المارد الروسي وأوروبا

TT

لقد حذر «فرديريك الأكبر» أعظم الاستراتيجيين الأوروبيين وملك بروسيا من المارد الروسي قبل أي شخص آخر في أوروبا من خلال قراءته الثاقبة للتاريخ ورؤيته المتعمقة للفنون العسكرية، فقال معلقا على تضخم القوة الروسية مقولته الشهيرة، إن «أوروبا ستحتاج لتضافر كل جهودها حتى يمكن لها السيطرة على هؤلاء الأساتذة الجدد»، لقد رأى الرجل أن روسيا أصبحت حقيقة جيوستراتيجية واضحة للعين المجردة، وأن تحولها من قبائل متفرقة إلى دولة ثم إلى قوة إقليمية مسألة وقت وأن الفرصة سانحة أمامها لتصبح قوة دولية عظمى، وقد تجسد الوقت والفرصة خلال حروب الثورة الفرنسية أو الحروب النابليونية، فكعادة الحروب العالمية الكبرى فإنها غالبا ما تسفر عن اختلال في موازين القوى التقليدية فتتقلد دول مكانة دول أخرى، وحروب الثورة الفرنسية لم تكن لتختلف عن سنة التاريخ الدولي فانتهت بصدارة روسية مع أربع دول أخرى هي إنجلترا والنمسا وفرنسا وبدرجة أقل بروسيا.

لقد اتخذت القيادة الروسية مواقف متضاربة خلال المراحل الأولى للحروب النابليونية والتي اندلعت بعد الثورة الفرنسية في عام 1789، لقد كان القيصر بولس الأول (Paul I) مختلا فلم يشأ الانضمام للتحالف الأول الذي أقامته الدول الأوروبية من أجل مواجهة فرنسا الثورية، فرفض الانضمام إلى التحالف النمساوي البروسي لأنه طلب ثمنا باهظا وغير مقبول بالنسبة لهما حيث أراد أن يضم مالطا إلى مملكته وهيهات أن يمنح لروسيا قاعدة بحرية في البحر المتوسط، ولكن سياسة الرجل لم تدم طويلا فسرعان ما اغتاله أحد ضباطه للتخلص من حكمه المضطرب، فحل محله ابنه الإسكندر الأول إحدى أهم الشخصيات السياسية في التاريخ الأوروبي على مدار القرن الـ18، فالرجل بدأ حياته مستنيرا يهدف إلى إدخال الروح البرلمانية إلى البلاد من خلال النظر لتحويل روسيا إلى ملكية دستورية، وإليه يرجع الفضل في إدخال نظام التعليم الحكومي كما أنه أنشأ مجلس الدولة وهو الجهة الاستشارية التي يناط بها تقديم النصائح للقيصر، كما أنه سعى لمد حدود بلاده إلى أبعد مدى ممكن خاصة ناحية الجنوب حيث كان يراوده الحلم الروسي الكبير بالوصول للمياه الدافئة في المتوسط، وكان هذا الرجل أول من أرسل مستعمرة روسية إلى كاليفورنيا قبل أن يصلها الأميركيون أنفسهم بـ30 عاما وكان ذلك في 1812، أي نفس السنة التي واجهت فيها روسيا المارد الفرنسي.

ورغم حداثة سنه فإنه لم يكن بعيدا عن المشكلات النفسية التي عانى منها عدد غير قليل من أسرة الرومانوف بصفة عامة، فكان يمر بحالات روحية متقلبة، تارة يكون فيها قيصرا متدينا شديد الارتباط بالتعاليم المسيحية والأخلاقية، وتارة رجل دولة لا رحمة في قلبه، وتارة رجل ملتزم أخلاقيا، وتارة أخرى منحل لا رابط له، وهو ما جعل أقرانه الأوروبيين يخشون التعامل معه بسبب تقلباته المزاجية لأنه لم يكن يدير السياسة الخارجية الروسية من خلال لغة المصلحة التي يعرفها كل الأوروبيين ولكنه مزج الروح الدينية أيضا، ولكنه في كل الأحوال كان على استعداد للتعاون مع أقرانه الأوروبيين في مواجهة المد الفرنسي خارج النطاق المقبول في إطار سياسة توازن القوى الأوروبية، فانضم إلى التحالف الثاني والثالث ضد فرنسا، وكان على استعداد للاشتباك مع القوات الفرنسية خاصة بعدما هددت الحدود النمساوية في عام 1805، ولكن مناورات نابليون عزلت الجيش الروسي عن نظيريه النمساوي والبروسي وهو ما سمح له بافتراس الأول في معركة «أوسترليتز» والثاني في معركة «ينا»، ثم استدار للجيش الروسي الكبير وواجهه في معركة «إيلاو Eylau» وهزمه هناك ثم هزمه مرة أخرى في معركة «فريدلاند» الشهيرة والتي كانت كفيلة بإدخال روسيا لمنضدة التفاوض، وهو ما تم بالفعل بين الإمبراطورين وتجسد في اتفاقية «تلست» الشهيرة عام 1807 والتي بمقتضاها تم الاتفاق بين نابليون والإسكندر الأول على منح فرنسا سيطرة تامة على وسط وجزء من شرق أوروبا، بينما تم تقسيم مقاطعات أوروبية أخرى بين الدولتين بما في ذلك الدولة العثمانية، ولكن الإسكندر لم يكن يدرك أن نابليون لا عهد له في مثل هذه الأمور، وفي حقيقة الأمر فإن نابليون لم يكن الاحترام المناسب للإسكندر فقد كان يراه رجلا صادق العهد قليل الخبرة، وقد كتب لزوجته جوزيزفين يداعبها عقب لقائه مع الإسكندر الأول فوصفه بأنه أجمل الرجال الذين رآهم في حياته وأنه يكاد يفكر في مغازلته لولا أنه لا يحب الرجال.

