من التاريخ: رجل الدولة الأيوبي

TT

لقد كان من الصعب أن يُحسم أمر الحروب الصليبية دون مشاركة مصرية فعالة، فمصر كانت المسرح الثاني لهذه الحملات، وفي اللاحق القريب أصبحت المسرح الأول، فأخذت على عاتقها عبء الدفاع عن الأمة الإسلامية، وهو أمر طبيعي؛ إذ إن مملكة نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي على الرغم من قوتها، فإنها كانت تفتقر إلى الاستمرارية والتجانس الجغرافي والسياسي النسبي، فقد كانت عبارة عن مدن متناثرة غير مرتبطة بفكر موحد بالضرورة أو شعور بهوية مشتركة، فكانت دائما تعتمد على القائد في ذلك؛ فالدمشقي لا تربطه بالموصلي أو الحيفوي أو العكَّاوي إلا رابطة الحاكم الواحد، بل إن بعضهم آثر التحالف مع الصليبيين على الدخول في مملكة نور الدين محمود ووالده عماد الدين من قبله.

ولقد سعى الصليبيون إلى احتلال مصر في العديد من المرات، ولكن جهودهم كانت تفشل؛ تارة لصمود الشعب المصري، وتارة أخرى لأسباب تتعلق بموافقة الخليفة الفاطمي على دفع الجزية لهم. وعلى كل حال، بدأت أحوال الدولة المصرية تضطرب تدريجيا، وبات واضحا أن الخلافة الفاطمية على فراش الموت تحتضر بعدما صارت الأمور في أيدي وزرائها، وكان أشهرهم الوزيران شاور وضرغام، اللذان تنافسا على منصب رئيس وزراء مصر، وقد ملك الأول هذا المنصب وبدأ يكيد لضرغام، ولكن الأخير استطاع أن يحاصره بدعم من الصليبيين، ففر شاور إلى السلطان نور الدين محمود في الشام، مطالبا إياه بأن يرسل جيشا لمصر يسانده في منع وقوع هذه الدولة المهمة في براثن الفوضى، خاصة بعدما سعى ضرغام للتحالف مع الصليبيين لضمان منصبه. ويقال إن الخليفة الفاطمي أرسل رسالة للسلطان محمود تضمنت قصاصات من شعر بناته، وكتب عليها: «أدركني واستنقذ نسائي من أيدي الفرنج». وقد وافق الخليفة الفاطمي على شروط نور الدين محمود مقابل هذا الدعم، المتمثلة في دفع مصر ثلث خراجها، وتحملها تكلفة إرسال القوة العسكرية المطلوبة، وهو ما تم بالفعل. وقد أرسل نورُ الدين أسدَ الدين شيركوه وبصحبته ابن أخيه صلاح الدين، وأعيد منصب رئيس الوزراء لشاور بتفويض من الحاكم الشرعي الخليفة الفاطمي العاضد بعدما تخلص من رئيس الوزراء ضرغام ورمى جثته للكلاب بسبب خيانته.

ولم تكن مصر صيدا سهلا لنور الدين أو الملك عموري ملك بيت المقدس، فلقد دخل الاثنان في صراع مباشر على مصر، فخاضا خمس جولات من الصراع بينهما، وفي كل مرة يتفقان على الخروج من مصر بقواتهما وإعادة الدولة للخليفة العاضد ورئيس وزرائه ضرغام الذي أصبح المسيطر على الأوضاع في مصر، ولكن ميوله لصالح الصليبيين بدأت تظهر تدريجيا، فلقد كان يدرك أن الصليبيين ليست لهم شرعية ليحكموا مصر من خلالها، ولكن نور الدين يستطيع أن يمثل سلطة شرعية يقبلها المصريون، بالتالي، فهو أشد خطرا عليه من الصليبيين، فآثر اللعب لصالح الصليبيين على الانضمام لنور الدين. وما كان من الخليفة الفاطمي الشاب إلا الرضوخ لسياسة رئيس وزرائه، الذي فرض عليه التحالف مع الصليبيين، ولكن هذا التحالف لم يدم طويلا؛ حيث سعى الملك عموري، على غير رغبة ضرغام، لمحاولة الاستيلاء على مصر بحملة كبيرة دخلت إلى مدينة بلبيس واستباحتها بالكامل، فزاد عناد المصريين لمقاومة هؤلاء المحتلين، واضطر ضرغام لتغيير ولائه مؤقتا، فطلب دعم نور الدين محمود، فجاءت الحملة مرة أخرى على عجالة لتقف أمام سقوط مصر في أيدي الصليبيين، وهنا قرر ضرغام حرق مدينة الفسطاط من أجل منع الصليبيين من الاستيلاء عليها، وهي فعلة لم ينسها المصريون له رغم الضرورة الاستراتيجية لذلك من وجهة نظره، تماما مثلما لم ينسوا خيانته وتواطئه مع الصليبين. وقد انتهت الحملة الصليبية بانسحابها من مصر عام 1167، وقام صلاح الدين بقتل ضرغام بنفسه جزاء ما اقترفت يداه، وقام الخليفة المغلوب على أمره بتعيين أسد الدين شيركوه رئيسا لوزراء مصر.

