من تفوز بـ«قلب» باريس؟

الشقراء ناتلي موريزيه.. أم السمراء آن هيدالغو ؟

TT

التناقضات والفروق صارخة بين هاتين السياسيتين: الأولى، أرستقراطية المظهر.. ابنة بيت سياسي عريق ورثت السياسة أبا عن جد. والثانية من أصول متواضعة، وصلت إلى حيث هي بفضل كدها وجدها وعرق جبينها. الأولى، راكمت الشهادات العالية ومن أرقى المعاهد الانتقائية التي تنتج النخب الفرنسية. والثانية، متعلمة وتحمل شهادتين ولكنهما متواضعتان. الأولى، تنتمي إلى اليمين الكلاسيكي. و الثانية إلى اليسار الاشتراكي. الأولى هي ناتالي كوسيوسكو موريزيه و الثانية هي آن هيدالغو..

هما تستعدان لخوض غمار معركة حامية لنيل منصب عمدة باريس في الانتخابات البلدية المقررة في مارس (آذار) المقبل.

واضح إذن أن لا قواسم ولا جوامع مشتركة بين هاتين المرأتين إلا بذرة السياسة. طموح جامح ومشترك لاحتلال المقعد الاستراتيجي الذي يجلس عليه عمدة العاصمة أو رئيس بلديتها. حرب طاحنة تدور بين الشقراء والسمراء ستحسم يومي 23 و30 مارس المقبل، حيث سيدعى الفرنسيون للإدلاء بأصواتهم لانتخاب المجالس البلدية.

فمن هما هاتان المرأتان، الشقراء ناتالي كوسيوسكو موريزيه والسمراء آن هيدالغو؟

* ابنة الأرستقراطي

* الصورة الأولى التي ترد إلى ذهن الفرنسي عن ناتالي كوسيوسكو موريزيه أو كما يختصر اسمها بأحرفه الثلاثة الأولى «NKM» المرأة الطموح التي رمت نفسها في معركة باريس سعيا لانتزاعها من أيدي اليسار الذي وضع يده عليها قبل 12 عاما، هي تلك المرأة الأنيقة بكعبها العالي وبنطالها المشدود وشعرها الأشقر المرخي على كتفيها وهي داخلة إلى قصر الإليزيه للمشاركة في أول اجتماع لمجلس الوزراء في عهد الرئيس ساركوزي.

تتحدر كوسيوسكو موريزيه ذات الـ40 ربيعا من عائلة ذات أصول بولندية هاجرت إلى فرنسا في القرن الـ19. توارثت السياسة أبا عن جد. فوالد المرشحة اليمينية يشغل منصب رئيس بلدية مدينة سيفر الواقعة على المدخل الغربي لباريس. وجدها كان سفيرا لفرنسا طيلة 21 عاما، بينما جدها الأول انتخب عضوا في مجلس الشيوخ وكان أحد مؤسسي الحزب الشيوعي الفرنسي. كذلك فإن زوجها ووالد ابنيها كان أيضا رئيس بلدية مدينة صغيرة ولكن عن الحزب الاشتراكي.

تفيد المصادر التاريخية المتوافرة بأن هجرة عائلتها إلى فرنسا من منطقة سوالكي البولندية الواقعة على الحدود الشرقية مع ليتوانيا الحالية حصلت في خمسينات القرن الـ19 عندما اختار أبراهام سليمان كوسيوسكو ترك بولندا والمجيء إلى فرنسا على عادة الكثير من البولنديين الذين حاربوا في صفوف جيش الإمبراطور نابليون الأول وذهبوا معه إلى موسكو التي احتلها في 14 سبتمبر (أيلول) عام 1814. وتنتمي موريزيه، من جهة والدتها، إلى عائلة بورجوازية معروفة جمعت ثروتها من خلال اهتمامها بالصناعة.

