من التاريخ: الفكر والثورة والسياسة في فرنسا

TT

تحتفل فرنسا خلال أيام في 14 يوليو (تموز) الحالي بعيد الثورة الفرنسية، تلك الثورة الشهيرة التي غيرت المجرى السياسي لهذه الدولة، وللقارة الأوروبية، وأوجه الأنظمة السياسية على المستوى الدولي، فهي المحطة الأولى لدراسة التاريخ الأوروبي الحديث.

وهذا الحدث المهم لم يكن في حقيقة الأمر كما تصوره الأفلام والمقالات نتاجا مباشرا لترف أسرة مالكة، أو لجمل منسوبة لملكة مثل ماري أنطوانيت التي ينسب لها قول: «لنجعل الناس تأكل البسكويت» بديلا لرغيف الخبز المختفي من الأسواق، فحقيقة الأمر أن الثورة الفرنسية تمثل محطة تعكس التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تدور في أوروبا وما حولها، ولكنها تركزت في فرنسا بالأخص، وهي نتاج طبيعي لتقويض أساسيات «عصر الحكم المطلق» السائد في أوروبا والدول الأخرى في ذلك الوقت، فهي ثورة على الطبقية، وثورة على الفكر.. إنها لحظة مخاض جماعي بدأت رفضا لنظام قائم وانتهت بنظام أسوأ منه لحقب ممتدة.

ومن سخرية القدر أن فرنسا لم تنل الديمقراطية المنشودة إلا بعد ما يقرب من 82 عاما، وذلك على الرغم من أن الثورة أرست الأساسيات الدستورية والقانونية بأثمان باهظة للغاية دفعها الشعب الفرنسي ومن بعده الشعوب الأوروبية كلها.. والهدف من كل ذلك كان التغيير.

ولكن السؤال الأساسي هو: لماذا اندلعت هذه الثورة من الأساس، لماذا قرر الشعب الفرنسي الثورة؟

تجمع المراجع التاريخية على أن أسباب الثورة الفرنسية كانت متعددة، ويمكن أن نوجز أهمها في النقاط الأساسية التالية:

أولا: لقد شهدت العقود السابقة للثورة الفرنسية ظهور كثير من الأفكار التي أثرت مباشرة في النضوج الفكري الفرنسي بصفة خاصة، وكما تابعنا في المقال السابق، فإن كتابات شخصية مثل روسو كان لها دورها المهم في تقويض دعائم السلطة المطلقة، ولكنه لم يكن وحده في هذا الخندق الفكري، فلقد سبقته مجموعة من المفكرين الذين طالبوا صراحة بضرورة إحداث التغيير المطلوب على المستوى الاجتماعي والسياسي، وعلى رأسهم شخصية مثل فولتير، هذا الكاتب والمفكر والساخر الذي مات قبل اندلاع الثورة بأحد عشر عاما، والذي طالب بالتحرر السياسي والديني ليخرج بلاده من قبضة الملكية المطلقة والكنيسة الكاثوليكية ومؤسساتها، مطالبا بوضع نظام حكم ليبرالي يأخذ في الاعتبار رأي الشعب. ولكن ليبرالية الرجل وقفت بكل قوة أمام الغوغائية التي كان يخشاها، وقد تزامن مع فكر هذا الرجل فكر شخصية أخرى لا تقل أهمية، وهو مونتسكيو Montesquieu» الذي يمثل كتابه «روح القوانين» إحدى أهم الركائز الفكرية التي ساهمت في تطوير النظرية السياسية، خاصة نظريته الشهيرة حول الفصل بين السلطات؛ حيث كان يرى أن أفضل أنظمة الحكم هي التي تحظى فيها كل سلطة بقدر من القوة والحقوق حتى لا تجور على السلطة الأخرى، بحيث يمكن أن تتوازن السلطات، مؤكدا دائما أن الأمة هي مصدر السلطات، كاسرا الفكر التقليدي للسلطة المطلقة.

