من التاريخ: انتقال مركز الثقل من روما إلى القسطنطينية

TT

تابعنا في الأسابيع الماضية كيف أمسى حال المسيحية بعد قرون من انتشارها، وكيف أصبحت الدين الرسمي للدولة، ثم كيف انقسمت الدولة الرومانية أو الحاضن السياسي للمسيحية إلى دولتين؛ الأولى بقيت في روما واندثرت بسقوطها عام 476 من الميلاد، والثانية في القسطنطينية واستمرت حتى سقوطها على أيدي الدولة العثمانية عام 1453، وكيف أن الخلافات العقائدية بدأت تؤثر سلبا في التشكيلة الجغرافية والسياسية والثقافية القائمة في ذلك الوقت بسبب قيام الدولتين حتى جاء عصر شارلمان وأصبح الغرب فيه يتمتع بقوة ونفوذ كبيرين.. ونلاحظ هنا ملاحظة غريبة، وهي أن أكبر تأثير في الحضارة الغربية لم يأت من وعاء الدولة البيزنطية التي عاشت بعد الدولة الرومانية ألفية كاملة، ولكن أكبر التأثير خرج من وعاء المسيحية الغربية ممثلة في بابا روما الذي سقطت عنه الحماية السياسية والعسكرية بسقوط الدولة الرومانية في الغرب، وفي التقدير أن هذه الظاهرة لها ما يفسرها.

واقع الأمر أنه عندما نقل الإمبراطور قسطنطين عاصمته من روما إلى القسطنطينية (إسطنبول) فإنه لم يغير فقط التوجه الجغرافي للدولة الرومانية، لكنه قام أيضا بتغيير مركز الثقل السياسي والديني لها، وكان الجميع يتوقعون أن تكون الدولة البيزنطية التي تطورت طبيعيا بعد مماته على أيدي خلفائه هي باعثة الثقافة المسيحية ومصدر الإشعاع المسيحي في القارة الأوروبية كلها ومنطقة المتوسط، خاصة أن التجربة المسيحية في بيزنطة كانت مختلفة عن نظيرتها في روما، لكن هذا لم يحدث، فمنذ البداية لجأ قادة الدولة البيزنطية للسيطرة الفعلية على السلطة المسيحية ممثلة في البطريركية الأرثوذكسية في القسطنطينية، تماما مثلما استوعبت الحضارة واللغة اليونانية القديمة للتعبير عن نفسها وفكرها وثقافتها وسياستها، وهو ما خلق خلطا لدور القيصر بالبابا أو ما أطلق عليه في الغرب «Caesaropapism»، أو سيطرة السلطة الزمنية ممثلة في القيصر على السلطة الدينية، واضطلاع الإمبراطور بجزء كبير من مسؤوليات البطريركية وتخطيه حدوده الدنيوية على حساب السلطة الكنسية. وحقيقة الأمر أن هذه الظاهرة أضعفت البطريركية اليونانية بشكل كبير، ومع القدرة على التأثر، فقد حاصر هذا المد السياسي الكنيسة وقلص كثيرا من فرص تطورها مقابل زيادة قوة الإمبراطور، لكنه أفاد العقيدة المسيحية الأرثوذكسية من خلال دعم الدولة للكنيسة في حربها على كل من خرج عليها وعلى رأسها كنيسة الإسكندرية وعدد من الكنائس الأخرى، فكان هذا ثمن التقارب مع الدولة.

ولقد ظلت الدولة البيزنطية بؤرة القوة السياسية والعسكرية في العالم الأوروبي - المسيحي، خاصة على أيدي قيادات قوية مثل الإمبراطور جستنيان الذي كان له دوره المهم في التطور الثقافي لهذه الدولة، الذي استفادت منه الكنيسة بطبيعة الحال، ولكن مع مرور الوقت بدأت هذه البطريركية تفقد رونقها لسببين أساسيين؛ وهما: ارتباطها العضوي بسلطة الدولة البيزنطية التي بدأت تنحسر بعدما استولت الدولة الإسلامية على أغلبية من ممتلكاتها في الشرق وعلى رأسها الشام ومصر وشمال أفريقيا ومناطق أخرى، وهو ما وضعها في حالة ضعف نسبي وحرب ممتدة لقرون طويلة.. كذلك فإن الفرق المسيحية الأخرى مثل أقباط مصر والكنائس الأخرى الرافضة ساهمت في إضعاف البطريركية وسلطانها مع مرور الوقت، ويلاحظ أيضا أن حركة التنصير التي قامت بها على الرغم من عمقها وسعتها، فإن حركة نشر الديانة المسيحية كانت أوفر حظا لدى كنيسة روما، وهو ما ساهم في تفسير الانحسار النسبي للأرثوذكسية في وسط وغرب أوروبا، والتقدير العام أن البطريركية اليونانية عاشت تدفع أثمان سياسية باهظة لارتباطها بالدولة البيزنطية.

