من التاريخ: المسيحية وأوروبا.. عصر الخلاف والاختلاف

TT

تناولنا في الأسبوع الماضي انتشار المسيحية ومرسوم الإمبراطور الروماني قسطنطين عام 313 ميلاديا بفتح المجال أمام حرية العقيدة في الدولة الرومانية والذي مهد لمرسوم الإمبراطور «ثيودوسيوس» في 381 بإعلان المسيحية الدين الرسمي للدولة الرومانية، وهما القراران اللذان أطلقا يد الكنائس المختلفة خاصة في روما مما مهد لهم جميعا نشر الديانة المسيحية بشكل ممنهج، خاصة بعد أن عادت أملاك الكنيسة بعد القرار الإمبراطوري الأول، وحقيقة الأمر أن هناك اختلافات كثيرة حول الأهداف الحقيقية للإمبراطور قسطنطين، فيرى البعض أنه اتخذ هذا القرار لارتباطه الشديد بالمسيحية، والتي دخلها رسميا بعد تعميده وهو على فراش الموت، بينما يرى آخرون أن الرجل كان مجوسيا حتى الآخر وأنه استغل المسيحية لتكون أداة تجديد داخل إمبراطوريته، وأيا كانت أهدافه فإن الملاحظة الأساسية هي أن بداية عصر التسامح الإمبراطوري مع الكنيسة والمسيحيين قد تزامن مباشرة مع عصر الاختلافات والخلافات داخل الكنائس المختلفة.

واقع الأمر أن هذه الظاهرة ترتبط بعدد من الحقائق الأساسية وعلى رأسها عدم وجود قوة مركزية تربط الكنائس المختلفة، فكان هناك أربع كنائس أساسية هي كنيسة روما والإسكندرية والقسطنطينية وأنطاكية، وعلى الرغم من عدم وجود اتفاق مثبت حول أسبقيتهم، فإن التوافق العام جعل لكنيسة روما - رغم تساويها مع الكنائس الأخرى - قيمة خاصة لأن الذي أسسها كان الحواري بطرس والذي وصفه السيد المسيح: «وأنا أقول لك أيضا أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوي عليها (متي 16:28)»، وبالتالي فإن مبدأ «الوراثة البطرسية Petrine Succession» والذي آمن به الكثيرون يرى أن بابا الفاتيكان كان وريث الحواري بطرس، ومن ثم له صلاحيات روحية أوسع من غيره، وهو ما رسخ لإقرار مبدأ أن بابا الفاتيكان هو الأول بين المتساويين من البطاركة Primus Inter Pares، وذلك على الرغم من أن كنيسة الإسكندرية سبقت كنيسة روما زمنيا، وكانت أول كنيسة مؤسسية بنيت للمسيحية في العالم.

لم يقف دور قسطنطين عند حد إصدار مرسوم ميلان الشهير، ولكنه بدأ يتجه نحو العمل على توحيد العقيدة المسيحية والتي كانت تواجه تحديات أساسية أولها فتنة آريوس Arius والتي بدأت تنتشر في جنوب وشرق المتوسط وخارجه، والثانية الاختلافات العقائدية التي بدأت تنتشر والثالثة كان عدم الاتفاق على ما يمثل العهد الجديد في الكتاب المقدس، وإذا كانت المشكلة الأخيرة أقلهم حدة، فإن أخطرهم كانت المشكلة الأولى والثانية واللتان تشابكتا بشكل كبير، فلقد خرج آريوس ينادي بأن المسيح لا يرقى في ألوهيته للإله الأب لأنه مشتق منه وفقا للعقيدة المسيحية، بالتالي فإنه لا يمكن أن يكون أزليا، وقد كانت هذه الفكرة تضرب في قلب فكرة التثليث المسيحي، فما كان من الإمبراطور إلا أن جمع مجمع نيقية عام 325 من أجل وضع حد لهذه الفتنة وإقرار مبدأ عام يقبله كل المسيحيين، فشارك في هذا المجمع قرابة ثلاثمائة من رجال الكنائس من كل الاتجاهات، وقد خرج هذا المجمع لاعنا آريوس صاحب الفتنة وتم عزله كنسيا، وقد لعبت كنيسة الإسكندرية دورا هاما للغاية في هذا من خلال «أثاناسيوس» والذي كان له دوره أيضا في إقرار الحاضرين تفسيرهم للب عقيدة التثليث، وهو المعروف باسم «معتقد نيقية Nicene Creed»، والذي أقر بإله واحد بثلاثة أقانيم متساوية (الأب والابن والروح القدس)، وأن الأقانيم الثلاثة من طبيعة إلهية واحدة، وقد كان هذا كافيا للقضاء على فتنة آريوس والتي ظلت مشتعلة، حتى اندثرت تماما في القرن السادس الميلادي، ولكن إقرار هذا التفسير العقائدي خلق مشكلة جديدة ارتبطت بالإقنيم الثالث (الروح القدس) فيما بعد، فهل كانت الروح القدس مشتقة من الأب أم الأب والابن معا، ثم ثارت الخلافات مرة أخرى بين البطاركة حول طبيعة السيد المسيح، ما بين إلوهيته (لاهوته) وطبيعته الإنسانية (ناسوته).

