الأسباب غير الدينية للحملات الصليبية

TT

يستشهد الكثير بالحملات الصليبية على مصر والشام منذ نهاية القرن الحادي عشر ولمدة ثلاثمائة عام متتالية على اعتبارها مثالا على الحروب الدينية بين الشعوب، أي أن يكون الدين ككيان مستقل سبباً مباشراً في اندلاع بعض الحروب، وهي النواة التي استخدمت فيما بعد لإخراج فكرة تمت صياغتها في نظرية تتم دراستها في مناهج العلاقات الدولية تحت اسم «صراع الحضارات» لصاحبها د. صمويل هانتغنتون، رغم تحفظاتي الشديدة على أساسيات هذه النظرية لاقتناعي التام بأن السياسة بين الدول بما فيها الحروب لا يمكن أن تُبنى على أهداف دينية وحدها وإنما يكون هذا الهدف الديني نتاجاً طبيعياً لها أو وسيلة لإضفاء الشرعية عليها، وبالتالي تكون بعض المحاولات للاستشهاد بصحة النظرية من خلال الحملات الصليبية أمراً محفوفاً بالمحاذير على أقل تقدير، لأن لهذه الحملات أسبابها الراسخة في تكوين المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت.

في هذا الإطار أذكر أنني كلما تناولت الحملات الصليبية كنت دائماً ما أطرح تساؤلاتٍ عدة أكررها على النحو التالي: ماذا كان سيحدث لو أن بيت المقدس والأماكن المقدسة للمسيحية وُجدت في وسط الصحراء الأفريقية تحيطها الرمال والصحراء الجرداء من كل الاتجاهات لمئات الكيلومترات؟ في هذه الحالة هل كانت الحملات الصليبية ستتبلور وبهذه الكثافة؟ هل كانت هذه الحملات ستمتد لقرون ثلاثة؟ والإجابة على كل هذه الأسئلة بمنتهى اليقين هي النفي الكامل غير المُجزأ لأن ذلك يخالف طبيعة السياسة وحركة التاريخ وحركة التجمعات الإنسانية على مدار الزمن لأسباب نوردها هنا بالتفصيل.

إن النظر للحملات الصليبية يجب أن يكون على أساس سياسي واقتصادي واجتماعي، على أن نؤجل تناول دور الكنيسة الفاسد والمحرض عليها للأسبوع التالي، وأكاد أجزم أن هذا الدور كان تحريضياً أكثر منه تنفيذياً في حالة هذه الحملات العسكرية، فالثابت تاريخياً أن هذه الحملات لم تُجمع تحت إدارة الكنيسة وإنما تحت الإدارة شبه الكاملة للنخب السياسية والاجتماعية في أوروبا كما سنرى على مر الأسابيع القادمة.

لنبدأ من حقيقة غير خلافية، وهي أن الحملات الصليبية كانت في جوهرها كما وصفها أحد المؤرخين من ذوي الرؤية الثاقبة امتداداً «لإمبريالية مطالع القرون الوسطى»، فعامل الزمن هنا حاسم للغاية ولا يمكن أن نتناول الحملات الصليبية دون البعد الزمني لها، فلقد بدأت أوروبا تخرج في القرن الحادي عشر من العصور المظلمة بما تحمله من انقباضات وتشوهات سياسية، لتدخل مرحلة التكوين البدائي لما يمكن وصفه بمفهوم الدولة في العلاقات الدولية، فالكيانات العظمى المبنية على التزاوج بين السلطة الزمنية والدينية انهارت كما رأينا على مدار الأسابيع الماضية وبدأت تظهر بذور الدولة المستقلة، فبدأت فرنسا تظهر ككيان جيوبوليتيكي في المنطقة، كما بدأت إنجلترا تتبلور ككيان مستقل، ومعهما بدأت تظهر الإمارات الألمانية المستقلة بسلطة تشبه الكونفدرالية أكثر منها فيدرالية، وكثيراً ما كان يرتبط بعملية بداية مفهوم الدولة حالة من التوسع الخارجي، الذي بدأ يتبلور بشكل غير مؤسسي، وفي هذه الحالة من خلال الحملات الصليبية التي جاءت كامتداد طبيعي لهذا التوجه.

