى وإن كانت وسائله قمعية ودموية، وإليه يرجع بداية الاهتمام بالثقافة الروسية وتطوير المعمار الخاص بها، فضلا عن توسيع أركان الدولة، فلقد سعى الرجل للخروج من البوتقة الموسكوية ليُكون جيشا قويا ويبدأ في غزو المناطق المتاخمة ومد خطوط بلاده إلى جمهوريات البلطيق، وقد وصل من الثقة السياسية بالنفس أن أعلن عزل الكنيسة الروسية عن الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية عام 1589، وهكذا وضع هذا القيصر القوى الأسس السياسية للدولة الجديدة، وأصبح على «بطرس الكبير» أن يتابع الحلم هو وكاثرينا فتدخل روسيا المعادلة السياسية الكبرى في أقل من قرنين من الزمان بكل قوة.

لقد كان هذا جزءا مما دار بداخلي والسيارة تسير بي في شوارع موسكو فأتذكر فصولا وشخصيات تاريخية كثيرة كان لها أكبر الأثر كما سنرى، وقد سعيت للوصول إلى جملة شاملة عابرة يمكن أن تعبر عن هذه التجربة الزمنية الغنية فلم أجد نفسي إلا مرددا عبارة «إن التاريخ أكرم روسيا بينما أكرمت روسيا العالم بتاريخها وتجربتها وثقافتها».

* كاتب مصري