ثانيا: تمثل المتغيرات الاقتصادية في تقديري العامل الحاسم الذي أدى للثورة الفرنسية، فلقد كان النظام الاقتصادي والاجتماعي الفرنسي خارج نطاق المتغيرات السياسية والاقتصادية التي تحيط بفرنسا وأوروبا، فالنظام الفرنسي كان مرتبطا بشكل كبير بالتركيبة الاجتماعية والسياسية للقرون الوسطي، ولم يأخذ في الاعتبار التطورات الاقتصادية الدولية، ففكرة تسيد طبقة النبلاء من ملاك الأراضي ومعهم الكنيسة وممتلكاتها، أصبحت أمرا من الماضي بعدما ظهرت طبقة اقتصادية جديدة متمثلة في التجار والمصنعين أو البرجوازية الجديدة التي كانت تريد أن تشق طريقها في السلم الاجتماعي والسياسي. كما أن فكرة تميز هذه الطبقات وعدم دفعها الضرائب وحصولها على أعلى درجات السلم الاجتماعي كان حتما ليتغير، وقد ساعد على ذلك بشكل كبير تيار فكري معروف في كتب التاريخ بالـ«الطبعيين»Physiocrats ، وهم الوجه الثاني للحركة الليبرالية السياسية، وعلى رأسهم المفكر الاقتصادي آدم سميت الذي طالب بسياسية ليبرالية في التجارة الدولية، وتحجيم دور الدولة في الحركة الاقتصادية من خلال سياسية الـ«Laissez Faire»، أو بمعنى أدق «آليات السوق الحر»، وهو ما كان يُتوقع معه إضعاف سلطة الدولة المركزية. وقد قاد هذا الفريق الفكري التوجه العام للثورة الفرنسية في ذلك الوقت من خلال المطالبة بالحد من دور تدخل الدولة وكسر فكر «المركنتيلية» والدعوة لتحرير التجارة الدولية.

ثالثا: لقد تجمعت كل قوى التغيير وكانت في انتظار العامل الأساسي لتتفجر بعدما اختمرت، فكان السبب الأساسي في إشعال فتيل الثورة هو الأزمة المالية والظروف المعيشية الصعبة التي بدأ الشعب الفرنسي يعاني منها، فلقد كانت الدولة تعاني من عجز مزمن في الميزانية بسبب الظروف السياسة والإنفاق المتوسع على سياستها الخارجية بسبب دعمها الثورة الأميركية ضد العدو المشترك إنجلترا. كما أن الدولة كانت تعاني من نقص شديد في الموارد بسبب إعفاء أغنى طبقتين في المجتمع من الضرائب.. ناهيك بالظروف الاقتصادية الصعبة التي ارتبطت بأزمة الخبز، حيث تضاعف سعره بسبب ضعف الحصاد، مما أدى إلى اضطرابات واسعة النطاق في العاصمة باريس، ازدادت سوءا بعدما عزل الملك وزير ماليته نيكير المحبوب في الشارع الفرنسي والمنحاز للطبقات الفقيرة.

لقد كان من الممكن أن تمر العاصفة الثورية بإدخال بعض المتغيرات لولا سوء إدارة الملك وعدم قدرته على المناورة، فكل كتب التاريخ والوثائق المتاحة تتفق على أن الملك لويس السادس عشر الذي اعتلى العرش في سن مبكر للغاية، ولم يكن بالقائد القوى الذي يمكن أن يقود الملكية في أزمتها هذه، كان شخصية خاملة، وضعيفة، وخجولة ومترددة، كما أن زواجه من ابنة الإمبراطور النمساوي، ماري أنطوانيت، لم يكن إضافة له، بل إنها كانت مثارا للهمز واللمز في الأوساط الشعبية بسبب حياة البذخ التي كانت تعيشها، وتأخرها في إنجاب ولي العهد، وهو أمر كان يرجع في حقيقة الأمر لزوجها الملك الذي كانت له مشكلاته في هذا المجال.

