من التاريخ: قيصر النصف مارس

TT

تقول رواية شكسبير الشهيرة إن العرافة صرخت بكل قوتها: «احذر نصف مارس.. احذر نصف مارس»، ومنذ 1058 عاما وأربعة أيام بالتمام والكمال تحققت نبوءة العرافة، ففي هذا اليوم دخل القائد الروماني العظيم يوليوس قيصر إلى مجلس الشيوخ في أولى جلساته ليجلس على كرسيه المخصص له بكل الأبهة والعظمة، فاقترب منه أحد المتآمرين والتصق به، ثم أمسك يديه، فإذا بعصابة من أعضاء المجلس مكونة من بعض نبلاء روما يتدخلون فيطعنونه فيموت، جزاء له، من وجهة نظرهم، لأنه أراد أن يكون حاكما مطلقا، غير مدركين أن شعب روما كان له رأي مختلف.

لقد ولد جايس يوليوس قيصر عام 100 قبل الميلاد لأسرة من النبلاء، ولكنها لم تكن ميسورة الحال، وقد تزوج الشاب يوليوس من امرأة جميلة أنجبت له ابنته الوحيدة جوليا وكان ذلك في عصر الديكتاتور سولا الذي استولى على الحكم في البلاد كاسرا مفاهيم عهد الجمهورية التي رفضت فكرة تجمع السلطة المطلقة في يد شخص واحد، وعندما أصر سولا على تطليق يوليوس لزوجته رفض الرجل وهرب من غضب الديكتاتور، ولكن توسط بعض النبلاء جاء بالعفو عنه ليبدأ تاريخه العسكري منضما لأحد الفيالق الرومانية وهو في مطلع العشرينات من عمره، ويقال إنه أبلى بلاء حسنا للغاية في ذلك الوقت، ولكنه ترك العسكرية بعدما أدى واجبه وتعلم فنون القتال، وهو ما كفل له خبرة واسعة احتاجها في السنوات التالية ومعها بعض الاحترام في طبقته الاجتماعية، فاشتغل بعد ذلك في السياسة ثم المحاماة، ولكن هذا لم يكن ما ترنو له نفسه.

استطاعت اتصالات الشاب يوليوس أن تمنحه عضوية في مجلس الشيوخ وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، وقد بدأ يلفت الأنظار إليه، ولكن أحدا لم يقلق من وجوده السياسي لأنه لم يكن من أسرة ميسورة قد تُخدِّم على أطماعه، وبالتالي لم يمثل خطرا على أحد، وقد عُهد له بعد ذلك بمسؤولية تنظيم الاحتفاليات في روما، ومن بينها مصارعة العبيد حتى الموت. وتشير المصادر التاريخية إلى أن يوليوس استدان من صديقه الأوليغاركي كراسوس الذي رأي في قدراته وسيلة يمكن توظيفها من أجل مصالحه الشخصية، وهي العلاقة التي كان لها أكبر الأثر في الزج بيوليوس في دهاليز السياسة الرومانية وألاعيبها، وقد ضمنت له قدراته وخطبه مكانة خاصة عند الرومان، فدفعته شهيته السياسية لأكثر من ذلك، فتطلع لمنصب كبير الكهنة Pontifax Maximus، وهو منصب كبير يمنح أصحابه الحصانة السياسية والمالية، كما أنه كان وسيلة مهمة لتحصيل الثروات والترقي السياسي والاجتماعي، وقد حصل الرجل على المنصب بحكم اتصالاته وحب الناس والتحالف المهم بينه وبين كراسوس وشخصية أخرى مهمة هي بومبي.. تلك الشخصية الطموحة التي كان تحت يديها كثير من الجنود، وكان طموحها السياسي بلا حدود، ثم بعد ذلك سعى يوليوس لمنصب القنصل، وفاز به، مما منحه صيتا كبيرا وضاحية كبيرة في بلاد الغال أو فرنسا حاليا، وعندما انتهت فترة القنصلية، تم تعيينه مباشرة قائدا عاما لفيالق روما في الغال.

