«أوكرانيتان».. شرقية وغربية

الاختيار بين موسكو وبروكسل أجج «الميدان».. ووضع الدولة المتنازعة على شفا حرب أهلية

TT

في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي استعدت فيلينيوس عاصمة ليتوانيا التي كانت تتولى وقتها رئاسة الاتحاد الأوروبي، لحدث كبير من وجهة نظر الأوروبيين، كان من المفترض أن تشارك فيه أوكرانيا بالتوقيع على اتفاق تجاري في إطار مبادرة أوروبية تعرف باسم «الشراكة الشرقية» مع عدة دول من أوروبا الشرقية، لكن حدث ما غير مجرى الأحداث بإعلان أوكرانيا تجميد تلك الجهود، لتهب ثورة عارمة، أوضحت الانقسام في الدولة المتنازع عليها بين الغرب وروسيا.

اندلعت المظاهرات العارمة وتحولت مع مرور الزمن إلى دامية، بين فريقين أحدهما يدفع في اتجاه أوروبا واتحادها وهو جانب المعارضة.. وآخر في اتجاه الدب الروسي، وهي الرئاسة والحكومة والنظام. تحولت الأمور رويدا إلى ما يشبه الربيع العربي. المعارضة احتلت الميادين، والساحة المسماة بـ«الميدان» رافعة شعارات لمحاربة الفساد، والحلم الأوروبي. أقامت الخيام، وافترش المحتجون الأرض، ونظموا حياتهم بطريقة جديدة تشبه حالة عصيان، بينما يدخلون من ساعة إلى أخرى في صدامات مع رجال الأمن. وأعدادهم تزدادا يوما بعد يوم ليصلوا إلى مئات الآلاف.

لكن مشكلة أوكرانيا ليست وليدة اليوم، بل لها تاريخ طويل.. فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر القرن الماضي، يسارع الاتحاد الأوروبي جذب دول أوروبا الشرقية إلى ساحاته، لكن أوكرانيا كانت مستعصية دائما، لأنها في قبضة الدب الروسي المحكمة.

تذرعت أوكرانيا بقضية الأمن القومي للتملص من اتفاق الشراكة مع أوروبا، فيما اقترحت روسيا عقد محادثات ثلاثية بشأن الاتفاق تكون موسكو طرفا فيه. وأصدر رئيس الوزراء، ميكولا أزاروف، أمرا ينص على تعليق عملية التحضير لاتفاق الشراكة بهدف «ضمان الأمن القومي، وإعادة تحريك العلاقات الاقتصادية مع روسيا، وتحضير السوق الداخلية لعلاقات متساوية مع الاتحاد الأوروبي». وعرضت أوكرانيا، أيضا، على موسكو والاتحاد الأوروبي إنشاء لجنة ثلاثية بشأن التجارة، و«إطلاق حوار حيوي مع روسيا والأعضاء الآخرين في الاتحاد الجمركي»، الذي تقوده موسكو وهي تدعو أوكرانيا إلى الانضمام إليه، منذ أشهر عدة.

وكان من تداعيات تلك التطورات خروج الآلاف في شوارع كييف واستقروا في ميدان «الميدان» وحملوا أعلام الاتحاد الأوروبي ولجأت الشرطة على فترات إلى استخدام القوة لتفريق التظاهرات، وهو الأمر الذي أثار غضب الأوروبيين، الذين عبروا أيضا عن أملهم بأن تتراجع كييف عن موقفها.

أصبح ملف أوكرانيا نقطة خلاف واضحة بين أوروبا وروسيا وظهر ذلك واضحا في القمة الروسية الأوروبية التي استضافتها بروكسل قبل أيام، واجتماعات أخرى كثيرة آخرها مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن.

