ساركوزي.. حلم الإليزيه العسير

الرئيس الفرنسي السابق غارق في بحر من الفضائح يعرقل طموحه كرجل منقذ

TT

في أغانيها، تتحدث كارلا بروني - ساركوزي عارضة الأزياء السابقة والفنانة الحالية عن شخصية عزيزة على قلبها تسميها «ريمون». و«ريمون» هذا هو في الواقع اسم الاستعارة لزوجها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي تنبسط أخباره هذه الأيام على صفحات الجرائد والمجلات وعلى الشاشات وموجات الأثير فضلا عن وسائل التواصل الاجتماعي بسبب الكم الذي لا يحصى من الفضائح المرتبطة به والطافية على وجه الأحداث. بيد أن نيكولا فاجأ مواطنيه مؤخرا عندما علموا أنه اكتسب اسما إضافيا هو «بول» وكنيته «بيسموث». ولكن ما حاجة رئيس سابق لاسم جديد وهو الطامح للعودة إلى قصر الإليزيه في الانتخابات الرئاسية المقبلة ربيع عام 2017؟

الواقع أن انتحال هوية جديدة يعود الفضل فيه لمحامي ساركوزي واسمه تيري هيرتزوغ المكلف القضايا «الحساسة» العالقة بذيل الرئيس السابق. وبما أن المحامي وموكله بحاجة للتواصل باستمرار بعيدا عن الآذان الطويلة المتنصتة، فقد عمد هيرتزوغ إلى اقتناء هاتف نقال باسم «بول بيسموث» وأعطاه لساركوزي. لكن المشكلة أن بيسموث ليس اسما وهميا بل يعود لمواطن فرنسي - إسرائيلي ينشط في تجارة العقارات. وعندما سمع الأخير أن اسمه استعير منه وأعطي لرئيس جمهورية سابق عبر عن صدمته خصوصا أن من قام بهذه العملية صديق قديم له (المحامي هيرتزوغ) ولذا، فإنه لم يستبعد التقدم بشكوى ضد منتحل هويته.

أيام سوداء يعيشها الرئيس السابق الذي لم يهضم أبدا هزيمته في الانتخابات الرئاسية السابقة عام 2012. ومنذ ترك قصر الإليزيه، فإن كل ما يقوم موجه نحو هدف وحيد هو غسل الهزيمة التي أنزلها به مرشح الحزب الاشتراكي والرئيس الحالي فرنسوا هولاند. لكن تحول بينه وبين تحقيق هذا الهدف عقبات وعقبات ليس أكثرها صعوبة كبح طموحات المنافسين في معسكر اليمين وأهمهم ثلاثة، رئيس وزرائه السابق فرنسوا فيون الذي شغل هذا المنصب طيلة سنوات ولايته (خمس سنوات) ورئيس حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية الحالي جان فرنسوا كوبيه وثالثهم رئيس الوزراء الأسبق آلان جوبيه الذي يطرح نفسه كـ«منقذ» للحزب المذكور ولليمين بشكل عام. لكن استطلاعات الرأي تفيد جميعها أن ساركوزي يبقى ولأشواط، المرشح المفضل عند الأكثرية الساحقة من أنصار اليمين وشعبيته الأقوى داخل حزب المعارضة الأول لأن مماحكات الآخرين وخلافاتهم الشخصية وغياب برنامج سياسي حقيقي يطرحونه على الناخبين تعزز حظوظ الرئيس السابق الذي يسخر إطلالاته السياسية وجولات زوجته الفنية للبقاء في أذهان الفرنسيين.

بيد أن المشكلة الحقيقية لساركوزي تتمثل في هذا الكم من الفضائح التي يرتبط به اسمه من قريب أو من بعيد والتي سيكون عليه التخلص منها لاكتساب «عذرية» جديدة إذا أراد حقيقة بلوغ هدفه السياسي الأسمى.

ولا يمر أسبوع إلا ويعود اسمه إلى الواجهة من زاوية الفضائح التي حفل بها عهده والتي حماه منها الدستور خلال سنوات حكمه بفضل الحصانة التي وفرها له خلال خمس سنوات.

