إردوغان.. الخروج من ظل غولن

خياراته تتراوح بين البقاء في رئاسة الوزراء.. أو «التجربة الروسية»

TT

أما وقد انتهت الانتخابات المحلية التركية إلى فوز عريض لحزب العدالة والتنمية الحاكم، فقد بدأ الجميع بمراجعة مهمة لما أفرزته هذه النتائج، وفي طليعتهم إردوغان نفسه الذي سيكتب خلال الأسابيع المقبلة مساره الجديد الذي سيقوده على الأرجح إلى رئاسة البلاد، وهو طموح لم يخفه إردوغان، وإن كان لم يبح به صراحة بعد.

ولعل أهم العبر والنتائج التي خرجت بها الانتخابات التركية، هي أن إردوغان خرج من خلالها من ظل الداعية فتح الله غولن، الذي نسبت إليه نجاحات إردوغان الانتخابية طوال 12 سنة، منذ أن تبوأ حزب العدالة والتنمية السلطة عام 2002، إلى الانتخابات الأخيرة، التي كانت الوحيدة التي خاضها إردوغان من دون دعم الجماعة. فقد تبين أن حجم تأثير الجماعة لم يكن بالحجم الذي تم تصويره، إذ يحسب لها في أقصى الحالات أنها ساهمت في إنزال حجم التأييد العام لإردوغان من 50 في المائة (وفق الانتخابات النيابية الأخيرة) إلى نحو 46 في المائة. وهو رقم قابل للجدل، باعتبار أن الانتخابات المحلية تخضع في بعض تفاصيلها لمعايير غير سياسية، مع أن التجييش الذي مارسه إردوغان كان كفيلا بردم تلك الهوة، بإظهاره أمام أنصاره أن هذه الانتخابات، هي انتخابات تحدد مصيره الشخصي، وصولا إلى مجازفته بإعلانه أنه سينسحب من الحياة السياسية إذا ما هزم فيها.

كان إردوغان، رفض خلال المؤتمر العام الأخير لحزب العدالة تعديل النظام الداخلي، بما يسمح له بتولي رئاسة الحكومة فترة رابعة. ذلك النظام الداخلي الذي لا يسمح لأعضاء الحزب بالترشح للفترة الرابعة سواء في الانتخابات البرلمانية أو المحلية. وهذا لا ينطبق على إردوغان وحده، فهناك 73 نائبا من نواب حزب العدالة والتنمية لا يمكنهم الترشح للانتخابات النيابية المقبلة، ما يعني أن الحزب سيكون أمام تحدي إعادة تجديد دمه، من خلال اختيار شخصيات جديدة، كما سيكون عليه اختيار قيادات جديدة للحزب.

فرحيل إردوغان عن الحزب، وهو رحيل إجباري عندما ينتخب رئيسا للجمهورية، سيترك الحزب من دون زعامات، لأن الرئيس عبد الله غل ترك الحزب بدوره قبل انتخابه، كما أن عددا آخر من قيادات الحزب البارزة قد خدمت لثلاث فترات، ولا يحق لها فترة رابعة، ومن بين هؤلاء نائب رئيس الوزراء والناطق باسم الحكومة بولنت أرينتش وغيرهم من أقطاب الحزب الحاكم.

يقول الكاتب التركي إسماعيل ياشا إن «هذه الوقائع دفعت في وقت سابق إردوغان إلى دعوة بعض الزعماء السياسيين الذين لا تختلف آراؤهم ومواقفهم كثيرا عن الخط السياسي لحزب العدالة والتنمية - كرئيس حزب صوت الشعب نعمان كرتولموش والرئيس السابق للحزب الديمقراطي سليمان سويلو - للانضمام إلى حزب العدالة والتنمية لسد الفراغ، واستجاب كلاهما لدعوة إردوغان فالتحق سويلو بالحزب كما انضم كورتولموش وعدد من قادة حزبه إلى حزب العدالة والتنمية بعد إلغاء حزب صوت الشعب نفسه».

وإذ تضاءل نفوذ الرئيس غل في الحزب بعد توليه رئاسة الجمهورية، فإنه من غير الواضح ما هو قرار غل، الذي تمنع بدوره عن الكلام عن مستقبله السياسي بعد نهاية ولايته. وهناك من يقول إن غل لا يريد أن يدخل في مواجهة مع إردوغان من خلال إعلانه إعادة ترشيحه، رغم أن بعض من في الشارع يرى أن غل أكثر شعبية لدى الناس. ويقول رئيس تحرير صحيفة تركية بارزة لـ«الشرق الأوسط» إن «أي انتخابات سوف تجري بين غل وإردوغان سيكون الفوز فيها من نصيب غل»، مبررا ذلك بالقول إن الأخير «يبتسم» في إشارة إلى شخصية غل الأكثر قابلية للحوار مقارنة بإردوغان المعروف بحدة مواقفه.