وبالفعل فإن السلام الفرنسي الروسي ما كان له أن يستمر لفترة طويلة، فسرعان ما نكث نابليون بالعهد وبدأ يشعر بأن جيشه الكبير أوGrande Armee أصبح مستعدا لقلب الموازين السياسية والعسكرية في أوروبا، فلجأ إلى حملته الشهيرة على روسيا سعيا لإخراجها من المعادلة السياسية إدراكا منه أنه الدولة التي سترجح كفة أي تحالف جديد ضد بلاده ومن ثم وجب القضاء عليها، وقد دفع هذا الإسكندر الأول لاسترضاء القائد العسكري المحنك «كوتوزوف» بعدما عزله خلال الحروب الأولى ضد فرنسا، فلجأ القائد العسكري الجديد إلى سياسة الأرض المحروقة مستدرجا الجيش الفرنسي للبرد القارس والظروف المناخية السيئة والتي كانت كفيلة بكسر شوكة هذا الجيش الجديد، فلقد آثر الرجل عدم الاشتباك مع الجيش الفرنسي وكان الاستثناء الوحيد هو معركة «بورودينو» الشهيرة والتي كلفت روسيا قرابة نصف مليون جندي ومواطن انسحبت بعدها القوات الروسية تاركة موسكو لنابليون بلا أي مقاومة ولكن بلا أي فائدة مادية، وبمجرد أن وصل نابليون إلى غايته فإنه لم يستطع إلا حرق أجزاء من موسكو جر بعدها جيشه أذيال الخيبة والندم في الشتاء القارس عائدا إلى أوروبا، وهنا بدأت عبقرية «كوتوزوف» في الظهور، فما كان من جيش نابليون إلا أن انهار، فهذا الجيش العظيم والذي بلغ قرابة سبعمائة ألف جندي عاد منه واحد من كل 20 جنديا، فهلك أغلبيته على أيدي الجوع والبرد، حتى أن نابليون نفسه كاد يتم أسره لولا أنه هرب في آخر لحظة، ومنذ ذلك التاريخ بدأ الجيش الروسي والذي وصل إلى قرابة المليون جندي يدخل القارة الأوروبية من الشرق إلى الغرب، وعلى الرغم من أن نابليون استطاع أن يهزم الجيش الروسي في مناسبات متفرقة جديدة فإنه لم يستطع أن يواجه الكثرة العددية لهذا الجيش خاصة بعدما اتحد مع النمسا وبروسيا والسويد، وهو ما أدى لهزيمة نابليون في معركة «ليبزيغ» الشهيرة والتي وضعت نهايته الحقيقية، وهكذا استمر الجيش الروسي في مسيرته إلى الشرق حتى استطاع أن يحتل باريس مع الجيوش الأخرى فاضطر نابليون للاستسلام.

إن البروز العسكري كان يعني بالضرورة البروز السياسي عقب انتهاء الحروب الكبرى، وهو ما حدث مع روسيا والتي أصبحت الآن جزءا مما عرف بالمجمع الأوروبي «Concert of Europe»، فأصبحت روسيا الآن أقوى قوة برية في القارة الأوروبية وعندما دخلت في مفاوضات مؤتمر فيينا عام 1815 كانت أكثر الدول قوة وكان لدور الإسكندر الأول أثره المباشر في تسوية المسائل الخلافية بين القادة الأوروبيين، فسرعان ما فرض على الجميع احترام روسيا والتي خرجت من المفاوضات الفائز الأول، فحتى عندما كانت الحرب تنشب بينها وبين بروسيا على المقاطعات في شرق أوروبا، كانت شخصية القيصر حاسمة، وهكذا أصبحت روسيا قوة أوروبية عظمى والقوة الأرضية الأولى فيها، وقد لعبت دورا مهما في المسيرة السياسية الأوروبية سواء في الثورة اليونانية أو الحروب مع الدولة العثمانية، وهو ما دفع فرنسا وبريطانيا للسعي لإشعال الحرب معها في 1854 فيما عرف بحرب «القرم» والتي انتهت بهزيمة عسكرية لروسيا في القرم وتوقيعها لاتفاقية باريس عام 1856 معلنة خسارتها لبعض الأراضي في القرم، ولكنه لم يكن بالأمر الذي يهز المارد الروسي والذي سرعان ما استعاد توازنه مرة أخرى كما سنرى.