حتى الآن، لم يمثل ساركوزي أمام أي محكمة ولم توجه له أبدا تهم رسمية. لكن هناك ظنون ومؤشرات لضلوعه في الكثير من الفضائح التي ينظر بها جيش من المحققين كما أن الكثير من المقربين منه ومنهم محاميه خضعت منازلهم ومكاتبهم لعمليات تفتيش قامت بها الشرطة القضائية بحثا عن أدلة وقرائن إن بصدد فضائح ترتبط بساركوزي أو تخصهم شخصيا. والانطباع الذي يخرج به المتتبع تدفعه لتكوين صورة بالغة السوء عن الممارسات السياسية وغير السياسية التي سادت في عهد ساركوزي. لكن الأخير وأنصاره يردون بالقول إن ما يحصل للرئيس السابق ليس سوى نتيجة لرغبة العهد الاشتراكي في «إغراقه» بهدف التخلص منه كونه الخصم السياسي الأخطر. وبكلام آخر، فإن ساركوزي واقع، من جهة، «ضحية مؤامرة سياسية» ومن جهة أخرى مسخر لحرف أنظار الفرنسيين عن الفشل الذي منيت به سياسة الحكومة في مواجهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها فرنسا وعلى رأسها البطالة وتراجع القدرة الشرائية.. وبسبب تراكم أخبار الفضائح، بدأت شعبية ساركوزي في التراجع وفق ما بين استطلاع للرأي العام نشرت نتائجه الأحد الماضي وفيه أنه خسر في شهر واحد 5 نقاط لتتراجع شعبيته إلى حدود الـ45 في المائة. لكنها تبقى متفوقة على شعبية هولاند (23 في المائة).

* الربيع الأسود قبل أيام تسربت معلومات تفيد أن هاتف ساركوزي الشخصي موضوع قيد المراقبة منذ شهر سبتمبر (أيلول) من العام الماضي. والسبب يعود لرغبة قضاة التحقيق بالتأكد من إشاعات تفيد أن ساركوزي استفاد إبان حملته الانتخابية لعام 2007 من تمويل ليبي أغدقه عليه العقيد معمر القذافي. الخبر ليس جديدا فقد تحدث عنه سيف الإسلام في الأيام الأولى من التدخل العسكري الدولي كما أن رجل الأعمال اللبناني زياد تقي الدين الملاحق في مجموعة قضايا في باريس أشار إليه أيضا في أكثر من مناسبة. وكانت الصحيفة الإلكترونية المعروفة «ميديابارت» نشرت في 2012 صورة لوثيقة تفيد أن نظام القذافي أنعم على حملة ساركوزي بخمسين مليون دولار. وبما أن قضاة التحقيق لم يعثروا على دلائل مادية تثبت هذا الأمر فقد قرروا التنصت على هاتف ساركوزي وأربعة من كبار معاونيه السابقين «بينهم وزيران للداخلية باتريس هورتفو وكلود غيان في عهده» ومحاميه تييري هيرتزوغ. والصدفة قادت الشرطة للظن بأن الرجلين يستخدمان هاتفين جوالين أحدهما باسم «بول بيسموث» المذكور سابقا والذي اشتراه هيرتزوغ مع جوال آخر له بالاسم المستعار.

بعد أيام يحل الربيع. لكن ربيع ساركوزي هذا العام سيكون ملبدا بالغيوم الداكنة التي تزيد من قتامتها روائح الفضائح التي لم ينجح حتى الآن في وقف تدفقها.