يبرز هنا مرة أخرى الموت بوصفه عنصرا حاسما في تاريخ مصر، تماما كما حدث لصالح محمد علي بعدها بستة قرون؛ إذ سرعان ما مات أسد الدين شيركوه بعد أن تناول وجبة دسمة وكبيرة لم يستطع هضمها، فخلا كرسي رئاسة الوزراء، أو مركز السلطة الحقيقي في البلاد، فتم اختيار صلاح الدين رئيسا للوزراء بدلا منه، ويقال إن البعض أوعز بهذا للخليفة اعتقادا منهم أنه لا يزال شابا في العشرينات من عمره، وبالتالي يمكن أن يؤمن شره ويستمال، لضعف خبرته، ولكنهم تناسوا أن هذا البطل هو الذي صد الحملات الصليبية عن الإسكندرية عندما كانت محاصرة وخرج منها خروج الأبطال، كما أنه ظل يحارب إلى جوار والده وعمه منذ نعومة أظافره، وخبراته تتراكم سنة بعد سنة، وقد انطبق عليه المثل العربي القائل: ولا تحتقر كيد الضعيف فربما تموت الأَفاعي من سموم العقارب وقد تزامن مع ذلك مزيد من الضعف في دور الخليفة الفاطمي العاضد، خاصة بعدما بدأ السلطان نور الدين يضغط على صلاح الدين من أجل حسم مسألة الخلافة بإعادة مصر لعباءة الخلافة العباسية في العراق واستعادتها إلى أهل السنة، ولكن صلاح الدين كان يخشى حدوث ثورة في البلاد لأن فريقا من المصريين كان قد اعتنق المذهب الشيعي، وعندما نودي في إحدى صلوات الجمعة من على المآذن بالصدفة لصالح الخليفة العباسي، فإن الشعب لم يثر على الإطلاق وتقبل الأمر بهدوء واطمئنان، وبالتالي لم يجد صلاح الدين ما يمنع من النداء للخليفة العباسي المستضيء من وقتها فصاعدا من فوق مآذن أرض الكنانة، ويقال إن بغداد تزينت سبع ليال بسبب هذه الخطوة.

لقد لعب الموت مرة أخرى لصالح صلاح الدين الأيوبي؛ إذ مات الخليفة العاضد عليلا قبيل أن يأتيه خبر انتزاع الملك منه، وقد حرص صلاح الدين على عدم إبلاغه بذلك لأنه كان يحبه ويقدر ضعفه ومرضه. ومن مفارقات القدر أن بعض كتب التاريخ تشير إلى أن المعز لدين الله مؤسس الدولة الفاطمية عندما أتى إلى القاهرة طلب من أحد الفقهاء كتابة مجموعة من الألقاب أو الصفات ليتزين بها ومن بعده خلفاء هذه الدولة، فكان آخر لقب كُتب له هو «العاضد»، فشاء المولى عز وجل أن يكون آخر خليفة فاطمي هو العاضد. وعادت مصر إلى أحضان الخلافة العباسية واستمر صلاح الدين رئيسا للوزراء.

لم يؤثر صغر سن صلاح الدين على نضجه السياسي عند توليه مقاليد الأمور في مصر، فلقد كان حاسما منذ اليوم الأول، واستمال البعض بالمحبة، والبعض الآخر بالعنف، فكانت أولى خطواته هي طرد أغلبية من الموظفين الذين دانوا للوزراء السابقين بالولاء، ووضع في مفاصل الدولة رجاله الذين يثق فيهم، كما أنه رفع عن كاهل المصريين بعض الضغوط المالية، فتغنى الشعراء بهذا الاختيار، وكتبوا للقائد الجديد أبياتا من الشعر يمتدحونه؛ منها:

رب كما ملكتها يوسف الـ صديق من أولاد يعقوب يملكها في عصرنا يوسف الـ صادق من أولاد أيــــوب بينما دعا له شاعر آخر بأبيات جاء فيها:

هنيئا لمصر حوز يوسف ملكها بأمر من الرحمن كان موقوتا ما كان فيها قتل يوسف شاورا يماثل إلا قتل داود جالوتا واقع الأمر أن العلاقات بين صلاح الدين الأيوبي ونور الدين محمود كانت في توتر منذ أن دانت مصر للأول، فلقد بدأ صلاح الدين يشعر برغبته في نوع موسع من الحكم الذاتي بعيدا عن نور الدين محمود، ولكنه لم يكن ليخلع نفسه من دولته في هذا التوقيت الدقيق، وقد بدأ نور الدين يدرك ذلك مع مرور الوقت. وحقيقة الأمر، أن صلاح الدين لم يخرج عن طاعة نور الدين محمود بشكل رسمي، ولكنه تفادى اللقاء معه كلما طُلب منه ذلك، متعللا كل مرة بأسباب مختلفة، ولكن الموت تدخل مرة أخرى ليُخرج البطل نور الدين محمود من المعادلة السياسية لصالح صلاح الدين الأيوبي، كما لو أن القدر يريد أن ينقل الشارة من بطل استهلكته المعارك والأزمنة إلى شاب يافع يستطيع أن يحمل اللواء ليواجه الخطر الصليبي، دون أن تدور رحى الحرب بينهما فتضعف جبهة المسلمين. فلقد فتح موت نور الدين الطريق أمام صلاح الدين لإعلان نفسه سلطانا على مصر، فاستمال مملكة نور الدين محمود معه بالكامل، فقد كان يملك القوة العسكرية ومركز القوة الجيوستراتيجي في المعادلة، ممثلا في مصر.

لقد ساعد صلاح الدين على هذه الخطوة إصلاحاته الداخلية التي جعلت مصر تدين له بسرعة شديدة للغاية، فلقد استمال الشعب المصري مباشرة من خلال إلغاء المكوس التي كانت تقدر بقرابة مائة ألف دينار سنويا، كما قام بإصلاحات زراعية واسعة، وعكف على إصلاح الري في مصر. من ناحية أخرى، قام بتصفية الميليشيات التي كانت قائمة في ذلك الوقت من أجل تثبيت أركان الدولة المركزية المصرية، وعلى رأسهم الأرمن والصقالبة، بالإضافة إلى بعض الزنج من العبيد، خاصة الطائفة الأخيرة التي دخل معها في صراع مرير إلى أن قضى عليها، فأصبحت القوة المركزية للقاهرة ولا يحكمها إلا هو، مؤكدا مرة أخرى حقيقة أن من دانت له القاهرة دانت له باقي مصر.

ولعل من أهم قرارات صلاح الدين الأولية قراره بعزل كل قضاة مصر واستبدال قضاة ينتمون للمذهب الشافعي بهم، وهي خطوة أراحت كثيرا من المصريين، فهذا الشعب لم يكن شيعي الهوى في أي وقت من تاريخه، كما أنه اتخذ الخطوات اللازمة من أجل جعل الأزهر الشريف منبرا للعالم السني وليس الشيعي كما كان مقصودا من إنشائه.

تعمدت بعض المصادر التاريخية الإشارة إلى صلاح الدين الأيوبي على أنه اتخذ من الوسائل القهرية أداة للسيطرة على مصر، وأنه كان ديكتاتورا قمعيا، تماما كما يحدث اليوم مع محمد علي لتوصيفه على أنه شخص همجي لا يراعي الحقوق الأساسية للمصري. وتقديري أن هذه محاولات فكرية طائشة لإخضاع التاريخ لمفاهيم عصرنا في محاولة لتطبيق بعض المعايير الدولية على عجلة التاريخ التي هي في عزلة عن واقعها وفي غفلة عن زمنها، فالأوضاع في مصر إبان حكم صلاح الدين لم تكن تسمح بخلق توافق في الآراء مبنى على الشرعية القائمة، فمصر كانت في هذا الوقت في ثورة حقيقية أعمق بكثير من أية ثورات مرت بها منذ الثورة ضد الحكم البيزنطي، فمن الخطأ أن نعتبرها مجرد عملية تغيير حاكم قد خلت من قبله الحكام العوج، فما حدث في مصر في حقيقة الأمر كان دخولها مفترق طرق واضحا.. فما الشرعية الجديدة التي ستُحكم بها مصر؟ هل سيستمر الحكم الشيعي؟ كيف سيستتب الحكم السني مرة أخرى بعد مائتين وستة أعوام من الحكم الفاطمي؟ والأهم من ذلك هو: كيف ستحمي مصر نفسها من براثن الاستعمار الغربي ممثلا في الحملات الصليبية المتتالية؟ وكيف ستحمي نفسها من مجموعات من الخونة باعوا الذمم لصالح الصليبيين ومنهم رؤساء وزراء؟ وفي مثل هذه الظروف، فإن الدول تحتاج لرجل دولة يستطيع أن ينتشلها من هذه المعطيات الخطيرة وحالة التفتت المتعمقة،