يقول هرمان فان رومبوي، رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي إن الجانب الأوروبي يحاول دائما التأكيد أن «الشراكة الشرقية» ستعود بالفائدة للجميع بمن فيهم الروس. لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عبر من جانبه، على ضرورة أن يعيد الأوروبيون التفكير في آثار شراكاتهم مع دول الشرق على منطقة الاتحاد الجمركي الذي تتطلع روسيا إليها مع هذه الدول نفسها. وأوضح بوتين أن المشكلة مع أوكرانيا «اقتصادية الطابع وليست سياسية» بالنسبة لبلاده. كما جاء الرفض الروسي قاطعا لأي وساطة من أي نوع، حيث أعلن بوتين عن «الاعتقاد بأن وساطات أكثر تعني مشكلات أكثر». ومن جانبها رفضت المعارضة الأوكرانية بصورة مبدئية عرضا من الأمم المتحدة بالتوسط في الأزمة السياسية الحالية في البلاد. وفي أعقاب لقاء مع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون على هامش مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن، قال وزير الخارجية الأوكراني السابق أرزني يازينوك: «في اللحظة الراهنة، يتعين علينا أن نحل المشكلة في أوكرانيا عبر اتصالات مباشرة بين أوكرانيا والشركاء الغربيين».

وانضم زعيم المعارضة الأوكراني فيتالي كليتشكو إلى مظاهرة في ميونيخ دعما لاحتجاجات كييف ضد الحكومة هناك. وكان كليتشكو يحضر مؤتمر ميونيخ الأمني، وغادره لبرهة قصيرة لمخاطبة مئات من الأنصار المتجمعين، وحذر كليتشكو من أن الفوضى في أوكرانيا التي قد تمتد خيوطها إلى سائر أنحاء أوروبا.

في المؤتمر الصحافي الذي عقد الاثنين الماضي في وزارة الخارجية الأميركية بواشنطن، دار نقاش بين صحافيين وجين بساكي، المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، حول كلمة «فايت» (قتال)، ومعناها، وقصد وزير الخارجية جون كيري عندما استعملها، قبل ذلك بثلاثة أيام، خلال مؤتمر ميونيخ. وكان كيري يتحدث عن الأزمة في أوكرانيا. وقال: «ليس هناك مكان اليوم قتال من أجل أوروبا ديمقراطية، أو من أجل مستقبل أوروبا، مثلما في أوكرانيا».

ودافعت بساكي عن تصريحات رئيسها، وقالت إنه لا يدعو إلى العنف. لكن صحافيين قالوا إن هذه الكلمة لها معان كثيرة. وفي وقت لاحق، كتب صحافي في أحد المواقع على الإنترنت: «هل يقصد الوزير تأييد الولايات المتحدة للحرب ضد حكومة منتخبة انتخابا ديمقراطيا؟ هل تريد الولايات المتحدة حربا أهلية في أوكرانيا؟» وأضاف: «ليس سرا أن الغرب يريد تحويل أوكرانيا إلى معسكره، ويريد إيذاء الروس أيما إيذاء».

وأشار إلى أن الغرب يقدر على أن يحقق استراتيجية «وين أند وين» (يكسب في الحالتين). ويستمر التوتر على حساب روسيا وحكومة أوكرانيا الموالية لها. أو تهتز أوكرانيا، وتنقسم إلى شرقية وغربية، وينال الغرب الغربية». تحاشت بساكي مثل هذه الآراء والسيناريوهات. لكنها قالت إن الغرب يريد «مساعدة الشعب الأوكراني» عن طريق تقديم مساعدات اقتصادية. قد يمكن تفسير هذا بأنه «بيسفول فايت» (قتال سلمي).

وقالت بساكي: «حسنا، دعوني أكون واضحة جدا. نحن نتشاور مع الاتحاد الأوروبي، وغيره من الشركاء لدعم أوكرانيا بعد تشكيل حكومة تكنوقراطية جديدة. وبعد أن تعود أوكرانيا إلى طريق التطور الاقتصادي من خلال جهود صندوق النقد العالمي (آي إم إف). وسوف نسترشد في قراراتنا بالأحداث في أوكرانيا، وبمشاوراتنا مع الحكومة الجديدة بعد تشكيلها».