لكن غل، الذي أظهر بعض إشارات التمرد على إردوغان مؤخرا، في حديثه عن ضرورة عدم حجب وسائل التواصل الاجتماعي، بينما كان إردوغان يسعى بكل قوته لحجبها، لا يبدو أنه راغب بخوض مواجهة مع رفيق دربه وشريكه في تأسيس الحزب الحاكم. وهناك من يقول إن غل سوف يتحول إلى رئيس حكومة في ظل رئاسة إردوغان على غرار التجربة الروسية. غير أن هذا السيناريو يقف في وجهه عائق مهم، وهو أن غل ليس نائبا، وبالتالي لا يمكنه ترؤس الحكومة بناء على الدستور التركي. غير أن هذا السيناريو يمكن أن يتم تأمينه باستقالة أحد نواب العدالة في مركز مضمون، يترشح لشغله غل في الانتخابات الفرعية ويتحول إلى نائب.

أما في حال استبعاد هذا الخيار، فسيكون هناك دائما الخطة «ب» وهي وزير الخارجية أحمد داود أوغلو الذي يعتبر من أكثر المقربين من إردوغان وأكثر قابلية لشغل دور الرجل الثاني مقارنة بغل الذي لا يمكنه سوى لعب دور الشريك.

غير أن مصدرا قريبا من إردوغان، استبعد خيار داود أوغلو من دون أن يسقطه. ويقول المصدر لـ«الشرق الأوسط» إن «القرار ليس في أي مكان سوى في رأس الرئيس إردوغان، وهو لم يفرج عن قراره بعد». ويشير المصدر إلى أن هناك انقساما واضحا في صفوف الفريق المحيط بإردوغان، بين من يقول بضرورة ترشح إردوغان إلى رئاسة البلاد، ومن ثم يقوم بتعديل الدستور لتحويل النظام إلى نظام رئاسي سواء بانتظار الانتخابات النيابية المقبلة حيث يمكن أن يحصل الحزب على المقاعد الكافية له لتعديل الدستور (ثلثا المقاعد) أو عبر الحصول على الأكثرية اللازمة لطرحه على الاستفتاء المباشر من الشعب. ويقول المصدر إن القرار النهائي سوف يتخذه إردوغان، وهو لم يظهر حتى الساعة أي ميل حقيقي باتجاه أحد الخيارين.

وعما إذا كان إردوغان سيترشح لرئاسة البلاد وفقا لنتائج هذه الانتخابات، قال النائب عن حزب العدالة والتنمية برهان كايا ترك: «رئيس الوزراء لم يعلن بعد هذه النية وهو إذا أراد أن يترشح من الأكيد أنه سيتشاور مع أعضاء حزبه وسيأخذ بعين الاعتبار رأي الشارع التركي، ولا أعتقد أن برنامج إردوغان تغير فإن كانت له النية للترشح فسيترشح ولكن كما قلت يقوم دائما باستشارة الحزب».

ويقول الكاتب والمحلل السياسي التركي مصطفى أوزجان «بالنسبة لرئاسة الجمهورية لم يتضح بعد اتجاه رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان وبأي منحى ينحو، لم يتضح لأن هناك نقاطا غير واضحة، طبعا بعد أن يترك رئاسة الوزراء وينتقل إلى تشانكايا أي رئاسة الجمهورية، سوف تكون هناك نقاشات داخل الحزب، وعبد الله غل قد يريد أن يكون رئيسا للجمهورية للمرة الثانية. لذلك هناك تركيز على بقاء رجب طيب إردوغان على كرسي رئاسة الوزراء وليس في رئاسة الجمهورية».

ويرد أوزجان السبب أن إردوغان «لديه زعامة وكاريزما كبيرة، فلو كان مكانه رجل آخر ربما لا يمكن أن يستطيع أن الحزم والحسم إذا احتاج لذلك، فأعتقد أن حزب العدالة والتنمية قد يتمنى أن يبقى ولاية أخرى في رئاسة الوزراء. وأيضا لديه طموح في أن يدير البلاد من رئاسة الجمهورية، وكانت لديه بعض الخطط، ولكن أجواء تركيا لم تسمح له. مثلا كان يريد أن يكون هناك دستور جديد وأن يكون هناك نظام رئاسي لكن هاتين القضيتين لم تتحققا. ربما لن يترشح لرئاسة الجمهورية لأن هذا ربما لا يترجم طموحه الشخصي، لذلك ربما هو محتار بين تولي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. أعتقد أن المحيطين به يتمنون أكثر منه أن يكون رئيسا للوزراء من جديد».

