من التاريخ: لينين القائد

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تابعنا في الأسبوع الماضي عودة لينين للحياة السياسية بعد اندلاع الثورة الروسية الأولى في روسيا في فبراير (شباط) 1917 بانضمام الجيش للشعب وإعلان الدوما (البرلمان) عن حكومة انتقالية يقودها سياسي ذكي هو «كارينسكي»، الذي كان أمامه مسؤولية صعبة للغاية وهي توحيد البلاد بما يسمح له بعقد الانتخابات البرلمانية كأساس لمرحلة سياسية جديدة في روسيا، ولكنه كان أمام مشاكل كثيرة على رأسها الوضعية المتدهورة للقوات المسلحة الروسية التي كانت على حافة الانهيار جراء الهزائم المتتالية في الحرب العالمية الأولى وانضمام بعض تشكيلات القوى الثورية في البلاد التي عرفت باسم «السوفياتات» Soviets على مستوى المدن والقرى بتضافر قوى الشعب والجيش والمزارعين والعمال، فضلا عن نقص المواد الغذائية الأولية، وكذلك صعوبة التعامل مع التيارات السياسية التي يستحيل التوفيق بين توجهاتها.

ولكن بمجرد عودة لينين إلى سان بطرسبورغ، بدأت مشاكل كارينسكي تزداد، فبدأ الرجل ينظم صفوف فريقه اليساري الصغير الملقب «بالبلاشفة» بعدما انقسمت الحركة اليسارية قبل سنوات إلى أغلبية وأقلية، وواقع الأمر أن «البلاشفة» كانوا الأقلية ولم يكن لهم العدد الكبير في البلاد، كما لم يكن لديهم الموارد المالية المناسبة للعب الدور المطلوب منهم للسيطرة على الحكم في البلاد، ولكنهم تسلحوا بأمرين أساسيين، الأول هو حالة الفوضى العارمة التي أصابت البلاد مستغلين ظروف الفقراء والمكافحين والفلاحين والعمال، أما العامل الثاني فكان التنظيم، فلقد برع لينين في هذا المجال بشكل قلما نجده في المسيرة السياسية للقادة والزعماء عبر التاريخ، فلقد نظم الرجل صفوفه وزرع رجاله في «السوفياتات»، حيث لم يكن يصنف آنذاك بانتمائه لليسارية، ولكن شأنه شأن أي تشكيلات ثورية ركب موجة اليسارية لمواجهة الملكيين أو الثورة المضادة، حيث رأى فيها قوة كبيرة وغير موجهة، وهو أخطر ما يمكن أن يكون، فمن سيسيطر على «السوفياتات» سيسطر على مستقبل الثورة الروسية.

وعلى الفور بزغت عبقرية لينين التكتيكية رغم قرار حكومة كارينسكي التخلص منه على وجه السرعة، وهو ما دفعه للاستعداد للسفر للمنفى مرة أخرى، ولكن الأقدار كانت كريمة معه، فسرعان ما اعتبر كارينسكي أن «المناشفة» والملكيين أشد خطورة عليه من البلاشفة، فرأى التحالف مع البلاشفة لمواجهة من هو أقوى منهم، وهذه كانت الخطيئة الكبرى لكارينسكي، فهكذا أمد القدر وسوء تقدير كارينسكي العمر السياسي للينين، وهي الفرصة التي لم يكن الرجل ليفوتها، فقرر التحرك قبيل استحقاق الانتخابات البرلمانية ضد كارينسكي وحكومته، فكانت المعركة الفيصل تدور حول مستقبل السوفياتات في العاصمة، حيث فاز لينين بهذه المعركة بفضل نجاحه في زرع رجاله وعملائه من البلاشفة ودفع تغلغلهم في سوفياتات «سان بطرسبورغ» إدراكا منه أن من سيسيطر على العاصمة ستكون له الغلبة الأولى، وكانت خطوته التالية هي العمل على ضرب حكومة كارينسكي علنا حتى لا تعقد الانتخابات التي لن يفوز فيها «البلاشفة» ولو حتى في الخيال السياسي.

