من التاريخ: البابا والدولة وصراع الإرادتين

د. محمد عبد الستار البدري

TT

بحلول عام 800 ميلاديا شهدت أوروبا التزاوج السياسي بين كنيسة روما والإمبراطورية الرومانية المقدسة، وذلك مقابل التزاوج القائم بين الإمبراطورية البيزنطية وكنيسة القسطنطينية في الشرق، ولكن ديناميكية العلاقة بين السلطة الزمنية والدينية اختلفت من الشرق للغرب، فعلى حين سيطر الإمبراطور البيزنطي على البطريركية في القسطنطينية فإن هذا لم يحدث في الغرب حيث ظلت العلاقة بين الإمبراطوريات والملكيات المتعاقبة والكنيسة في روما تتأرجح بشكل كبير، فالأولى تملك سلطة القوة والجيوش، بينما بابا روما يملك السلطة الروحية وفقا للعقيدة الكاثوليكية، وبالتالي فإن غضب الكنيسة على أي إنسان كان كفيلا بحرمانه من الآخرة وجنتها، ورغم التوافق المبدئي الذي كان بين بابا روما والإمبراطورية الرومانية المقدسة في البداية، فإن السياسة والمال كان لهما بطبيعة الحال الأثر الأكبر في القضاء على الاستمرارية المطلقة لعلاقة الوئام بين هاتين المؤسستين، فكثيرا ما رأينا قيادات لكنيسة روما ترفض الخضوع لسلطة الإمبراطور أو الملك، بينما وجدنا أيضا إمبراطورا أو ملكا يسعى تدريجيا للقضاء على النفوذ المتغلغل للكنيسة في قصره ودولته.

حقيقة الأمر أن هناك بعض المتناقضات التي ميزت علاقة كنيسة روما والسلطة الزمنية في وسط وغرب أوروبا، فرغم أن بعض الباباوات كانوا يسعون سعيا حثيثا للسيطرة على الملوك والأمراء من خلال مد نفوذ الكنيسة إلى قصورهم ورجالهم، فإن ملوكا آخرين كان لهم دورهم في زعزعة استقرار الكرسي البابوي ومؤسسات الكنيسة حماية لملكهم، فكانت هذه سمة العلاقة بين الطرفين حتى مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، عندما بدأت تتفجر العلاقة المتوترة بين الطرفين بشكل فج، وكان ذلك بسبب الخلاف الذي دب بين البابا «جيرجوري السابع» والملك الألماني «هنري الرابع» بسبب ما هو معروف بحق منح الإقطاعيات Investiture، حيث سعى البابا لسحب حق منح الإقطاعيات لرجال الكنيسة من الملك، وهو ما لم يلق قبولا لدى الملك والذي بدأ يتطاول على البابا واصفا إياه بأنه «أفاق» مطالبا بعزله من منصبه البابوي فيكون بذلك ملعونا على مدار الزمن، فكان رد البابا قويا فعزله كنسيا ورفع عن رعاياه حق الطاعة له معتبرا أن أيا منهم يقدم فروض الولاء والطاعة يعد خارجا على الدين ومصيره جهنم في الآخرة واللعنة في دنياه، وإزاء هذا العزل الكنسي أصبح الملك في وضع صعب، فاضطر لعبور جبال الألب للذهاب للبابا ليسترضيه لمدة أربعة أيام راكعا أمام كنيسته حتى عفا عنه البابا، فعاد الملك «هنري الرابع» وهو يضمر في نفسه كل الشر للبابا، فانتظر الفرصة المناسبة وعاد لإيطاليا بجيش قوي استطاع أن يخيف البابا والذي اضطر للهروب ومات وهو في المنفى، وقد استمرت فصول هذه المسرحية الهزلية حتى تم الاتفاق على حل وسط بين البابوية والملك الألماني من خلال توزيع حقوق منح الإقطاعيات على الاثنين بشكل يحفظ للكنيسة بعض هيبتها دون الإخلال بسلطة الدولة.

لقد كان هذا الفصل في حقيقة الأمر مجرد بداية فجة لسلسلة من الأزمات بين البابوية من ناحية والسلطة المدنية أو الزمنية من ناحية أخرى، فحقيقة الأمر أن الملوك ضاقوا ذرعا بالنفوذ المتصاعد للكنيسة في كل شيء، فالملك لا يرث العرش إلا بدور للبابا أو مندوبه، والإنسان محاصر من مولده لمماته بدور للكنيسة سواء في تعميده أو تناوله أو اعترافه أو غفران ذنبه، كما أن لموته طقوسا كنسية يجب مراعاتها، ولكن الأهم من ذلك دور الكنيسة الحاسم في موقفه في الدار الآخرة، فبيدها حقوق المغفرة وأبواب الجنة تمر من خلال الكنيسة، وهي أمور بدأت تضغط على المواطن البسيط والملك والأمير على حد سواء، فنجد هناك تحركا نحو مزيد من الاستقلالية عن الكنيسة، وقد تفاقم الوضع بشكل أساسي بعدما سعى الملوك لفرض الضرائب على أراضي الكنيسة التي كانت تملك في مناسبات كثيرة أكثر من ثلث الأراضي الزراعية، من ناحية أخرى فقد سعت الكنيسة لأن تفرض سطوتها الروحية على الملوك بمنح نفسها حق معاقبتهم في الدنيا، وهو ما حدث عندما حاول بطريرك الكنيسة الإنجليزية «وليم بيكيت» الاستحواذ على حقوق الكنيسة أمام ملك إنجلترا رغم الصداقة التي كانت تجمعهما والتي أدت لعزل الأخير كنسيا، وهو ما أدى إلى طلب الملك من بعض رجاله أن يخلصوه من البطريرك فقتلوا الرجل، وهو ما ترك أوروبا في حالة ذهول سياسي وديني، يضاف إلى كل هذه الأسباب سبب آخر وهو رفض الكنيسة منح الطلاق لبعض الملوك كما كان الحال مع ملك فرنسا فيليب أغسطس الذي اضطره البابا «إينوسنتي الثالث» لاستعادة زوجته.