وعلى العكس من ذلك، فإن تجربة كنيسة روما كانت مختلفة شكلا وموضوعا، فمنذ إعلان الإمبراطور ثيودوسيوس المسيحية الدين الرسمي للدولة عام 381، فإن هذه الكنيسة أخذت رونقها الخاص وبدأت تتبع سياسية قوية، فهي لم تكن في أي وقت من الأوقات خاضعة الخضوع الكامل للسلطة الزمنية ممثلة في الإمبراطور كما حدث في كنيسة القسطنطينية، وظلت حتى فترة طويلة للغاية محافظة على هذه المسافة الصحية مما أعطاها فرصة المناورة والتطور الطبيعي بلا تدخلات خارجية.. كذلك، فإن هذه الكنيسة استفادت كثيرا من الهيكل التنظيمي للإمبراطورية باقتباس منظومتها البيروقراطية وسلم الأقدميات لتنظيم السلك الكنسي بها، وهو ما سمح لها بنشر مذهبها في كل غرب ووسط وشمال أوروبا تدريجيا من خلال الكنائس والمبشرين التابعين لنظامها الكنسي القوي. كذلك فقد قامت هذه الكنيسة بدور سياسي مهم للغاية بعد سقوط الدولة الرومانية حتى مع وجود قوة زمنية ممثلة في ملك إيطاليا ومن تلاه من حكام، فعندما خضعت روما للحصار، على سبيل المثال، على أيدي قبائل «الهون» Hun، فإن البابا ليو الأول هو الذي أخذ على عاتقه التفاوض مع هذا القائد القوى في عام 452، ولا أحد يعرف ماذا دار خلال هذا اللقاء، فلا توجد مصادر تاريخية أوردت نصوص ما حدث، كما لا توجد مضابط له، إلا أن نتيجة اللقاء كانت انسحاب قواته ورفع الحصار عن روما، وهو ما منح البطريركية في روما قوة ونفوذا كبيرين في العالم الغربي بوصفها المؤسسة الوارثة للدولة الرومانية والحافظة للتراث والفكر والقيم الغربية، حتى وإن لم يكن لها جيوش الإمبراطورية، وهو ما جعل لها شكلها القوى بوصفها أكبر قوة ناعمة منذ مولدها وحتى اليوم.

واقع الأمر أن الكنيسة لعبت دورا مهما للغاية للتربع على عرش الفكر والثقافة الغربية وذلك نتيجة طبيعية لسيطرتها على القوة الروحية بعد انهيار الدولة الرومانية في الغرب، فلقد وضعت الكنيسة بهيكلها القوى أيديها على مفاصل الهوية والثقافة في أوروبا الغربية، وذلك من خلال السيطرة على نظام التعليم تدريجيا، خاصة في الأديرة وعلى أيدي الرهبان، فكانت أداة التعليم الأساسي الذي كان مقصورا على طبقات محددة من الرجال فقط، كما أن فكرها ومفكريها هم الذين سيطروا على الساحة، فالتقاليد الفلسفية أصبحت مُسخّرةً لخدمة الدين المسيحي والكنيسة، وهو ما ظهر جليا من خلال كتابات بعض الفلاسفة المرتبطين بالكنيسة، حتى وإن لم ترق كتاباتهم إلى الإرث الفكري الغربي ممثلا في الحضارة اليونانية - الرومانية. وقد وضعت الكنيسة ذاتها المناهج التعليمية الأساسية وصممت على الإشراف عليها، كما أنها استخدمت أيضا وسائل قمعية ضد من تجرأ وناطح فكرها، خاصة بعدما بدأت تُثبت وضعيتها في غرب ووسط القارة.

وقد زاد من قوة هذه المؤسسة أنها لم تخضع لأي نوع من المسائلة السياسية أو حتى المالية، فالمعروف أن «مرسوم قسطنطين» الداعي للتسامح مع المسيحية رد إلى الكنيسة كل ممتلكاتها وأموالها وسمح لها بتملك أراضيها، بينما ساهم مرسوم جعل المسيحية الدين الرسمي للدولة في زيادة أموالها من خلال إعفائها من الضرائب العامة، وهو ما منح هذه المؤسسة غني ماليا إلى جانب الغنى الروحي، كما أن انتشار الأديرة في الإقطاعيات والأراضي التي كانت تحت سيطرتها ساهم في ذلك بشكل كبير؛ حيث أصبحت الأديرة أداة مهمة للإنتاج الاقتصادي في ذلك الوقت مما مهد لمزيد من الثقل الاقتصادي لهذه المؤسسة الدينية عابرة الحدود. وهكذا تركزت السلطات المختلفة في أيدي كنيسة روما التي أصبحت مع مرور الوقت بؤرة القوة الوحيدة في منطقتها واستفادت كثيرا من عدم وجود قوة زمنية قوية ومركزية، كما قال أحد المؤرخين: «الإمبراطورية الرومانية أصبحت مسيحية، ولكن الكنيسة أصبحت إمبراطورية».

ولكن هذه القوة لم تكن لتحمي الكنيسة من المشكلة الحقيقية التي واجهت كل مؤسسات أوروبا، وهي الصراعات الداخلية على السلطة المركزية بها، فالجشع البشري طال هذه المؤسسة حتى وإن كانت الظروف قد هيأت لها من القيادات العظيمة والقوية من أمثال القديس أمبروز، ولكن تفاقم الصراعات بين الأسر الإيطالية على البطريركية حد من الانطلاقة الكاملة لهذه المؤسسة الدينية الكبيرة. وفي نهاية القرن الثامن الميلادي عندما استفحلت هذه الخلافات وأدت إلى طرد البابا من قيادة الكنيسة، فإن أحدا لم يتوقع أن يؤدي ذلك الصراع الصغير إلى تغيير عميق في تاريخ الكنيسة وأوروبا والسياسة الدولية كما رأينا عند التزاوج السياسي بين الكنيسة الكاثوليكية ودولة شارلمان، مما مهد لانشطار سياسي وديني بين الشرق والغرب؛ الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية كما سنرى.. فهكذا امتزجت السياسة بالدين، مما جعل الأوروبيين وغيرهم يدفعون أثمانا باهظة.