تخرجت موريزيه، كوالدها، في أرقى المعاهد العلمية الفرنسي وهي مدرسة البوليتكنيك في عام 1992 وانتمت لاحقا إلى معهد علوم وصناعات الأحياء والبيئة، كما أنها حاصلة على شهادة الإدارة من كلية الهندسة. وأدت خدمتها العسكرية في سلاح البحرية الفرنسية برتبة ضابط في القاعدة الفرنسية في جيبوتي كما عملت في إطار مجموعة للمساعدة الاجتماعية في كمبوديا. وبدأت حياتها المهنية في عام 1997 في وزارة الاقتصاد والمال والصناعة وتنقلت في مناصب كثيرة قبل أن يحط رحالها في رئاسة الحكومة مستشارة فنية لشؤون البيئة والتنمية المستديمة. انتمت إلى حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية ودخلت الندوة البرلمانية في عام 2002، ثم انتخبت مجددا عام 2007. وما بين التاريخين راكمت المناصب الحلية البلدية والمناطقية وتحولت إلى وجه صاعد داخل صفوف اليمين جامعة بين موقعها كنائبة ورئيسة بلدية مدينة متوسطة «لونغومو» تقع جنوب العاصمة. ثم جاء دور دخولها إلى صفوف الحكومة، حيث بدأت في المواقع الخلفية كوزيرة دولة، ثم تقدمت شيئا فشيئا لتحتل في آخر حكومة للرئيس ساركوزي وزارة البيئة والتنمية المستديمة والإسكان. وخلال الحملة الرئاسية عام 2012، طلب منها الرئيس الفرنسي أن تكون الناطقة باسمه. وفي صيف عام 2013، قررت النائبة ناتالي كوسيوسكو موريزيه أن تترك مدينتها المتواضعة وتترشح عن الاتحاد من أجل حركة شعبية للفوز ببلدية باريس في معركة غير مضمونة النتائج بالنسبة إليها.

لكن درب هذه المرأة السياسية التي لا تخفي طموحاتها الرئاسية للمستقبل مثلها مثل آخرين من حزبها وأبرزهم وزير الزراعة السابق برونو لومير لم تكن مزروعة بالورود. فقد كان عليها أولا أن تردع زميلتها وزيرة العدل السابقة رشيدة داتي التي تشغل رئاسة بلدية الدائرة السابعة البورجوازية عن الترشح. ودارت بين المرأتين معركة سياسية دامية مالت لصالح موريزيه وانتهت بتراجع داتي. غير أن ذلك لم يكن كافيا ليصطف اليمين الباريسي وراءها، إذ طافت على السطح نزاعات وأحقاد مصدرها الذين كانوا يعدون أنهم الأجدر بالمنافسة، وأن ناتالي كوسيوسكو موريزيه «أنزلت بالمظلة» في مدينة لا تعرفها ولن تبقى في بلديتها لأن عينها على قصر الإليزيه. ولذا، فإن منهم من قرر طرح لوائح منافسة من داخل اليمين، الأمر الذي قد يكون سببا لهزيمتها لأنه سيبدد الأصوات ويعطي الأفضلية للمرشحة الاشتراكية.

تعرف كوسيوسكو موريزيه عن نفسها بالقول، إنها «امرأة قاتلة» في السياسة التي لا تعرف الرحمة والتي لا ينزل ساحتها إلا من قسا جلده وصلب عوده. وهي، من هذه الزاوية، سياسية كاملة الأوصاف. وما يزيد من قدرتها أنها تثير اهتمام الوسائل الإعلامية على أنواعها، لا بل الكتاب أيضا. والدليل على ذلك أن خمسة كتب صدرت عنها في الأشهر الماضية وما مجموعه ألف صفحة تروي فصول حياتها ومسارها المهني والسياسي.

بيد أن مشكلة كوسيوسكو موريزيه تكمن في أن الطبع عندها يغلب التطبع. فهي لم تنجح حتى الآن في أن تنزع عنها صورة المرأة الأرستقراطية - البورجوازية التي «تتنازل» وتتحول إلى امرأة «شعبية». وفي الأيام الماضية نشرت على صفحتها على «فيس بوك» صورة تظهرها وهي تدخن سيجارة مع مجموعة من الرجال الهامشيين، الأمر الذي أثار موجة من التعليقات الساخرة. ومرة أخرى، لم تتردد في تقديم وصف مشوق لركوب مترو الأنفاق وللفرص التي يوفرها للتعرف على الآخرين ما دل على أنها ربما لم تنزل أبدا تحت الأرض. وتفيد استطلاعات الرأي بأن صورتها لدى الناس ليست إيجابية رغم كفاءتها العلمية والمهنية، وذلك بعكس منافستها آن هيدالغو. وما يؤخذ عليها بالدرجة الأولى «بعدها» عن الناس. وأخيرا، تسربت عن محيط كوسيوسكو موريزيه جملة جاء فيها ما معناه أن المعركة بينها وبين هيدالغو هي بين «الأرستقراطية والخادمة» في إشارة للأصول المتواضعة لمنافستها الاشتراكية.