ولكن أخطر فصول الخلاف بين البابا والملوك كان الصراع الذي نشب حول محاولة الملك الفرنسي «فيليب الجميل Philip the Fair» فرض الضرائب على ممتلكات الكنيسة فرفض البابا «بونيفاس الثامن» فلم يتورع الملك من إرسال مجموعة مسلحة دخلت على البابا وضربوه واختطفوه فمات المسكين متأثرا بسجنه والاعتداء عليه، ولم يكتف الملك فيليب بذلك بل قام بقوة السيف بنقل مقر البابوية لأول مرة إلى مقاطعة «أفينيون» وهو ما سمي في التاريخ الكنسي الاحتجاز البابوي، حيث بقيت هناك لمدة سبعين عاما حتى عادت مرة أخرى لروما. لقد استباح ملوك فرنسا الواحد تلو الآخر قدسية الكرسي البابوي، وهو ما لم تتغلب عليه الكنيسة في حقيقة الأمر حتى اليوم، فلقد أدى هذا الانتقال إلى كسر هيبة الكنيسة وخلق حالة من الفوضى الدينية في أوروبا والتي تفاقمت بعدما تدخلت فرنسا مرة أخرى للدفع من خلال كرادلتها لانتخاب بابا غير بابا الفاتيكان فيما عرف بالـ«Western Schism أو الانفصال الغربي للكنيسة» وعند مرحلة محددة من تاريخ الكنيسة الكاثوليكية كان هناك مقران للبابوية في آن واحد الأول في روما والثاني في آفينيون مرة أخرى، ولأول مرة تعاني الكنيسة الكاثوليكية من هذا الانفصام في الهوية والسلطة على حد سواء بسبب صراعها مع سلطة الملوك والأمراء، فلقد انقسمت الولاءات داخل الكنيسة الواحدة بسبب الصراع بين السلطة الروحية والدينية.

وواقع الأمر أن سلطان الكنيسة كان روحيا وفي أمور السياسة فإن سلطان السيف هو الأبقى، وهنا يتبادل الباباوات والملوك مسؤولية ما حدث بدرجات متفاوتة وفقا للأزمنة المختلفة، وذلك رغم مقولة السيد المسيح الشهيرة «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» ولكن هنا اختلت موازين حقوق قيصر والرب وفقا لممثليهما في الدنيا، وبرغم كون هذه الجملة دستورا عظيما لما يجب أن تكون عليه علاقة السلطة الدينية والسياسية، فإن هذا لم يحدث، فكثير من قيادات الكنيسة لعبوا دورا سياسيا خارج صلاحياتهم الروحية، فعلى كاهل البابا «أوربان الثالث» على سبيل المثال مسؤولية الخراب البشري الذي حل على العالم بسبب فتواه للجهاد الصليبي في الأراضي المقدسة كما سنتابع في الأسابيع القادمة، والحقيقة أن المشكلة الأساسية نتجت عن خطورة المزج بين الدين والدولة، فالأول يتناول العلاقة بين الإنسان وفاطره، والثاني بين الإنسان ونظيره، وما أخطر المزج بين الشرعيتين، كما أن الأول مصدره المولى سبحانه وتعالى، والثاني مصدره علاقة بني البشر بعضهم ببعض.

وتستوقفني هنا عبارة لأحد المؤرخين يقول فيها «إن المسيحية دائما ما تقوم بتخريب السلطة الزمنية التي احتضنتها»، مستندا إلى التاريخ الممتد للخلافات بينها وبين الإمبراطوريات والدول التي استوعبتها، وتقديري أن هذه الجملة بها تقصير واضح لسببين الأول لأن التخريب هنا حل على الدين والدولة على حد سواء، والثاني هو أن العبارة اقتصرت على الكنيسة وحدها بينما التجربة الإنسانية تشير إلى عكس ذلك خاصة مع محدودية نجاح أو أكاد أجزم فشل نماذج الدولة الثيوقراطية التي مزجت الدين والدولة عبر التاريخ، فما أخطر من لا يتعلم من تجارب الخلط بين الدين والسياسة في التاريخ!