لقد كانت قيادته القوات الرومانية رمزا للعبقرية السياسية والعسكرية على حد سواء، فلقد حول الوضع العسكري الميئوس منه إلى نجاح مبهر، وكان صاحب فكرة حفر خندق حول دفاعاته لتحصينها أمام توحد قبائل فرنسا ضده، فأخذ جنوده من نصر إلى نصر لما يقرب من تسع سنوات وسَّع خلالها رقعة الإمبراطورية بقرابة الثلث بما في ذلك إنجلترا، وقد جعلت هذه الإنجازات منه رمزا لروما، والأهم لجنوده الذين باتوا يحاربون له من شدة الولاء، فلقد كان متباسطا معهم، يضع مصالحهم نصب عينيه، وبالتالي عندما بدأ مجلس الشيوخ يخشى من نوايا يوليوس وتجمع أعدائه من أمثال كاتو، تم استدعاؤه إلى روما وعزله عن جيوش الغال، وهي مصدر قوته. ولكن هذا السياسي المغامر رفض الامتثال لقرارات المجلس وزحف بقواته إلى القرب من الحدود الرومانية دون أن يدخلها حتى لا يؤخذ ذلك على أنه إشارة إلى رغبته في الاستيلاء على الحكم.

واقع الأمر أن روما كانت في مرحلة اضطراب سياسي واضح، فعلى الرغم من أنها كانت قد تخلصت من الحكم الأوتوقراطي، على الأقل من الناحية النظرية منذ عهد الجمهورية، فإن عصر الجمهوريات كان مليئا بمحاولات البعض للحصول على الحكم المطلق، وكان بومبي أحد هؤلاء، وعلى حد سواء مع يوليوس قيصر ومن قبلهما سولا وغيره. وبدأت روما تدخل في حرب أهلية انتهت، كما كان متوقعا، بتفوق عسكري ليوليوس قيصر وهزيمة ساحقة لبومبي، فعاد بقوته إلى روما ليضع حدا لحالة الفوضى المتفشية في البلاد ويلم شملها. وقد دخل يوليوس روما دخول الأبطال، فقد كان رمزا للوطنية والمحبة بين الشعب الروماني، كما كان رمزا للعسكرية والسياسة والكلمة المفوهة وكل القيم التي تمثلها روما، فتم تعيينه من قبل مجلس الشيوخ «ديكتاتورا».

حقيقة الأمر أن يوليوس قيصر تميز برؤية ثاقبة للغاية، وهي أنه سعى لعدم خلق العداءات لنفسه، فكان صدره رحبا حتى مع أعدائه، فعندما هُزم بومبي، لم يلجأ لأعمال الاقتتال والعنف مع خصومه، بل ضمهم إليه وقربهم منه، وهو ما كفل له صفة لازمته لدى الرأي العام؛ فهو القائد القوى والعنيف والرحيم في آن، وقد زاد هذا من حب الجماهير له. ولعل من أبرز قدراته التي كفلت له في كل مناسبة التفوق على الغير، قدرته على الحديث ولسانه المفوه، فلقد كفل هذا حب الناس له بمجرد أن يتحدث، وقربهم له بمجرد أن يقترب منهم، حتى يقال إن النساء كانت تسعى إليه لأنه كان رجل قوة ولين في آن.. إنها الشخصيات الكاريزمية التي هي هدية المولى عز وجل.