بكلمات «خليب.. خليب.. ما جلودني» صار للبلاشفة شعار يدوي في كل مكان، إنها الكلمات القادرة على كسر شرعية أي حكومة «الخبز.. الخبز.. أنا جائع»، فمن هو السياسي أو الحكومة التي تستطيع أن تقف أمام هذا الشعار؟ فهكذا بدأت بوصلة الغضب الشعبي تتجه نحو كارينسكي بتحريك الأيدي البلشفية، وسرعان ما خرج الشعار التالي بعد كسر شرعية كارينسكي يدوي بكلمات «كل السلطة للسوفياتات» ليزيل أي مصدر منافس للشرعية، وهو شعار مدمر لأي حكومة مركزية تنقل بمقتضاه السلطة من المركز إلى الأطراف، ومن القيادة الطبيعية إلى قيادة مفتعلة ومشكلة لأهداف مؤقتة، ومع مرور الوقت بدأت الحكومة الانتقالية تعاني بقوة ليس من قوة البلاشفة، ولكن من غضب الشعب الذي يحركه البلاشفة، خاصة بعد إعلان تنظيم اللجنة العسكرية الثورية، فأصبح الأمر صراعا بين المركزية (الحكومة والجيش) أو الأطراف (القوى الثورية والتنظيمات العسكرية المصاحبة لها)، وقد لجأ لينين من خلال رجاله الأوفياء من أمثال تروتسكي وستالين ومولوتوف وغيرهم للسيطرة التكتيكية، فكان قرار لينين المغامر الشجاع بالانقضاض على السلطة من خلال السيطرة على مفاتيح الحكم في العاصمة من خلال رجاله وبعض عناصر السوفياتات، تبعه إلقاء البيان الأول في 26 أكتوبر (تشرين الأول) الذي تضمن كل جمله الثورية والأكاذيب الخاصة بالحكومة الانتقالية، وأنه حقيقة الأمر أن لينين حسم الأمر بجسارته الثورية، فعلى حين كانت الحكومة المركزية تتحرك ببطء وارتباك وتكاد تفقد السيطرة على تعبئة قواتها المسلحة بسبب المناقشات السفسطائية لساسة وبرلمانيين ضعاف غير مدركين خطورة الأمر، فإن لينين أحكم السيطرة على المنشآت الحيوية في البلاد، فأصيبت الحكومة بحالة شلل سياسي في الوقت الذي كان يمكن لها أن تنهي هذا التمرد بسهولة، مؤثرة الاستقالة في الساعة الثانية ظهرا تاركة مقاليد أمور الدولة في أيدي لينين ورجاله بلا أي مقاومة أولية، ولكن الثورة الناجحة تأتي على جثمان حكومة فاشلة أو عاجزة.

حقيقة الأمر أن نجاح لينين لم يكن معناه أن البلاد دانت له بلا مقاومة، فالمسألة أصبحت مسألة وقت حتى يمكن للقوى الأخرى التحرك لمواجهة «البلاشفة» واجتذاب السلطة، فكان هناك التيار الليبرالي - وضمنه المناشفة واليساريين والملكيين - الذي أصبح يستعد عسكريا لاستعادة السلطة، ولكن نجاح لينين فتح له المجال أمام تجهيز «الجيش الأحمر» لمواجهة هذا الخطر تحت قيادة العبقري الثوري تروتسكي الذي استطاع أن يتسيد الحرب ويهزم كل القوى المختلفة التي واجهته بمنتهى القوة والحزم، فحتى التدخل الخارجي من قبل دول أخرى لم يحسم الأمر لصالح القوى الداخلية المعادية للبلاشفة، وقد ساعد على انتصار لينين تشييده لتنظيم سري قوي هو «التشيكا» أشبه بالمخابرات التي كانت تعمل على تصفية معارضيه، والنتيجة كانت مقتل الملايين وعشرات الملايين من المشردين، إلى الحد الذي تروي معه بعض المصادر التاريخية أن إجمالي ضحايا الثورة الروسية يفوق ضحايا الحرب العالمية الأولى من كل الأطراف المشاركة فيها، فهكذا تدفع الشعوب أثمان آيديولوجيات الطبقات الحاكمة أو المتطلعة للسلطة! لقد دار شريط الذكريات هذا وأنا أنظر إلى جثمان هذا العبقري السياسي المحنط في مبنى أمام الكرملين في يوم شديد البرودة يصطف فيه المتشوقون لرؤيته من الفضوليين والمهتمين بالتاريخ ومحبي السياسة، لكل أسبابه، فهذا العبقري فاز في حرب داخلية رغم أنه كان أضعف أطرافها، ولكن العبقرية المغلفة بالحنكة والمتمتعة بالعنف والمغطاة بروح المرونة غالبا ما تكون خليطا تصعب مواجهته من قبل خصومه في معارك ما بعد الثورة. قد شعرت بهذه الخلطة رغم مفارقة الروح لهذا الجسد المحنط وكأنه يحدثني بنظراته بعدما شعر بما يدور بداخلي من تضارب بين احترامي لقدراته وعبقريته السياسية والتنظيمية ورفضي الكامل لفكره وأساليبه، بل حتى مبادئ ثورته، ليلقنني دروسا بجمل تعبر جدار الموت الحقيقي الذي يفصلنا عن التاريخ فيقول لي حكما ثلاثا هي:

أولا: إن إزالة النظام المتهالك ليس مصدر قوة لك، بل قد يصبح عبئا إذا ما لم تدرك ما تريد وكيف تصل إليه.. فأخطر ما أصاب خصومي بعد الثورة هو شعورهم بأنهم عمالقة وهم في حقيقة الأمر أقزام.

ثانيا: ما أغرب من راغب في قيادة دولة بعد ثورة شعبها إن لم يكن مدركا للقيادة وأهدافها، وما أجهل السياسيين ومدعي السياسة بهذه الحقيقة، فيرونها الفرصة وهي التهلكة.

ثالثا: إن الشخصيات المتهالكة والقيادات القزمة وأنصاف الساسة والمتطلعين لأدوار لا تتناسب وأحجامهم أو شعبيتهم من الذين تفرزهم الثورات من الجاهلين بتاريخ شعوبهم، لا مكان لهم وستجري تصفيتهم من خلال النسق الثاني أو الثالث أو الرابع لأي ثورة.

* كاتب مصري