عندما قررت موريزيه خوض «معركة باريس» اختارت مقرها الانتخابي في شارع اسمه «شارع القمر». ربما جاء الخيار واسم الشارع من باب المصادفة، لكنه بأي حال يحمل دلالة رمزية قد تكون هي السبب الذي سيحرم موريزيه من الدخول مظفرة إلى القصر البلدي، إذ يشير إلى أنها تعيش في غير عالم الناس الذين تريد أن تسير شؤونهم.

* المهاجرة الإسبانية

* بعكس موريزيه، لم يهتم أحد بنشر كتاب عن آن هيدالغو، المرشحة الاشتراكية التي اختارها عمدة باريس الحالي برتراند دولانويه، المولود في تونس، خليفة له. الكتاب الوحيد الذي يحمل اسمها كتبته هي بنفسها. لكن هذه المرأة السمراء التي تختلف عن موريزيه في كل شيء، تتشارك معها في سمة قد تكون الوحيدة وهي أنها هي أيضا من أصل أجنبي. هيدالغو ولدت في إسبانيا ولم تحصل على الجنسية الفرنسية إلا في سن الـ14 من عمرها. تشبه بذلك أيضا وزير الداخلية مانويل فالس الإسباني المولود في مدينة برشلونة والحاصل على الجنسية الفرنسية في سن الـ22 عاما.

قصة آن هيدالغو التي تدل استطلاعات الرأي على أنها الأكثر حظا في التربع على عرش بلدية باريس أقرب إلى ما يسمى فرنسيا «النموذج الجمهوري»، أي القدرة على التقدم والنجاح والاندماج التام بفضل الإرادة والعمل. المرشحة الاشتراكية جاءت مع والديها في عام 1961 من سان فرناندو في إسبانيا وحلت معهم في حي متواضع من مدينة ليون، ثاني المدن الفرنسية. وفي صيف عام 1973 صدر قرار تجنيسها، لكنها لم تتخل عن جنسيتها الإسبانية. وبعكس موريزيه، فإن والدي هيدالغو كانا عاملين متواضعين. بيد أن الوضع الاجتماعي لم يمنعها من متابعة دراستها والتخصص في الشؤون الاجتماعية الأمر الذي سمح لها بالدخول إلى وزارة العمل بصفة مفتشة، وخصوصا «الصعود» إلى باريس. وعملت لاحقا في جنيف كمتخصصة في شؤون العمل، بيد أن نقطة التحول في حياتها جاءت مع وصول الاشتراكي ليونيل جوسبان إلى رئاسة الحكومة، إذ تنقلت ما بين 1997 و2002 في الكثير من الوزارات كمستشارة ليس بفضل تخصصها، ولكن بفضل انتسابها للحزب الاشتراكي. ومكنتها وظيفتها من أن تخوض غمار المنافسة البلدية في باريس عام 2001. لكن رغم خسارتها الموقع الأول بوجه المرشح اليمين القوي، فإنها دخلت إلى المجلس البلدي الذي هيمن عليه الاشتراكيون للمرة الأولى. وبما أن رئيس البلدية الجديد برتراند دولانويه أراد المناصفة بين الرجال والنساء، فقد وقع عليها خياره، إذ عينها مساعدته الأولى، أي الشخصية الثانية في المجلس البلدي. ومنذ ذلك الوقت لم تترك هذا المنصب الذي مارسته الأمر الذي يوفر لها تفوقا على منافستها لأنها تعرف خفايا الأمور وتفاصيل المشكلات. ولم يكن سرا أن دولانويه اختارها لتخلفه في كرسيه منذ أن قرر عدم الترشح لولاية إضافية. وإذا ما صدقت استطلاعات الرأي، فإن هيدالغو الاشتراكية ستخلف اشتراكيا وستكون أول امرأة تحتل هذا المنصب في تاريخ العاصمة.

لم يكن الرئيس هولاند الذي كان يشغل في تلك الفترة منصب السكرتير الأول للحزب الاشتراكي بعيدا عن صعود نجم هيدالغو، إذ إنه ساعدها على الترشح لمناصب محلية والتنافس في الانتخابات النيابية، لكنها بعكس منافستها اليمينية، لم تنجح أبدا في الفوز بمقعد نيابي، كما أنها لم تنجح أبدا في انتزاع الدائرة البلدية الـ15 أبدا من اليمين. وعند المنافسة داخل الحزب الاشتراكي لتعيين مرشح الحزب، وقفت هيدالغو إلى جانب المرشحة مارتين أوبري وضد هولاند ما «برد» علاقتها برئيس الجمهورية الحالي، بيد أن هذه الواقعة لم تمنعها من خوض التنافس لتكون مرشحة الاشتراكيين في المعركة البلدية وهي قد فازت به بنسبة 98 في المائة. ولا تفتأ هيدالغو تزور تحرث شوارع باريس ودوائرها طولا وعرضا وعينها على ساعة الصفر التي ستحل في 23 مارس المقبل للدورة الأولى في حين تجري الدورة الثانية في الثلاثين منه.

