من التاريخ: فشل الحروب الصليبية.. وبداية الإصلاح الأوروبي

TT

تابعنا على مدار الأسابيع الماضية سلسلة المقالات الخاصة بالحملات الصليبية على الشام ومصر، والتي استمرت لقرابة قرنين من الزمان، وهي حروب نموذجية تستحق أعين وعقول علماء العلاقات الدولية قبل المؤرخين، فهذه الحروب لم تكن إلا مشروعا استيطانيا لم تخل من قبله المشاريع الاستيطانية، ولكن ما يميزها كان ارتباطها بشعار الصليب، أي المسيحية، والاثنان من هذا المشروع براء، فلو قرأنا العهد الجديد لما وجدنا فيه أي إشارة لا من قريب أو بعيد عن العنف والقوة واستخدام السيف في تحقيق الأهداف الروحية المسيحية، بل إن تعاليم السيد المسيح عليه السلام كانت واضحة، وهذه الحقيقة تضعنا أمام مسؤوليتنا جميعا حتى لا يتحول مثل هذا المشروع الاستعماري التاريخي إلى أداة تعكر صفو العلاقات الدولية اليوم تحت راية «صراع الحضارات»، وهي النظرية التي أتحفظ كثيرا على مضمونها وتسميتها على حد سواء، وفي هذا الإطار فإنني أغامر بطرح بعض الرؤى والأفكار حول هذه الحملات ودورها في التطور الثقافي والفكري الأوروبي على النحو التالي:

أولا: إن هذه الحروب ما هي إلا مشروع استيطاني بحت جرى تغليفه بالصليب ونسجت فحواه على أساس الدين المسيحي ممثلا في البابوات المتتالين، والذين طغى على أغلبهم الرغبة العارمة في الحروب وسفك الدماء بهدف تثبيت مفهوم الأممية المسيحية Christendom التي بدأت تهتز بعدما انفك الرباط الذي أقامه البابا عام 800 بترسيم الإمبراطور شارلمان إمبراطورا رومانيا مقدسا، علما بأن الرجل لم يكن «إمبراطورا» ولا «رومانيا»، كما أنه كان بعيدا كل البعد عن «التقديس»، فهذا المفهوم للأممية المسيحية الناتجة عن زواج الكنيسة والسلطة المدنية ممثلة في الملوك والأمراء والذي كانت الحملات الصليبية إرثه، إنما سقط سقوطا تاما مع فشل هذه الحملات، وبهذا أضير مفهوم الأممية المسيحية أشد ضررا بالهزيمة الصليبية في مصر والشام.

ثانيا: إذا ما كانت الكنيسة قد هدفت لتثبيت أركانها من خلال مفهوم الأممية المسيحية المدعم بالحملات الصليبية، فإن حقيقة الأمر أن التركيبة السياسية داخل الكنيسة في روما كانت خطيرة للغاية لأسباب تتعلق بفساد بعض رجالها سياسيا ودينيا على حد سواء، ولا يوجد اختلاف حقيقي بين البابوية وهي تعلن الحروب الصليبية وديكتاتوريات العالم الثالث عندما يلجأون لاستخدام حجة العدو التقليدي لتوحيد الصف بعدما فشلوا في ذلك بأنفسهم، والأمثلة متعددة، من أبرزها الجنرال «جالتييري» في الأرجنتين الذي بدأ حرب «الفوكلاند» من أجل الظروف السياسية الداخلية وفشله في إدارتها، وواقع الأمر أن نظرية اختلاق العدو لم تكن ناجحة حيث جربتها كثير من الأمم والديكتاتوريات على حد سواء، ولكنهم فشلوا بلا استثناء، فقوة الدولة تبدأ بقوتها الداخلية التي تبرز خارجيا، وليس العكس، وفي كل الأحوال تكون النتيجة غالبا هي الهزيمة العسكرية التي تتبعها الهزيمة السياسية الداخلية، وما أخطر الأخيرة مقارنة بالأولى.

ثالثا: وارتباطا بما سبق، فإن فشل الحملات الصليبية والمشروع البابوي كان له أفضل الآثار الإيجابية على أوروبا وليس البابوية، فلقد مثلت الهزيمة الصليبية بداية حقيقية للفصل بشكل قوي بين الدولة ومؤسساتها من ناحية، والسلطة الروحية ممثلة في بابا الفاتيكان وكنيسته في هذه القارة، كما أنها كانت مقدمة لعملية إصلاح ديني واسعة النطاق بدأ في مطلع القرن السادس عشر واستمر قرابة مائتي عام، فقبلة الحياة التي مثلتها الحملات الصليبية على مصر والشام جاءت بمثابة بداية النهاية للنظام البابوي والكنيسة على ما كانت عليه، كما أن الهزيمة الصليبية جاءت في نفس الوقت كقبلة لحياة المشروع الغربي وتطوره.