صار واضحا أن واشنطن تقود حملة ساخنة ضد حكومة أوكرانيا وحليفتها روسيا، وذلك لأن تصريحات بساكي تسبق الأحداث، غير أنها توضح هذه الاستراتيجية. وإذا كانت بساكي «متحفظة»، فإن هذه الاستراتيجية تبدو واضحة أكثر في الكونغرس، حيث تخطط وراء الكواليس ما يشبه تصورات الصحافي الأميركي عن تقسيم أوكرانيا، بعد حرب أهلية.

وفي نقاش في الكونغرس في الأسبوع الماضي، قدم أعضاء مشروع قانون لمقاطعة حكومة أوكرانيا، وفرض عقوبات مالية على مسؤولين أوكرانيين كبار، ومنعهم من زيارة الولايات المتحدة، ودعم زعماء الاحتجاجات، وتقديم أوسمة أميركية لهم.

وتماشيا مع الكونغرس، وربما استباقا له، أعلنت الخارجية إلغاء تأشيرات الدخول لبعض المسؤولين الأوكرانيين.

وكان الرئيس باراك أوباما أشار إلى أوكرانيا في خطابه عن «حالة الاتحاد»، وعبر عن دعم مبدأ «أن جميع الناس لهم الحق في حرية التعبير».

وكان أوباما عهد إلى نائبه، جو بايدن، تنسيق السياسة نحو أوكرانيا. وفعلا، تحدث بايدن إلى الرئيس الأوكراني، فيكتور يانوكوفيتش ثلاث مرات على الأقل خلال عشرة أيام. وكان أعضاء في مجلس الشيوخ سافروا إلى أوكرانيا، ومن بينهم السناتور الجمهوري جون ماكين والسناتور الديمقراطي كريس ميرفي. هذان يقودان الحملة ضد حكومة أوكرانيا. غير أنهما، بسبب أسئلة الصحافيين المتكررة، يحرصان على إدانة العنف. لكنهما، طبعا، لا يعتبران ما يحدث في قلب العاصمة كييف عنفا.

وقال ستيفن بايفار، خبير الشؤون الأوروبية في معهد «بروكنغز» في واشنطن: «ليس توتر علاقات الولايات المتحدة مع روسيا بسبب أوكرانيا حدث جديد».

وقال إن وجود جالية أوكرانية في الولايات المتحدة، رغم أنها صغيرة، وضع اعتبارات لأوكرانيا في السياسة الخارجية الأميركية حتى قبل استقلال أوكرانيا من الاتحاد السوفياتي عام 1991. وقال: «عندنا محاربون أوكرانيون، وأندية أوكرانية، وأعضاء كونغرس من أصول أوكرانية».

لهذا، سريعا بعد الاستقلال، توثقت العلاقات بين البلدين. غير أن الميول الروسية لأوكرانيا، وخصوصا في شرق أوكرانيا، وخصوصا من قبل حكومات أوكرانيا المنتخبة (مع استمرار الأثر الشيوعي) عرقل هذه العلاقات.

في البداية، احتجت واشنطن لمساعدات أوكرانيا العسكرية إلى الرئيس العراقي صدام حسين (بعد حرب تحرير الكويت عام 1991). ثم بعد عشر سنوات تقريبا، احتجت مرة أخرى (قبيل غزو العراق عام 2003). وبسبب ضغوط واشنطن، وافقت أوكرانيا على الاشتراك في القوات الدولية في كل من العراق وأفغانستان.

وركزت واشنطن على المساعدات الاقتصادية: في عام 2001، بعد عشر سنوات من الاستقلال، وصلت جملة المساعدات إلى ثلاثة مليارات دولار. وفي عام 2006، وافق الرئيس بوش الابن على وضع أوكرانيا في قائمة دول «التحدي القرني» (دعم الحرية والرأسمالية حول العالم).