ومع مرور الوقت بدأ الإمبراطور الروماني الواحد تلو الآخر يسعى لمحاولة رأب الخلافات العقائدية التي بدأت تظهر بين الكنائس المختلفة، والتي بدأت تتطور لتصبح عداوات واضحة، ولعل من أبرز هذه المجامع كان مجمع «خلقدونية Chalcedon» عام 451 والذي جاء بضغط مباشر من الإمبراطور البيزنطي، الذي سعى لتوحيد الصفوف بين الكنائس المختلفة في إطار كنيسة القسطنطينية حتى لا يضعف ذلك دولته، حيث تم إقرار مبدأ الطبيعتين للسيد المسيح، الإلهية والناسوتية، وقد ارتبط هذا المجمع بدور جديد واضح وصريح للكنيسة الوطنية المصرية، التي صمدت أمام ضغوط وجبروت الدولة البيزنطية وتسلط بطاركة القسطنطينية، وقد انضم لهذه الكنيسة مجموعة من الكنائس الشرقية الأخرى، وقد أطلق عليهم فيما بعد «ذوو الطبيعة الواحدة Monophysites» أي المؤمنين بطبيعة واحدة للسيد المسيح وهي الإلهية، فرغم طبيعتي السيد المسيح اللاهوتية والناسوتية، إلا أن له طبيعة واحدة لكونه إلها، رافضين فكرة المساواة بين الطبيعتين لأن ذلك يقلل من ألوهيته، بينما اعتبرت عقيدة المجمع أن هذا الفكر يقلل من القيمة الناسوتية للسيد المسيح، وعلى الفور بدأت أقوى عمليات التنكيل لهذه الطائفة الدينية، فسعت الدولة البيزنطية وكنيستها تعذيب هؤلاء وعلى رأسهم المصريين، فذاقوا العذاب والهوان، ومع ذلك ظل المصريون وغيرهم من الكنائس الشرقية على موقفهم وعقيدتهم فلم يخضعوا للتنكيل أو الترغيب البيزنطي، خصوصا في مصر والتي رفض أهلها الخضوع لكنيسة القسطنطينية فانصهرت عقيدتهم في وطنيتهم، فزاد إصرارهم على المقاومة، ولعل هذا يفسر قبولهم، بل وترحيبهم بالدولة الإسلامية والتي مثلت لهم في ذلك الوقت ميزتين نسبيتين، الأولى التسامح الديني المطلوب لإقامة شعائر دينهم على الرغم من كونهم مسلمين، والثانية هي عدم تدخلها في لب العقيدة لتفرض عليهم أركان دينهم أو تفسيرهم.

لم تكن المسيحية كقوة هي التي انفرط عقدها الفكري، بل لحقتها، إن لم تسبقها مباشرة، الدولة الرومانية ذاتها، والتي انقسمت إلى دولتين الأولى في الشرق بقيادة القسطنطينية والتي أسسها الإمبراطور قسطنطين في عام 330 وانتقل إليها عام 331، والثانية بقيت في روما، وعلى حين استمرت الأولى حتى الفتح العثماني على أيدي محمد الفاتح في 1453 فإن الثانية تعرضت تدريجيا لهجمات القبائل الجيرمانية، فتآكلت قوتها وسقطت فعليا في عام 476 كما سنرى، ولقد كان الجميع يتوقعون أن تضعف كنيسة روما بعد سقوط الدولة الرومانية الغربية، ولكن العكس كان صحيحا، فلقد قويت هذه الكنيسة وأصبحت واضعة الثقافة الغربية، وعلى حين قويت الدولة البيزنطية إلا أن كنيستها ضعفت، ولعل ما يفك غموض هذا اللغز هو أن السياسة والدين يتبعان ناموسا مختلف المسيرة كما سنرى.