رابعا: حقيقة الأمر أن إضعاف كنيسة روما بسبب الحملات الصليبية كان بمثابة فاتحة خير على أوروبا، فالملاحظة الأساسية التي يمكن تكوينها هي الارتباط الزمني بين بداية تحرك عجلة التقدم في أوروبا وإضعاف دور الكنيسة، فلقد جاءت لحظة الانطلاقة الحقيقية لأوروبا بعد تقليم أظافر الكنيسة في روما والدولة الكبرى التابعة لها أو الإمبراطورية الإسبانية من ناحية، وبداية ظهور الدول البروتستانتية أو الدول الكاثوليكية التي انتهجت نهجا سياسيا مستقلا عن البابا في روما رغم بقائها على الملة دون خروجها، وعلى رأسها فرنسا على سبيل المثال.

خامسا: إنه ليس من الصدفة أن تبدأ عملية الإصلاح والانفتاح والتطور التدريجي في الغرب بعد نهاية الحملات الصليبية، فلقد جاءت هذه الظاهرة لأسباب كثيرة على رأسها الاختلاط القوي بالعالم الإسلامي وحضارته، فلقد كان لدى العرب مخزون حضاري ضخم للغاية، ومثلت الحملات الصليبية بوسيلة أو بأخرى أداة اتصال قوية بينه وبين غرب أوروبا التي كانت تترنح تحت وطأة سيطرة الكنيسة والتخلف الفكري خوفا من تسرب الأفكار التي تجعل المواطن المسيحي يشك في قوة الكنيسة وملكوتها على الأرض، كما أن الغربيين أخذوا الكثير من المعارف عن المسلمين، خاصة في مجالات الفلسفة والعلم والمنطق والفلك والطب، وغيرها من العلوم التي كانت مزدهرة في الوقت الذي استمرت فيه دول غرب أوروبا تكفر كل من يخرج بفكرة علمية لا تروق لها، ومثال غاليليو واضح للعيان حتى بعد ثلاثة قرون من نهاية الحملات الصليبية.

سادسا: وضع هذا المشروع الاستيطاني الكثير من الغربيين في حالة تفكر أمام نموذج المؤسسات الحاكمة في العالم الإسلامي، فلقد برز بوضوح أن الحياة الدينية لا تتأثر بعدم وجود مؤسسية وهياكل إسلامية سنية مستقلة تراعي شؤون الدين، ففكرة الثنائية أو التوأمة بين السلطتين السياسية ممثلة في الملوك، والروحية ممثلة في البابا، لم يكن لها مكانها في العالم الجديد الذي بدأ ينسج، أما المؤسسات الدينية، إن وجدت، فكانت تحت رعاية الدولة هي وأفرادها دون أن يكون لها دورها في تسيير شؤون العامة، اللهم إلا باستثناء القضاء، وهو ما حافظ أيضا على التراث الديني دون مشكلة تذكر، بل إن مثال صلاح الدين الأيوبي في مصر الذي قضى على أواصر المذهب الشيعي وأزال مؤسساته واستبدل به المذهب السني الشافعي إنما يعكس مثالا للفصل بين الدولة والدين، وهو ما بدأ يترسخ تدريجيا في النفس الأوروبية إلى أن أصبح القاعدة التي انطلقت منها عملية الإصلاح السياسي.

وأخيرا، رغم السعي للفصل بين البعد المتافيزيقي والتحليل العلمي للتاريخ والسياسة الدولية، فإنني لا أستطيع إلا أن أعترف بأن العالم الإسلامي صمد أمام هذه الحملات وهو مفتت الأواصر، مشتت القوة، وكثيرا ما اقترفت قيادته أرذل أنواع الخيانة، ومع ذلك فالله سبحانه وتعالى جعل هناك مجددا سياسيا للعالم الإسلامي كلما ضاقت به المحن، فكلما ضاق الأفق ظهر أمثال عماد الدين زنكي وابنه نور الدين ثم صلاح الدين الأيوبي، والملاحظة الهامة هنا هي فكرة الاستمرارية والتتابع بين هؤلاء الثلاثة، مما أعطى للمسلمين زخما كبيرا حتى لا ينكسروا، كما أن فيضان النيل أنقذ مصر من حملة لويس التاسع، وغيرها من الأمور الطبيعية التي تعكس العناية الإلهية.