يعرف الكثيرون أن الفضائح كـ«صندوق الفرجة»: عندما يفتح يصعب إغلاقه ويأتي بما لم يكن في الحسبان. وما حصل مع ساركوزي قريب من هذه الصورة إذ إن رجال الشرطة أصحاب «الآذان الطويلة» لاحظوا خلال تنصتهم أن هيرتزوغ يشير في محادثاته «الخاصة» مع ساركوزي إلى رجل مهم يسميه «جيب». والحال أن الشرطة تعرف أن «جيب» هو تصغير اسم القاضي جيلبير أزيبير الذي يشغل وظيفة في الغرفة المدنية لمحكمة التمييز. ويفهم من محادثات ساركوزي - هيرتزوغ أن «جيب» يفصح عن معلومات سرية تخص تقدم التحقيق في فضيحة استغلال ثرية فرنسا الأولى ليليان بتانكور التي ورد فيها اسم ساركوزي والمتهم بشأنها المدير المالي لحملته الانتخابية في عام 2007 الوزير السابق أريك فيرت. ويفهم رجال الشرطة من محادثات ساركوزي - هيرتزوغ أن أزيبرت طلب «خدمة» من المحامي مقابل المعلومات التي ينقلها إليه والمخالفة للقانون وهي أن يستخدم ساركوزي علاقاته لتسهيل حصول أزيبرت على منصب مهم في إمارة موناكو. وهذا يسمى في القانون الفرنسي «إفسادا وفسادا» و«سوء استخدام النفوذ». وبعد أن شاع اسم أزيبرت في الصحافة، وردت معلومات تؤكد أن الأخير حاول الانتحار الأمر الذي نفاه ابنه الذي أكد أن والده سقط على درج منزله.

* برنار تابي وسر الأجندة عندما كان المحققون القضائيون يستجوبون الرئيس ساركوزي قبل أشهر في موضوع ليليان بتنكور، صادروا اثنتين من مفكراته للتأكد من مواعيده وما إذا كان صحيحا حصوله على أموال من المرأة العجوز أثناء زياراته الليلية لمنزلها. وعلى الرغم من تخلي القضاء عن توجيه اتهامات رسمية له لافتقاده الدليل المادي، فإن القضاء احتفظ بالمفكرتين لاعتباره أنهما مفيدتان للكشف عن الحقيقة في قضايا أخرى وأهمها قضية رجل الأعمال برنار تابي.

قصة تابي أكثر تعقيدا من القصص الأخرى. فالرجل رجل أعمال هوى السياسة وانتخب نائبا وعين وزيرا في عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران. وكان «وما زال» يهوى الرياضة وتحديدا كرة القدم إذ تملك نادي أولمبيك في مدينة مرسيليا وذاق السجن بسبب عمليات احتيال وامتهن التمثيل وصودر منزله ولوحاته وأثاثه.. وعلى الرغم من كل ذلك بقي واقفا على قدميه. وقبيل الانتخابات الرئاسية في عام 2007، دعا تابي لانتخاب ساركوزي الذي وصفه وقتها بأنه «رجل المرحلة». وبينت استقصاءات المحققين أن تابي ارتبط بعلاقة وثيقة مع ساركوزي عندما كان الأخير وزيرا للداخلية وواظب عليها بعد وصول ساركوزي إلى قصر الإليزيه بل إنه زار الرئيس كما هو مدون في مفكرتيه عشرات المرات. والسؤال: لماذا؟ هل الصداقة وحدها هي السبب؟

قضية تابي قديمة ومعقدة وتعود لتسعينات القرن الماضي عندما كان تابي يمتلك شركة «أديداس» المتخصصة بالقطاع الرياضي. والحال أن تابي اضطر لبيع شركته إيفاء لديون مستحقة عليه لصالح بنك كريدي ليونيه. واندلع النزاع عندما اعتبر تابي أنه تعرض لعملية نصب من قبل البنك المذكور الذي كان وقتها ملكا للدولة الفرنسية. من هنا بداية النزاع الذي عرف محطات ومطبات ونزاعات قانونية أمام المحاكم حتى وصول ساركوزي إلى الرئاسة. وكم كانت مفاجأة الفرنسيين كبيرة عندما علموا أن محكمة تحكيمية تم تعيينها بالتوافق بين الفريقين «الدولة وتابي» قد حكمت للأول بتعويضات تصل إلى 403 ملايين يورو بينها تعويضات «معنوية» بقيمة 45 مليون يورو.