لعل أخطر ما في يوليوس قيصر كان طموحه الممتد، فلقد وصل الرجل إلى أعلى المناصب في روما وأصبح القائد الروماني المهيب الذي تهتز له القلوب وترتجف له الأبدان.. معادلة سياسية مرهفة يتمناها أي حاكم في ذلك الوقت، ولكن كل هذا لم يكن كافيا، فالرجل كان على دراية كاملة بأن المزاج العام في روما كان رافضا تمام الرفض لأي محاولة لتتويجه ملكا عليهم، فهذا المنصب تم لفظه منذ زمن بعيد. وتروى القصص التاريخية أن ماركوس أنطونيوس، الذي كان ذراعه اليمنى، سعى في إحدى المرات لوضع التاج على رأس يوليوس وهو أمام الجماهير، ولكن الأخير بحنكته أدرك أن الشعب غير مؤهل بعد لهذا، فأعاد التاج مرتين لماركوس، مؤكدا أنه لو خُير بين التاج وحب الشعب لاختار الأخير. وبالتالي، كانت هذه الخطوة أحد الأسباب الرئيسة لافتتان الرومان بهذه الشخصية العظيمة التي نهلت من كل منابع الحكمة والحنكة.

لقد أخاف هذا المشهد بعض الساسة المحافظين من الرومان، خاصة من كانوا في فريق عدوه المدحور بومبي من الذين شملهم عفو يوليوس قيصر؛ ومنهم بروتوس، على سبيل المثال، الذي كانت والدته عشيقة ليوليوس قيصر في فترة من الفترات، وكاتو الذي كان يناصبه العداء لما يمثله من حَيْد عن فكرة الجمهورية وقربا من فكرة الملكية أو الديكتاتورية. بالتالي أصبح استمرار هذا الرجل وفتنة الرومان به أمرا غير مقبول، وكان لا بد من وضع حد لهذا النجم الساطع من وجهة نظرهم.. كله في سبيل روما.. كله في سبيل النظام السياسي الذي يؤمنون به.. فما كان منهم إلا أن قرروا التخلص منه، فكان ذلك في منتصف مارس (آذار)، وهكذا التفوا حوله وقتلوه وطعنوه 23 طعنة تركته راكعا، ثم زاحفا، ثم ميتا. وقد كان المتآمرون يعتقدون أنهم يسدون لروما الصنيع السياسي الذي سيأتيهم بالتقدير، ولكن هذا لم يحدث، فلقد طاردتهم لعنات الرومان والجيوش الرومانية، ودفع الجميع ثمن جريمتهم الشنعاء بأرواحهم. وكما لو أن ذلك لم يكن كافيا، فلقد أدى ارتباط الرومان برجلهم العظيم وموته مثل هذه الميتة، إلى تعاطفهم معه بجعل ابن أخيه ووريثه أوكتافيوس إمبراطورا عليهم! إن قصة يوليوس قيصر تعد بكل المقاييس إحدى المعضلات السياسية، فهو رمز للديكتاتورية، ولكنها ديكتاتورية محببة مبنية على مهارة ومهنية وقيمة عسكرية وسياسية، والأهم من ذلك، كاريزما قلما توجد، فهو لم يغتصب الحكم في أي مرحلة من مراحل حياته حتى لو كان لجأ لأساليب ملتوية، ومع ذلك، فهو مثال واضح على أن أمزجة وأفئدة الشعوب قد تكون أكبر بكثير من المُثل العليا التي قد تعتنقها. وهنا يتبادر للأذهان سؤال مهم للغاية، فماذا كان سيحدث لو أن الله مد في عمر يوليوس قيصر ليصبح إمبراطور روما.. هل كان شعب روما سينقلب عليه مع الوقت؟ وإجابة هذا السؤال غير ممكنة لأنها تتعلق في النهاية بمزاج شعب وتقلباته التي لا يعلمها إلا الله سبحانه.

على كل الأحوال، فإن ذكرى «منتصف مارس» عبرة للجميع، خاصة لكل من يُقرِّب شخصا لا يستحق، فيبدو أن يوليوس قيصر لم يسمع بالمقولة العربية الشهيرة: «اتق شر من أحسنت إليه»، وهو ما يذكرنا بالقول المنسوب لعلي بن أبي طالب، كرم الله وجهه: «اللهم اكفني شر أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم»، ولكن أخطر شيء هو العدو الخفي، فلمثله لا توجد دفاعات.