إلى جانب هذا البعد السياسي الهام، فإن التاريخ يعلمنا أن الحروب الممتدة لا تُشَنّ إلا لو كانت النخب السياسية والاقتصادية راغبة فيها، لا سيما بعدما بدأت تظهر بوادر التصدع للأسس والدعائم التي بُني عليها الاقتصاد الأوروبي في شكله القائم، فلقد بات واضحاً أن النظام الإقطاعي يواجه مشكلات كبيرة يمكن أن تؤدي إلى تصدعه لو لم تعالج، فلقد بدأت الإقطاعيات (Manors) تعاني بشدة من ضعف الإنتاجية، وهو ما وضع كثيراً منها على شفا المجاعة بما بات ينذر بكوارث واسعة، كذلك فإن الإقطاعيات لم تكن قادرة على مواكبة التوسع الوراثي للنخب الإقطاعية في أوروبا، خصوصا فرنسا وإنجلترا، وباتت هناك حاجة لتوسع اقتصادي واجتماعي خارج النطاق التقليدي الأوروبي، فالمنظومة الاقتصادية / الاجتماعية لم تعد قادرة على تحمل الضغوط القائمة، وفي مثل هذه الحالات فإن الاستعمار عادة ما يكون الحل، وبات الإقطاعيون يتطلعون لهذه الحملات العسكرية لأسباب اقتصادية مفهومة.

ويلاحظ هنا تزامن الحملات الصليبية مع بداية حركة تجارية خاصة في المدن الإيطالية مع بلاد الشام ومصر وسواحل الأناضول، وهو ما بدأ يُفَتِّحُ العين على خيرات هذه الدول، ومن ثم وقع المشروع الاستعماري الصليبي على آذان مترقبة ونفوس متعطشة لمزيد من الثروات، وفي مثل هذه الحالات ما أسهل إلباس المشاريع الاستعمارية اللباس الديني أو الثقافي، وهو نفس ما حدث مع المشروع الاستعماري الغربي بعد هذه الحملات بخمسة قرون، والذي أخذ شكل مهمة إدخال التحضر للدول ضحية هذه الموجة الاستعمارية في ما عرف بمشروع «تحضير الأمم» (Mission Civilizatice). فكثيراً ما تتستر خلف مظلة الدين والحضارة أطماع وأحقاد ومآرب النخب السياسية والدينية والاجتماعية، وهذه سنة التاريخ.

إلى جانب كل هذه العوامل، فإن من الأسباب التي أدت إلى الحروب الصليبية كان نموذج الصراع القائم في الأندلس بين الملوك والأمراء الإسبان من ناحية والممالك المسلمة من ناحية أخرى، وفي هذه الحرب الضروس كان العامل الديني أحد الأسباب التي استند إليها كل طرف لشحذ القوة والهمة بين أتباعه، فلقد طلب بعض الملوك الإسبان النظر في دعم الكنيسة، فكان رد فعل البابا «غريغوري السابع» هو إعلان الحرب المقدسة على المسلمين هناك من خلال إصدار ما يشبه الفتوى، والتي كانت تجيز للفرسان المسيحيين الحق في تملك الأراضي التي يسلبونها من المسلمين، وقد تدخل نفس البابا لجمع جيش أوروبي كبير لمناصرة بعض النداءات الواردة من الملوك الإسبان، وهذه هي اللبنة الأساسية لفكرة جيوش مسيحية في مواجهة الممالك المسلمة، وسرعان ما تطورت مثل هذا الأفكار لتمهد لفكرة الجيش المسيحي الموحد أمام العدو الإسلامي الموحد والذي استطاع على مدار قرون خمسة أن يستولي على أجزاء كبيرة من الممالك المسيحية التي كانت واقعة تحت الحكم البيزنطي وفي شبه الجزيرة الأيبيرية وبعض الجزر المتوسطية.

وهكذا باتت الأرض ممهدة للمشروع الاستيطاني النموذجي لأوروبا على حساب الممالك الإسلامية، ولم يكن ينقص ذلك إلا الشرارة الدينية التي كانت كفيلة بأن تشعل فتيل الحرب، كان الجميع تواقين للشرعية، وقد منحهم هذه الشرعية البابا «أوربان الثاني» في 1095 ليضع على كاهله مسؤولية مواجهة الرب وفي رقبته ملايين الضحايا من القتلى والجرحى في أول حرب صليبية شاملة عرفتها البشرية كانت السياسة وقودها والاقتصاد هدفها والآلة العسكرية وسيلتها وبالدين تم إشعالها.