لكن، ظل انحياز أوكرانيا الصلب نحو روسيا يعرقل مزيدا من التحسن في العلاقات مع أميركا. ومرة، اتهمت أوكرانيا واشنطن بالعمل لفصل منطقة جنوب أوكرانيا. ومرة، بعرقلة التعاون بين أوكرانيا وروسيا، بهدف تأسيس قواعد صاروخية في أوكرانيا تابعة لحلف الناتو.

غير أن الهزة الكبرى كانت «الثورة البرتقالية» عام 2005، التي أيدتها واشنطن تأييدا قويا. والتي أدت إلى انهيار سلسلة حكومات موالية لروسيا (مثل حكومة الرئيس ليونيد كوشما). وإلى فوز المعتدلة جوليا تيموشنكو. وطبعا، في وقت لاحق، لم تخف واشنطن غضبها لما أسمته «فشل الثورة البرتقالية» (إسقاط جوليا، ثم محاكمتها، ثم إرسالها إلى السجن. ووصول الرئيس الحالي، عدوها اللدود، يانوكوفتش، إلى الحكم).

لهذا، فإن تصريحات وزير الخارجية الأميركية كيري، في الأسبوع الماضي في ميونيخ، عن تأييد «القتال» في سبيل الديمقراطية في أوكرانيا لم يأت من فراغ.

ولهذا، قابل قادة المعارضة الأوكرانية هناك، بعد يوم من أخبار بأن القوات الأوكرانية المسلحة أعربت عن قلقها لما يحدث، وخصوصا «العنف»، وهي، طبعا، تقصد عنف المعارضة.

وبعد اجتماع كيري، ندد أحد قادة المعارضة، أرسيني ياتسينيوك، ببيان القوات المسلحة، وقال لوكالة الأخبار الفرنسية: «إنهم يحاولون ترهيبنا. لكن، من دون جدوى».

وفي اليوم نفسه، عبر البيت الأبيض عن «انزعاجه» من أعمال التعذيب. وقال المتحدث باسم البيت الأبيض، جاي كارني، إن واشنطن «قلقة للغاية» بسبب تزايد التقارير حول اختفاء محتجين وتعرضهم للضرب. وبسبب الهجمات على صحافيين. وبسبب مؤشرات بأن قوات الأمن ضالعة في ذلك.

وأضاف: «أود أن أشير إلى أننا منزعجون للغاية بشأن المؤشرات الواضحة على التعذيب الذي تعرض له زعيم الاحتجاج دميترو بولاتوف».

ونشرت السفارة الأميركية في كييف صورة لبولاتوف تظهر جرحا عميقا في وجهه. وأرفقت الصورة ببيان قالت فيه: «على حكومة أوكرانيا تحمل المسؤولية الكاملة وإجراء تحقيق والقبض على المسؤولين عن هذه الجريمة البشعة ومحاكمتهم».

وقال بايفار، خبير معهد «بروكنغز» إن هذه الاشتباكات والمناورات تحدث بينما ينهار الاقتصاد الأوكراني. وقال إن أوكرانيا تعاني من «أزمة اقتصادية عميقة». ولهذا سارعت وقبلت «صفقة إنقاذ» من موسكو بقيمة 15 مليار دولار. (رغم أن روسيا حذرت أخيرا بأنها لن تفرج عن دفعات جديدة من الصفقة إلا بعد تعيين حكومة جديدة).

وقال بايفار إن النمو الاقتصادي في أوكرانيا تراجع إلى صفر في العام الماضي، بعد شهور التدهور الاقتصادي، التي صاحبت شهور العنف والتوتر.

وأخيرا، ربما مثل ما قال الصحافي الأميركي، تعرف واشنطن أنها ستفوز في الحالتين: إذا استمر القلق في دولة مقربة جدا من جانب الروس. أو إذا تطورت الأحداث وتحولت الدولة إلى المعسكر الغربي، بـ«قتال سلمي»، أو ربما بـ«قتال حقيقي».