بالطبع، سيكون فوز هيدالغو برئاسة بلدية العاصمة تكريسا للجهود التي تبذلها وتتويجا لمسارها. أما بالنسبة لموريزيه، فإن الفوز يعني اجتياز مرحلة والتأهب لمرحلة لاحقة هي الانتخابات الرئاسية. هنا يكمن الفارق الأساسي بين المرأتين. الأولى تريد أن تكرس نفسها للعاصمة والثانية تريد استخدامها كرافعة لطموحاتها الأبعد. أما من حيث البرامج المطروحة، فإنها تتقارب لجهة الاستجابة لرغبة الباريسيين وحاجاتهم الأساسية وتحاول إيجاد حلول معقولة لمشكلات السير الخانقة وللنقص في دور الحضانة ولوقف الارتفاع في سلم الضرائب المحلية والاهتمام بالشباب والشيوخ والنشاطات الرياضية والثقافية والترفيهية وزيادة المساحات الخضراء والشوارع المخصصة فقط للمشاة وتحديث والاستثمار للمستقبل، لكن الخيار الحقيقي سيكون بين شخصيتين تختلفان في كل شيء وتلتقيان في الطموح. فلمن سيكون الفوز؟ للشقراء أم للسمراء؟ للبولندية أم للإسبانية؟

* بلدية باريس بالأرقام

* باريس، في هذا المشهد، بيضة القبان. هي الرافعة لمراكز أخرى. بلدية العاصمة لها موقع خاص في الجمهورية الفرنسية. ميزانيتها تعادل ميزانية بلد متوسط الحجم إذ تبلغ تسعة مليارات يورو. لها 73 ألف موظف بينما لندن الكبرى تستخدم 60 ألف موظف.

* الجالس على كرسي بلديتها يدير شؤون وشجون 2.5 مليون نسمة. ثم ألا يتغنى الباريسيون بأن عاصمتهم «أجمل مدن العالم»؟ ألا ينظرون إليها على أنها صنو الأضواء والذوق الرفيع والأناقة والثقافة وحرية الفكر وريادته؟

* الأهم من ذلك أن عمدة باريس موجود في الصف الأول للخريطة البروتوكولية للجمهورية الفرنسية. كل رئيس دولة يأتي فرنسا زائرا رسميا يمر في صالونات بلديتها القائمة في قلب العاصمة بمحاذاة نهر السين وعلى بعد رمية حجر من كاتدرائية باريس. ويعتبر المنصب ذا أهمية خاصة إذ عادة ما يمهد لمستقبل سياسي مهم على الصعيد الوطني.

* رئيس الجمهورية نفسه يزور مقر البلدية في بداية ولايته. لذا، فإن رئيس بلدية العاصمة هو أكثر من رئيس بلدية عادي يدير شؤون مدينته اليومية. هو شخصية لها موقعها ووزنها. ولقد فهم جاك شيراك الذي أمضى نحو 18 سنة في رئاسة بلديتها أهمية موقعها الذي لم يتركه إلا للانتقال إلى قصر الإليزيه. لذا، فإن تنافس هاتين المرأتين ليس نزوة عابرة. هو معركة حقيقية من أجل السلطة ومن أجل المستقبل.

* على صعيد البرامج تخوض المرشحتان معركة أرقام كي تحافظ باريس على صورتها «أجمل مدينة في العالم».

* تقدم آن هيدالغو برنامج استثمارات بمبلغ 8.5 مليار يورو. وتطرح في أولوياتها تسهيل الحصول على مسكن وتوفير وسائل مواصلات أكثر راحة والاهتمام بالطبيعة في المدينة.

* من جانبها أعلنت ناتالي موريزيه رغبتها في خفض عدد موظفي باريس لتوفير 225 مليون يورو قبل عام 2020. كما تريد أن يكون وسط المدينة كله «منطقة مشاة» فقط وتعزيز سياسة الأمن.