ويرى أوزجان أن النتائج كانت منتظرة، وهناك شركات استطلاع الرأي أعدت هذه النتائج مسبقا. ويشير إلى أن الإعلام الخارجي ظن أن حزب العدالة والتنمية سيخسر الانتخابات المحلية البلدية، ولكن بالعكس تحقق انتصار كبير في سجلات حزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات. ويبرر أوزجان هذا بأنه ليس هناك بديل، فحزب العدالة والتنمية هو حزب محافظ والشعب التركي بأغلبه محافظ أيضا، فمثلا في المناطق الساحلية اكتسب حزب الشعب الجمهوري البلديات المهمة وذلك لأن السواحل التركية وخصوصا منطقة إيجه تميل إلى غير المحافظين.

فحزب العدالة والتنمية أصبح اليوم حزبا رئيسا، والتسريبات بالنسبة لقضايا الفساد وغيرها لم تؤد إلى تقلص الأصوات المؤيدة لحزب العدالة والتنمية لأن البديل أكثر سوءا إذا تمت مقارنته مع حزب العدالة والتنمية، وهذه الأسباب جعلت حزب العدالة والتنمية ينتصر مرة أخرى.

غير أن هذا الإنجاز الذي تحقق لإردوغان، جراء الفوز الكبير، لا بد من أن يستثمر سياسيا من قبله. ويقول المصدر المقرب منه إن «الحجم الكبير للأصوات يمكن إردوغان من فعل أي شيء، فهو أصبح الرجل الأكثر قدرة في البلاد، وهذا أمر لا يمكن الجدال فيه». وكان مستشار إردوغان، طه كينتش، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن إردوغان سوف يترشح حتما للانتخابات الرئاسية أيا كانت النتائج التي سوف تتمخض عنها الانتخابات. مشيرا إلى أن إردوغان سوف يترشح للانتخابات سواء تم تعديل الدستور أو لم يتم تعديله.

ويرى الكاتب والمحلل السياسي التركي إسلام أوزجان المعروف بمواقفه المعارضة لإردوغان أن هذه الانتخابات أكدت على فوز ساحق لحزب العدالة والتنمية وإردوغان وهذا شيء حقيقي. ويقول إن «الشعب التركي أبدى دعمه لهذا الحزب، وعلى المعارضين أن يفتشوا عن أسباب هذا النجاح». ويشير إلى أن نجاحا لحزب العدالة والتنمية يعود إلى عمله الجدي، وعلى ما أعتقد أن هناك نجاحا لإردوغان في التواصل مع الشعب التركي ويعي بشكل جيد جدا كيف يتعامل ويخطب الشعب التركي، لذلك هذا النجاح في الاتصال مع الشعب أدى إلى النجاح السياسي. وهناك أسباب أخرى منها العامل الاقتصادي وهو عمل مهم جدا بالنسبة لهذا النجاح لأن الشعب التركي صوت في هذه الانتخابات المحلية لصالح الاستقرار السياسي والاقتصادي لتركيا لأن فشل حزب العدالة والتنمية قد يتحول بعد الانتخابات إلى أزمة اقتصادية وسياسية، لذلك رغم كل الانتقادات والمعارضة، والأخطاء التي ارتكبها حزب العدالة والتنمية منذ سنوات إلا أن الشعب التركي رأى هذه الحقيقة وصوت إلى صالح الاستقرار السياسي والاقتصادي.

ولماذا فشلت المعارضة رغم تحالف حزب الشعب الجمهوري والقوميين وجماعة فتح الله غولن؟ يجيب: «هناك أسباب كثيرة، من أسباب هذا الفشل هو أنهم لم يقدموا بديلا فيما يتعلق بالمشاريع والخدمات الاجتماعية لهذه الانتخابات المحلية، نعم صحيح أن هذه الانتخابات محلية لكن (التسجيلات الصوتية) حولتها إلى استفتاء شعبي يقرر مصير البلد ومصير المجتمع التركي لكن هذا الشيء خاطئ. فلو قدموا بديلا، أو طرحوا بدائل بشأن الخدمات والمشاريع في المدن، لكن بإمكانهم أن يحققوا نجاحا في هذا المجال. مشيرا أيضا إلى أنه إذا نظرنا إلى إنجازات رؤساء البلدية التابعة لأحزاب المعارضة نرى أنه لا يوجد إنجازات كبيرة جدا إلا في بعض المدن. من الطبيعي أن يكون هناك استثناءات ولكن بشكل عام حتى في مدينة أزمير الأهالي وسكان المدينة لم يصوتوا لرئيس البلدية عزيز كوجه أوغلو التابع للمعارضة بسبب نجاحه وإنجازاته بالخدمات والمشاريع الاجتماعية، بل صوتوا لأسباب سياسية وآيديولوجية، فمعظم سكان أزمير يدافعون عن آيديولوجية الكمالية الأتاتوركية وهم ضد الفكرة الإسلامية وضد فكرة التدين.