وحامت الظنون حول تدخل القصر الرئاسي الأمر الذي يفسر المواعيد الكثيرة التي لحظها القضاة المحققون على مفكرتي ساركوزي لعامي 2007 و2008. وحول الدور الذي لعبته وزيرة الاقتصاد وقتها كريستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي الحالية ومستشار ساركوزي للشؤون الاقتصادية والاجتماعية فرنسوا بيرول (كلاهما في مرمى القضاء).

وإذا كان القضاء لا يستطيع محاكمة ساركوزي بسبب الحصانة التي يتمتع بها خلال قيامه بمهامه الرئاسية، فإن لاغارد وبيرول يمكن محاكمتهما. وعلى أي حال، فإن الأخير ورد اسمه في فضيحة أخرى ملاحق فيها كما أن تابي ومحاميه وأحد قضاة المحكمة التحكيمية ملاحقون أيضا بتهمة الغش فيما الدولة قدمت دعوى رسمية على تابي لاستعادة الأموال التي تظن أنه حصل عليها من غير وجه حق. أما فيما خص ساركوزي، فإن القضاء يريد أن يعرف ما إذا كان الإليزيه قد مارس ضغوطا لترك القضاء العادي وتفضيل القضاء التحكيمي من جهة ومارس ضغوطا لتمكين تابي من الحصول على هذا المبلغ الهائل على حساب الدولة ودافعي الضرائب.

ما تقدم غيض من فيض من الفضائح التي يرتبط بها اسم الرئيس السابق الذي لم يصدر في أي منها حكم بحقه. لكن الشبهات كثيرة والتحقيقات التي يرد فيها اسمه كثيرة ومنها على سبيل المثال العمولات والرشاوى التي يظن أنها مولت حملة رئيس الوزراء الأسبق إدوار بالادور والمتأتية عن صفقة الغواصات الفرنسية إلى باكستان ومبيعات سلاح أخرى إلى منطقة الخليج. وعلاقة ساركوزي بها أنه كان وقتها وزيرا للمالية في حكومة بالادور وأن توقيعه موجود على وثائق حسابات في الخارج.

وقبل أيام، ضجت فرنسا بنبأ قيام باتريك بويسون، أحد أكثر مستشاري ساركوزي نفوذا، بتسجيل ما دار في اجتماعات الإليزيه خلسة ورغما عن أنف الرئيس السابق. و«استمتع» الكثير من الفرنسيين بالاستماع لما كان يدور داخل المكتب الرئاسي بما في ذلك ما كان يتداوله الرئيس السابق مع زوجته. ويعتقد كثيرون بمن فيهم داخل الحزب الرئاسي أن باتريك بويسون كان مسؤولا إلى حد ما عن هزيمة ساركوزي بسبب دفعه لتبني مواقف يمينية متشددة في مواضيع الهجرة والإسلام والهوية الوطنية.

وفي الفترة عينها، نشرت مجلة «لو بوان» تحقيقا موثقا تثبت فيه أن جان فرنسوا كوبيه، رئيس حزب ساركوزي، عمد إلى «تنفيع» مجموعة من أصدقائه من خلال تلزيمهم تنظيم مهرجانات الرئيس المرشح لحملة عام 2012 وأن إجمالي ما حصلوا عليه يصل إلى 8 ملايين يورو. هكذا تتعقد الأمور بوجه ساركوزي. أراد أن يظهر بصفة «الرجل المنقذ» لكن الفضائح التي يجرها وراءه قد تنسف صورته وتقطع عليه الطريق. ولا شك أن المستفيد الأول من مسلسل الفضائح هو الرئيس هولاند والاشتراكيون واليسار بشكل عام. لكن هؤلاء أقل مهارة من اليمين بل إن الأخطاء التي ارتكبوها في إدارة فضائح المعسكر الآخر انقلبت ضدهم. لذا، فالأنظار تتجه إلى الانتخابات البلدية يوم الأحد المقبل لمعرفة ميزان القوى السياسية في فرنسا اليوم.