إزاء الأزمة الاقتصادية لم يكن أمام الملك الضعيف إلا الرجوع لطبقة النبلاء والكنيسة لمطالبتهم بدفع الضرائب لإنقاذ الوضع، ولكنهما رفضا هذه الخطوة غير مدركين أن النار السياسية ستحرق الأخضر واليابس، وهو ما جاء عندما اضطر الملك لاستدعاء «الجمعية العامة للطبقات» Estates Generales أو البرلمان المكون للطبقات الاجتماعية الثلاث (النبلاء والكنيسة وعامة الشعب). وسرعان ما فرضت الفئة الثالثة سيطرتها على مجريات الأمور، وهذه كانت البداية الحقيقية للثورة الفرنسية، فلقد بدأت عملية التذمر من سياسات الملك، وعندما أدرك الملك أن عقد هذه الجمعية كان خطأ سياسيا فادحا كان السيف قد سبق العذل، فعندما أغلق الملك أبواب الجمعية، ذهب أصحاب هذه الفئة إلى ملعب مجاور وتبنوا ما هو معروف بـ«قسم ملعب التنس»، وهو ألا ينفضوا بصفتهم جمعية إلا بعدما يعطوا الدولة الفرنسية دستورا حديثا.

عند هذا الحد بدأت الأمور تخرج عن سيطرة الملك، فسرعان ما ولدت «الجمعية الوطنية» أو البرلمان ممثلا عن الطبقات العامة في البلاد، وبدأ يأخذ المقدرات السياسية في أيديه، وعندما انتشرت الإشاعات في باريس بأن الملك يجهز الجيش للتدخل وإخماد هذه الحركة السياسية، توجه العامة في يوم 14 يوليو إلى قلعة «الباستيل» التي كانت رمزا للسجن والسلطة المطلقة، بهدف البحث عن بارود لاستخدامه في التصدي لجيش الملك، مما أسفر عن تدمير المكان وإخراج السجناء. وبهذه الخطوة بدأت الثورة تأخذ شكلها الطبيعي، وبدأ عنصر الدم يلعب دوره في المعادلة السياسية الفرنسية. ولكن الأمور تفاقمت إثر إصدار الجمعية إعلان الحقوق الأساسية للإنسان والمواطن، الذي يعد صكّا للحريات الأساسية. وإزاء كل هذه التحركات ظل الملك ساكنا غير قادر على احتواء الأمر أو حتى تهدئة الأوضاع ببعض التنازلات.

لقد انفتحت الساحة الفرنسية لكل الطاقات الغاضبة في البلاد، فلقد خرجت العامة لتحكم البلاد، فأصبحت السياسية الفرنسية في حالة فوضي عارمة، ولم يستطع أي طرف من الثوريين السيطرة على مقاليد الأمور، إلى الحد الذي دفع بجمع من النساء للهجوم على قصر «فيرساي» للمطالبة بتدخل الملك لحل أزمة الخبز في البلاد. وسرعان ما تحول العامة إلى مهاجمة القصر وكادوا يفتكون بالملكة لولا هروب الأسرة بالكامل، ولكن الدماء بدأت تسيل في الشوارع، وأصبحت الجمعية الوطنية هي المتحكم الحقيقي في شؤون البلاد، ولكنها لم تكن على كلمة رجل واحد، بل كانت هناك آراء مختلفة داخلها؛ منها الملكي، والمتشدد، والثوري، والديني.. إلخ، كل له رأيه، خاصة بعد نزول طبقة العمال والفئات التجارية المتوسطة للشوارع، وأخذت تسبح في بحور من دماء المدافعين عن الملكية، بينما كانت الدولة كلها تستعد لهجوم الجيش النمساوي والبروسي على البلاد.

وإزاء هذه الظروف الصعبة، بدأت طائفة يطلق عليها «اليعاقبة» Jacobins تبسط سيطرتها على مقاليد الحكم داخل الجمعية، وعندما فشل الملك لويس السادس عشر في الهروب إلى النمسا التي كانت قد أعلنت الحرب على فرنسا بمشاركة من دولة بروسيا، بدأت الخطوات العاجلة لمحاكمته، حيث تقرر إعدامه، ثم تلته زوجته بعد ذلك.

وهكذا تخلص الفرنسيون من ملكهم والمؤسسة الحاكمة دون أن يتفقوا على الخطوة التالية، وأصبحت فرنسا في مهب الريح.