أما عن قول إردوغان إنه سيستأصل من تآمر على الحكومة، فيقول مصطفى أوزجان: «المقصود جماعة غولن. لأن أحزاب المعارضة لا يستطيع أن يستأصلها، فهناك نظام ديمقراطي في تركيا، والمعارضة لا يمكن استئصالها لأن لديه قواعد، أما بالنسبة لجماعة غولن، فهم خارج اللعبة، هم انتهكوا قواعد اللعبة».. أما في الملف الكردي، فيرى أنه لا يعتقد بإمكانية القيام بإنجازات فيه. ويقول: «الملف الكردي صعب جدا، وهو يحتاج وقتا إضافيا لحل هذه القضية، ولكن رجب طيب إردوغان مصمم على تجاوز العقبات، لكن العملية صعبة وتحتاج إلى وقت إضافي».

أما إسلام أوزجان، فيرى أن التهديدات التي أطلقها إردوغان تتعلق برؤساء وزعماء هذه الجماعة. وقال: «بشكل عام حتى إن كان هناك تعليقات على هذه القضية جاء من رئيس حزب السلام الديمقراطي الذي قال إنهم لا يؤيدون الثأر والانتقام من جماعة غولن بشكل عام، حتى من المنتمين لهذه الحركة، هذا شيء خاطئ، لكن الذين ارتكبوا الجرائم وبادروا فيها والذين تنصتوا على أسرار الدولة، والذين تسللوا وتغلغلوا في عمق الدولة، هم الذين يجب عليهم أن يعاقبوا وليس المنتمين للجماعة».

وأشار إلى أن إردوغان لن يكون قادرا على التدخل في مدارس الجماعة لأنه سيكون هناك ردة فعل من المجتمع التركي. وقال: «الاحتكام لصناديق الاقتراع يكون في الشؤون السياسية ولكن بالنسبة للأمور القانونية فالاحتكام لا يكون إلا القضاء، لذلك إذا ارتكب إردوغان هذا الخطأ وإذا كان يريد أن يقضي على كل المنتمين إلى الجماعة فإن إردوغان سيدفع الثمن. هناك حدود لبعض الأفعال غير القانونية، قد ترتكب بعض الأخطاء من الناحية السياسية والقانونية مرة أو مرتين ولكن إذا استمرت في هذا الطريق بشكل دائم فهذا يؤدي إلى مشكلات كبيرة جدا في المجتمع التركي وفي الشؤون السياسية أيضا».

* القلاع بقيت مع أصحابها...

* إسطنبول: «الشرق الأوسط» استطاع حزب العدالة والتنمية أن يحسم الانتخابات بفوزه بـ17 بلدية كبرى من أصل 30 بلدية، بينها العاصمة أنقرة وأكبر مدن تركيا، وأهمها إسطنبول التي تمتلك رمزية مهمة بالنسبة لإردوغان؛ لأنه كان رئيسا لها قبل انتخابه نائبا وتسلمه رئاسة الوزراء.

وهناك بالعرف التركي مجموعة من البلديات التي تسمى «القلاع»، وقد حافظ كل حزب على قلعته؛ ففاز حزب العدالة ببلدية إسطنبول، أما أنقرة فكادت أن تفلت منه بعد أن وصلت الأمور إلى حد حساس جدا بالنسبة للطرفين، فأعلن حزب الشعب الجمهوري فوزه بها، قبل أن يجري إعلان فوز العدالة والتنمية، فيما يتجه حزب الشعب الجمهوري إلى تقديم طعن بهذه الانتخابات، متحدثا عن شكاوى من شبهات تزوير وانقطاع التيار الكهربائي عن بعض مراكز الفرز والاقتراع. أما بلدية أزمير، ففاز بها حزب الشعب الجمهوري على اعتبار أن مناطق بحر مرمرة، والسوحلموما، هي مناطق تميل أكثر للعلمانيين منها للمتدينين، فيما يتركز ثقل المحافظين في الأرياف، وفي عمق الأناضول تحديدا.

وفي المحصلة غير الرسمية، فاز حزب العدالة والتنمية بـ17 بلدية مدن كبرى، كما فاز في المجموع بـ48 محافظة، فيما فاز حزب الشعب الجمهوري المعارض بسبع بلديات كبرى ومجموع 15 محافظة، وفاز القوميون بثلاث بلديات كبرى وثماني محافظات، أما الأكراد ففازوا بثلاث بلديات كبرى وعشر محافظات.